كتبت ثريا السيد علي. مسافات أرضية. قصة قصيرة

لآفاق حرة

مسافات أرضية

قصة : ثريا السيد علي. مصر

فى منزلها البلوري الفخم ، جلست سمية تقرأ رسائلهما المتبادلة على الشاشة الكوكبية الكبيرة ، وهى تشرب القهوة ببطء ومتعة ، وتبتسم كلما تذكرت انبهارها بذكائه ، ودهشته من دقة وصفها للحياة على كوكب الأرض قديماً ، وقصة حبهما النادرة ، والمستحيلة على كواكب مختلفة ، تحولت إلى الضحك بصوت عالٍ حين رأته يظهر على الشاشة الكوكبية الزجاجية التى تملأ جدارًا كاملًا من الصالة المتسعة ، ويقطع تأملاتها بضحكاته الرنانة المتواصلة ويشير إليها برؤيته ، وهو يمتطي حصاناً أبيض جميلاً ، ويجري به مسرعاً كأنه يشق الطريق بين أشجار التفاح الكثيفة ، ويطير به عالياً ، ثم فجأة يقع من فوق الحصان على جنبه ، صارخاً متألماً ، من هول المشهد ، وقفت سمية تصرخ أمام الشاشة الكوكبية ، وتتألم مثله ، هدأ وابتسم لها ، فبدأت تصمت وتسكن ، وترتاح قليلاً قليلاً حين وقف سليما على قدميه ، تشفق عليه تارة ، وتحبه كثيراً ، تثبت الشاشة الكوكبية عليه، تتعلق بصورته وكأنها ملاذها الأخير تقبل صورته ، وشفتيه بشفتيها تندمج من خلال زجاج الشاشة الكوكبية تتكهرب شفتيها ، تبتعد بسرعة تبكي بكاءاً متشنجاً مريراً ، وقد ثبتت لحظه طيرانه بالحصان ، إلى أن أزعجها رنين الموبايل ، وكأن اسمه وصورته المتحركه تشير إليها ، وتبتسم لها تلك الابتسامة الساحرة ، اندهشت من تلك القدرة التى لديه ليفعل كل تلك الأشياء فى نفس الوقت ، وأن يبتسم تلك الابتسامة البهية ، و ينظر لها ، وهى تتعجب من توارد أفكارهما فى نفس اللحظة ، تواصل رنين الموبايل ، ردت وهى تحاول التماسك ، بنبرات صوتها عبر الهاتف صار مضغوطاً حزيناً وكأنه قادم من كوكب ما ، صوت نائم متقطع مقتول.

– حبيبي .
سألها عن حالها وعينيها المتورمتين من خلال صورتها فى الموبايل وفى الشاشة الكوكبية.
بصوتها المتهدج أخبرته، وكأنها تقطع الكلمات من لسانها:
– الحمد لله عندى برد، انت عامل اية؟ كويس؟
جاء صوته بحيوية:
– الحمد لله لسه واقع من فوق الحصان شوفتيني ؟، صح أنا شفتك أنا كمان، أنا كويس.
كان فى صوتها رجاء وأمل وتساؤل .
– الحمد لله دايمًا انت كويس بجد؟ طمنني !
كان صوتها باكياً وطفولياً وصادقاً:
– قوللى إنك بخير وإنك سعيد، وإنك عارف تعيش من غير ماتفكر فيا، وإنى ما بمرش على خيالك ولو للحظة واحدة ، وإنك اتصلت دلوقتى بس عشان تتأكد إن كنت موجودة والا ميتة، وإن اللى بيني وبينك مجرد شفقة، وإنى مفروض أبعد قوللى ياحبيبى كل ده ، قوللى أكتر من ده قوللى إن حياتي صعبانة عليك ،ووحدتي فى كوكب طويل عريض، وإن حياتك كاملة، وأنك مش محتاجللي، عندك كل حاجة فى كوكبك ،قوللى ياسامي: إن المسافات بيننا بعيدة ومستحيلة وتحتاج إلى سنين ضوئية قوللى أرجوك، أحذفني من على شاشتك الكوكبية، لانى مش قادرة أعمل أى حاجة، قوللى إن عمرنا ماهنتقابل .

كان بكاؤها مثيراً حقاً للشفقة!!
– سمية فى إية؟ ليه ده كله حبيبتي ؟
– قوللى ياسامي ان انت كويس، علشان أعرف أعيش من غير مافكر فيك، قوللي حتى بالكذب.
الصوت انقطع، ويبدو أن سامي لم يستطع التفوه بكلمة واحدة لأنها أثناء حديثها المتشنج والمتهور قطعت بيدها الاتصال، وكانت تردد مثل مجنونة ما وهى قابضة على الموبايل بكلتا يديها وكأنها اسطوانة مكررة منسية:

– قوللي إنك بخير، وإنك سعيد ،وإنك عارف تعيش من غير ماتفكر فيا، وإنى ما بمرش على خيالك ولو للحظة واحدة ، قوللي إن عمرنا ماهنتقابل.

كان بكاؤها مثيرًا حقاً لدرجة أنها لم تستمع إلى رنين الموبايل الذى يرن باستمرار ودون توقف، بكاء مستمر لدرجة أنها نامت من خلال بكائها وعينيها المتورمتين، صارت تهمس بصوت خافت مبحوح:
– عرفت ياحبيبي اللى انا فيه ده اسمه ايه؟ توحش جزء من اللى بتعمله الوحدة والحزن ياحبيبي، أنا نفسى مش قادرة أكمل اى حاجة ،مش عارفة أركز، سامحنى ياسامي، كل لحظة بادعيلك فيها وبادعى لنفسى اني انسى حتى لو يجيللى زهايمر أنسى صوتك وكلامك واسمك وصورتك ورسايلك وصور حياتك وكل كوكبك، أنا بحبك أوي ياسامي
رنين الموبايل نبهها على وجوده على كنبة الأنترية مقلوباً.
كاد سامى يجن وخصوصاً أن المسافة بينهما بعيدة، تحتاج سنين ضوئية، هو فى كوكب المريخ، وهى فى كوكب الزهرة، وليست هناك أى أماكن متاحة على السفن الفضائية، وكان صوتها يتردد كأنه نداء آلى يستغيث.
– – قوللي إنك بخير ،وإنك سعيد، وإنك عارف تعيش ، قوللي إن عمرنا ماهنتقابل.

– سامي ..سامي.. سامي.. تردد الاسم فقط، ليس بغرض معين قدر حبها فى حروفه الأربعة:
” سامي”
كان بكاؤها مثيراً حقاً لدرجة لم تسمع رنين الموبايل الذى كان يرن باستمرار ودون توقف ،حين انتبهت لصوته المزعج ،أمسكته وألقته على الأرض مكسوراً محطماً ،تناثر لذرات زجاجية بللورية صغيرة فوسفورية ، لتعود لانكماشها فى وضع جنين لتكمل نومها أو كابوسها مقتولة ، لم يستطع سامي إلاتسليط كاميرته العبقرية ذات القدرات المتعددة على كوكب الزهرة، وظهر منزلها الزجاجى البلوري عبر ترددات قوية بعيداً بعيداً.. بعيداً ..بعيداً ، وكان لا ينبعث من المنزل إلا ترددات تترجم كلمات تتفوه بها، استمع إليها وإلى آخر كلماتها وندائها المتقطع باسمه
إلى أن ترددت أصوات أنفاسها المنتظمة التى توضح سكونها وعند هذا الحد انسابت
دموعه ببطء شديد.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!