إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
الروائية والصحفية سماح عادل من مصر أعدّت لنا مقابلات مع كُتّاب عرب تحدّثوا من زاويتهم حول “ماذا يحدث غزة”؟ ومع الكاتبة نبيهة العيسي من تونس ورؤيتها:
صحوة شعبية.. ما نراه جزء بسيط من وجع الفلسطيني
نبيهة العيسي/تونس:
القضيّة الفلسطينية شأن عربيّ بعد السّابع من أكتوبر
مظاهر الدّعم وحدوده
إنّ مواجهة بعض المواقف الصّادمة من شأنها أن تعيد إلى أذهاننا بعض الأسئلة الوجوديّة من قبيل:
-هل أنا أنا؟ هل أنا ما أتصوّره حقّا عن نفسي أم أنّني تصوّر مخالف أتعرّف عليه في لحظة مواجهة مع الذّات؟
ثمّ: هل أنا غيري؟ أو إلى أيّ مدى يمثّلني ذلك الغير؟ إلى أيّ حدّ أنتمي إليه؟ وما هي الظّروف التي يصبح فيها ذلك الغير أنا؟
مثل هذه الأسئلة تعود إلى أذهاننا ونحن نلاحظ ردّ فعل العرب تجاه القضيّة الفلسطينيّة، وقد عادت إلى سطح الخطاب وكأنّها كانت ساكنة في رماد الوقت تنتظر شرارة لتتقد شعلتها ويستعر لهيبها.
فلماذا تجد الشّعوب العربيّة اليوم نفسها مدفوعة إلى التّفاعل مع القضيّة الفلسطينيّة؟
وهل هو الانتماء القوميّ ورابط العروبة؟ أم الانتماء الدينيّ ورابط الإسلام؟ أم كلاهما معا؟ وأين كانا منذ سنوات خلت؟
إنّ التّضامن كلمة تستدعي المساندة والتأييد ثمّ المشاركة والتعاون. وقد تفاعلت الشعوب العربيّة إيجابيّا مع القضيّة الفلسطينيّة بعد السّابع من أكتوبر لأسباب عديدة منها:
– ما أثارته هذه الحرب في نفوس الكثيرين من شعور مشترك بالاحتقار والقهر. تلك المشاعر يستبطنها المواطن العربي وها هي تلاحقه اليوم في يقظته ومنامة. فمشاهد القصف والدّمار تلاحقه داخل بيته وصراخ الأطفال يصمّ أذنيه كلّما فتح وسيلة إعلامية.
– ثم تجاهل المجتمع الدّولي لغطرسة الكيان الصّهيوني والسّماح له بالتمادي في قتل الأبرياء باسم الدفاع عن النفس.
وقد كانت لهذا التفاعل أشكال عديدة بعضها:
– تعبيري انفعاليّ: تجلّى في خروج الناس في كثير من البلاد العربيّة إلى الشّارع ومطالبتهم بإعادة الأرض إلى أصحابها.
– تلك المسيرات تمّ دعمها بمدّ تضامنيّ ومساعدات عينيّة اتجهت نحو قطاع غزّة المحاصر من تونس ومصر والمغرب وغيرها من البلاد العربيّة.
– وللكلمة الحرّة أثر واضح في هذه المساندة سواء كان ذلك في الخطاب الإعلامي الذي كشف للرأي العام عن الوجه الآخر للحقيقة ونذكر على سبيل المثال عمل الناشطة المصرية “رحمة زين”. أو في خطاب بعض المشاهير كـ “باسم يوسف” نجم الكوميديا الساخرة في لقائه مع المذيع البريطاني. تلك الحلقة حققت أربعة مليون مشاهدة وفتّحت العيون على وجه جديد للحقيقة. أو في خطاب بعض اللاّعبين كـ “أنس جابر” و”نصير مزراوي” و”كريم بنزيما”.
كلّ هؤلاء يعتبرون رموزا ويحظون بالمتابعة والإعجاب لذلك فإنّ تأثيرهم في الرأي العام يكون بليغا. فأن ترى بائع خضار في تونس يصفف غلاله على شكل علم فلسطينيّ أو مجموعة من الشباب في مصر يرددون أغنية “أنا دمي فلسطيني “في حضور إسرائيليين أمر يجعلك تعتقد أنّ المواطن العربي قد استيقظ في أناه ذلك الآخر وهو الذي طالما اتّهم بأنه أصمّ، أخرس.
ولأنّ التعاون يفترض المشاركة فقد آن أن نعترف أنّنا نحن العرب قد أفدنا أيضا مما يحدث في غزّة:
فلولا تلك المجازر والصّمت المهين لرؤساء الدّول العربية ما كنّا لنعي الاحتلال الخفيّ الذي نعيشه ولولا صمت الدول الغربيّة ومساندتها للكيان الصهيوني لما أدركنا نسبيّة القيم التي كنا نتصوّر أنّها كليّة كقيم حقوق الإنسان ولما فهمنا أن القانون الدولي لا يعني العدالة وأنّ المقاومة ليست إرهابا.
هذا الوعي بالخطاب العنصري للدول الغربيّة جعل الشعوب العربية تتمرّد وتتحرّر من مشاعر الخوف فتكسّر الصورة النمطيّة للهزيمة السّرمديّة وتخرج من دائرة الحياد المعطلة للفعل لتستعيد قيمة الانتماء إلى الأرض.
لكن إلى أيّ مدى كان هذا الوعي كافيا للتأثير في مسار الأحداث؟
ما نعلمه جميعا أنّ النّوايا الحسنة لا تكفي وحدها لتغيير العالم وأنّ الإدراك بمفرده ولو كان موصولا بالرغبة في الفعل يبقى منقوصا في غياب القدرة عليه.
في حالتنا الراهنة لا أتصوّر أنّ هذه الأفعال ستبلغ غايتها ما دمنا لا نمتلك آليات الخطاب الكافية لتبليغ أصواتنا. نحن نستهلك هذه الوسائل ولسنا من صنعها. فماذا تفعل قوّة الثقافة أمام ثقافة القوّة؟ وماذا تستطيع قوّة المنطق أمام منطق القوّة؟ ألسنا محاصرين إعلاميّا داخل هذه الوسائط الافتراضيّة؟ ألا تحذف منشوراتنا بسبب كلمات تعتبرها رقابتهم محظورة حتى صرنا نتحايل في إخراجها؟ ألم تعتمد هذه الوسائط في نشر الأكاذيب على ألسنة المؤثّرين؟ ورؤساء الدول ثمّ إذا افتضح أمرها أبقوا عليها ورفضوا محوها؟ ألا تصبح الكذبة إذا صدّقها الجميع حقيقة؟ (حكاية قطع جنود حماس لرؤوس الأطفال).
ثمّ ماذا بإمكان صحفيينا الذين يعملون في قنوات أجنبيّة أن يضيفوا؟ ألم يضطر الإعلامي التونسي “بسّام البناني” إلى الاستقالة من قناة ال “ب ب س” البريطانيّة بسبب الضغوطات المسلّطة عليه.
ولم تقف العراقيل عند الحدّ الثقافي الإعلامي. فقد سدّت المعابر أمام شاحنات المساعدات الإنسانية. هذا الحصار الاقتصادي فرضته قوى صلبة سياسيّا. فإلى أيّ حدّ يمكن أن تصمد سلطة الثقافة الليّنة في وجه هذه القوى؟
ثمّ هل هي كافية في مواجهة وعي مضاد؟
وعي يجعل الفرد سجين ذاته ورغباته. ذلك أنّ من هاجر إلى الغرب لتحقيق مصلحة ما، لن يخاطر بها. وأيّ فعل مهما كان غريبا أو غير أخلاقيّ سيجد له مبرّرا وإن كان مزيّفا.
بعض النّخب المثقفة تورطت أيضا في هذا المستنقع الصّهيوني وجاهرت بمساندتها لإسرائيل بتعليلات مختلفة ك “الطاهر بن جلون” و” ياسمينة خضراء”.
هكذا حوّل إنسان ما بعد الحداثة القيم إلى أشباح يعتقد فيها بحسب خدمتها لمصالحه. واستقل بنفسه عن الجسد الإنساني متقوقعا في هويّات ضيّقة لا يجمع بينها غير الصراع. إنّه الوجه القبيح للتقدّم الذي جعل الإنسان مغتربا عبدا لغاياته، غير مبال بنتائج أعماله. ورغم كل ادعاءات العولمة بإنشاء علاقات تواصل بين الشّعوب، نجد أنفسنا نعاني نقصا في الاندماج عاجزين عن خلق علاقات أفقيّة مجدية وبالتالي عاجزين عن مواجهة القضايا المصيرية التي تواجه الإنسانية.