إضاءة على “شوارع في متاهة الحرية”

لافاق حرة

**إضاءاتٌ على الأدبِ التونسي:**

*”شوارعُ في متاهةِ الحريَّة: سفرُ الروحِ بين دروبِ الوجعِ وأزقّةِ التمرّد”*

قراءةٌ في مجموعةِ *شوارع* القصصيةِ للكاتبةِ التونسيةِ نورةَ عبيد (1)٣

*شارعُ الحرية* و *شارعُ الباجي قائد السّبسي* نموذجاً

تتأرجحُ نورةُ عبيدٌ على حافةِ التيه، تهيمُ روحُها في حواري الشّوارعِ المتعرجة، امرأةٌ عاشقةٌ للسفر، متمردةٌ على الصّورِ النمطيةِ المتحجّرةِ للحياة، ت. تَنقُشُ بحروفِها سجلاتِ الوَجَعِ والمداد، لا تكتبُ إلا بمدادٍ من الدمِ ورحيقِ قلبِها الذي يقطرُ وجعاً. في كلِّ منعطف، تتركُ بصمةَ حزنِها، وفي كلِّ خطوة، تتبعثرُ قطعاً من روحِها المرهقة، باحثةً عن معنىً جديدٍ في كلِّ زاويةٍ مظلمة، في كلِّ شارعٍ حيثُ تتداخلُ روحُها مع أرواحِ أولئك المهمشينَ الذين نَسَتْهُم السلطةُ. تروي حكايةَ عشقِها للحريةِ والتجوال. نورة، مثل طائرٍ جريح، تحلّقُ عالياً فوقَ أحلامِها، وتنسجُ من وجعِها قصصاً تُروى للأجيال، قصصاً تُحاكي ثورتَها الدائمةَ ضدَّ قيودِ الواقعِ ورتابةِ الأيام.

ضجيجُ الحواري والشوارعِ والأزقةِ التي اقتحمتها وتجولتْ في خباياها نورةُ عبيدٌ إنما هو ضجيجٌ يسكنُنا، يروي ذواتِنا بكلِّ تناقضاتها. فبينما تهيمُ نورةُ في زوايا تلك الشوارع، يترددُ صدى خطواتِها في نفوسِنا، ويعكسُ ضجيجُ تلك الحواري أصواتَ أحلامِنا وآلامِنا المدفونة. هذا الضجيجُ ليس مجردَ صوتٍ يعبرُ الزمنَ والمكان، بل هو أنينُ أرواحِنا المتعطشةِ للحريةِ والفكاكِ من قيودِ الواقع. إنه صوتُ الثورةِ الداخليةِ التي تجتاحُنا، والحنينُ إلى عالمٍ نقيضٍ لما نعيشه. مع كلِّ خطوةٍ تخطوها نورةُ، يعبرُ الضجيجُ عن ذواتِنا الممزقة، ويكشفُ عن عمقِ معاناتِنا وآمالِنا المؤجلة. هو صوتُ الإنسانِ فينا، الذي يبحثُ بلا كللٍ عن ذاتِه الحقيقيةِ وسطَ زحمةِ الأيامِ ورتابةِ الحياة.

تلكَ هي الشّوارعُ التي وصفتها نورةُ عبيدٌ في مجموعتها القصصية الجديدةِ بعنوان “شوارع” الصادرةِ عن دارِ زينب للنشرِ بتونس 2024 في طبعةٍ أولى.

عندما تنهي من قراءةِ “شوارع”، ينتابُك شُعورٌ بأنها فعلاً مرايا لأرواحِنا، متعرٍّجةٌ ومظلمةٌ أحياناً، لكنها تحملُ في طيّاتِها أملًا بالوصولِ إلى نورِ الحرية. هي مشاهدُ لأحلامِنا الممزّقةِ وصراعاتِنا اليوميَّة، هي السّاحةُ التي نواجهُ فيها واقعَنا ونبحثُ من خلالها عن هويّتنا الضائعة. كلُّ حارةٍ، كلُّ زاوية، تحملُ جزءاً من قصّتي وقصّتكم، جزءاً من آلامِنا وآمالِنا. ستلمحُ ذلك التّداخلُ العميقُ بين تجاربِ القاصّةِ الشٍّخصيةِ وتجاربِ من حولها، وستدركُ أن الشّوارعَ ليست مجرّدَ مساحاتٍ ماديّة، بل هي فضاءاتٌ تحملُ روحَ الإنسانِ وتناقضاتِه.

في مجموعةِ “شوارع”، تتحوّلُ الشّوارعُ إلى ميدانٍ لاستكشافِ التّناقضاتِ الاجتماعيةِ والسٍّياسيةِ والثّقافيةِ في المجتمعِ التونسي. من خلالِ التّركيزِ على شوارعَ بعينها مثلَ شارعِ الحريّة وشارعِ الباجي قائد السبسي، تُبرزُ عبيدٌ تعقيداتِ الحياةِ اليوميةِ وتفاعلاتِها مع قضايا كبرى كالحريّة، الفقر، والسّلطة.

شارعُ الحريّة، على سبيل المثال، يُصبحُ فضاءً تتشابكُ فيه الحريّةُ المزعومةُ مع ممارساتِ القمعِ والفساد. تَبرُزُ التّناقضاتُ بين الاسمِ والمضمونِ بوضوح، حين يمتزجُ الصراعُ اليوميُّ للبقاءِ مع مشاهدِ الفقر لتَكشِفَ عن الفجوةِ الطبقيةِ وتناقضاتِ الجمالِ الظاهريِّ مع الواقعِ القاسي.

ومن ناحيةٍ أخرى، يصبحُ شارعُ الباجي قائد السّبسي مسرحاً للسّردِ التاريخيِّ والسياسي، وحافزاً لمساءلةِ هذه الشّخصيةِ التّاريخيةِ وتأثيرِها على المجتمعِ من خلالِ الحوارِ الدّائرِ بين الراويةِ وزوجِها، والذي يكشفُ عن رؤىً متباينةٍ حول السياسةِ والسلطة. هذا الحوارُ يعكسُ التوتّراتِ بين الأملِ في التغييرِ واليأسِ من الواقعِ السياسي، ليَعرِضَ صورةً معقٍدةً وعميقةً للظّروفِ السياسيةِ والاجتماعيةِ لتونسَ ما بعدَ الثورة.
تُبرِزُ نورةُ عبيدٌ من خلالِ هذه الشوارع،القدرةَ الفائقةَ للأدبِ على تقديمِ نقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ متجذّر، مستندةً إلى تفاصيلِ الحياةِ اليوميّةِ ومواقفِ الشّخصياتِ المتنوّعة. تجمعُ عبيد بين السّردِ الأدبيِّ والتأمّلِ الفلسفيِّ لتقديمِ صورةٍ شاملةٍ وعميقةٍ عن المجتمعِ التونسي، مما يجعلُ من دراسةِ رمزيةِ هذه الشوارعِ مدخلاً لفهمٍ أعمقَ للتناقضاتِ التي تعصفُ بهذا المجتمع.

**ألوانُ الحريةِ على جدرانِ القهر أو القبح في زمن الكورونا : رمزيةُ شارعِ الحرية**

*الدّولةُ في مواجهةِ المجتمع*

شارعُ الحريةِ في قصةِ نورةَ عبيدٍ ليسَ مجرّدَ موقعٍ جغرافيّ، بل هو فضاءٌ يحملُ دلالاتٍ ورموزاً تتجاوزُ أبعادهُ المادية. يُمثّلُ الشارعُ مشهداً مُركّباً للواقعِ الاجتماعيِّ والسّياسيِّ والنفسيِّ، تتشابكُ فيهِ الحريّةُ مع القمعِ، والنظافةُ مع القذارةِ، والنّظامُ مع الفوضى.

شارعُ الحريّةِ، باسمهِ الدالِّ، يوحي بمكانٍ يتنفّسُ فيهِ الناسُ الحريةَ، إلا أنَّ الأحداثَ التي تدورُ فيهِ تكشفُ عن تناقضاتٍ صارخة: شارعٌ مزدحمٌ بالمرضى والمحتاجين، يسودهُ الشّعورُ بالضّيقِ والانزعاجِ، ممّا يتعارضُ مع مفهومِ الحرية.

تستخدمُ نورةُ عبيد، في قصّتها “شارعُ الحريّة”، مشهداً يومياً عابراً تعرضَ فيه عمقَ التناقضاتِ التي تسكنُ المجتمعَ. تنتصبُ الحاويةُ الخضراءُ، التي جُلبت من إيطاليا، شامخةً في قلبِ شارعِ الحرية، رمزاً للتّناقضِ بين الاسمِ والمحتوى. ففي بلدٍ يُعاني من الفسادِ والبطالةِ والفقر، تُصبحُ الحريّةُ مجرّدَ اسمٍ لشارعٍ، بينما حقيقتهُ بشعةٌ بشاعةِ العُفونةِ المتسرّبةِ من حاويةِ فضلاتٍ.

تُحيلُ الحاويةُ التي يتجمٍعُ حولها الناسُ، على الوضعِ السّياسيِّ المتأزّمِ في البلاد. يتعاملونَ مع الحاويةِ كمرآةٍ لمشاكلهم اليوميةِ، فيلقي كلُّ فردٍ فَضلاتِهِ دونَ اعتبارٍ للآخرين، مما يخلقُ حالةً من الفوضى والانفلات. تسعى الشرطةُ التي تأتي للتحقيق، إلى الحفاظِ على النّظام و الأمن فقط، دونَ أن تهتمَ بحلِّ المعضِلات الحقيقيّة التي تقُضُّ مضاجِع النّاس.
هكذا تستعرضُ السّلطةُ قوّتها وجبروتها عبر تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ الصّغيرة. ففي كتابه *المراقبةُ والعقاب*، يشيرُ ميشالُ فوكو إلى الكيفيةِ التي تسعى بها السلطةُ إلى التّحكمِ في الأفرادِ من خلال مراقبةِ سلوكهم اليوميِّ ومعاقبتهم عند الضرورة (2). ويُظهِرُ مشهدُ تدخّلِ الشّرطةِ بالقوّةِ لفرضِ النّظامِ حولَ حاويةِ القمامةِ مدى تجاهلِ الدّولةِ لحاجاتِ المواطنينَ الحقيقية،فحُضُورُها المُكثَّف في الشّارع هو تذكيرٌ مستمر بقوّة الدّولة ولن تَعثُر في الشّارع عمْا يمكن أن يُشعِرُك بأنّ حضُورها يستهدف تحقيقِ العدالةِ والتنمية، بل يُصبحُ استعراضُ قوّةِ السلطةِ هدفاً بحدِّ ذاته. إنّها تستعرضُ قوّتها ضدَ المهمّشينَ والفقراءَ الذين ترى فيهم خطرا على النظام و مصدرا للفوضى والخروجِ عن النظام، وهو ما يتضحُ في مشهدِ اعتقالِ الشرطةِ “للبرباشةِ” في “شارعِ الحرية”: فالمُهمّشونَ الذين يبحثونَ في النفاياتِ عن مواردَ للعيشِ هم تجسيدٌ حيّ للفشلِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ في مجتمعٍ يعاني من التّفاوتِ وغيابِ العدالة، مجتمعٍ ترعاهُ الدولةُ الفاسدةُ التي تركّزُ على الشّكلِ الخارجيِّ للسّلطةِ بدلاً من الجوهرِ، وتهتمُ بتعزيزِ أجهزةِ العنفِ لإرساءِ النظامِ بدلاً من حلِّ مشاكلِ الفقرِ والفساد (3).

* – “رمزيّةُ” الخراءِ” في شارعِ الحرية: صرخةُ الطبيعةِ في وجهِ الفساد”

يحتلُّ رمزُ الخراءِ مساحةً كبيرةً في النصِّ “شارعُ الحرية”: “أسئلةٌ سالت من الأفواهِ كما يسيلُ حبرُ الصُّحفِ التي لا يقرؤُها أحد. الجمهورُ يتجمَّعُ، والشرطةُ تفرِّقُ. والأبُ والأمُّ يتوعَّدان الطِّفلَ بأبشعِ العباراتِ، ولا تُسمعُ إلاّ “خراء! خراء!”*

تَبرُزُ رمزيةُ *الخراء* وتفشّيه كعنصرٍ محوريٍّ يَكشِف التوتراتِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ الناتجةَ عن الفسادِ المستشري وعدمِ قدرةِ السلطةِ على إخفاءِ فضائحِها. يتجلّى “الخراءُ” كرمزٍ للفضيحةِ التي تنفجرُ فجأةً، تماماً كما تنفجرُ الثوراتُ الاجتماعيةُ، مما يُسلّطُ الضوءَ على هشاشةِ النظامِ القائمِ وعدمِ قدرتهِ على احتواءِ الأزمات.

“الخراءُ” ، في هذا السياق، لا يُمثِّلُ فقط الأوساخَ والروائحَ الكريهة، بل هو تجسيدٌ للفسادِ المنتشرِ في جميعِ جوانبِ الحياةِ العامّة. تتفشّى رائحةُ الخراءِ لتفضحَ المستورَ، وتكشفَ عن الأزماتِ المختبئةِ خلفَ الأبوابِ المغلقةِ والسياساتِ الفاشلة. إنه صوتُ الطّبيعةِ عندما تتجاوزُ حدودَ التحمّل، عندما تصبحُ الحقيقةُ قوّةً لا يمكنُ قمعُها أو إسكاتُها.

يمثلُ هذا المشهدُ البصريُّ للخراءِ والرّائحةِ الكريهةِ أيضا قوّةَ الطّبيعةِ في التعبيرِ عن غضبِها واحتجاجِها. إنها دعوةٌ للتّغيير، قادمةٌ من أعماقِ المجتمع، تحثُّ النّاسَ على التحركِ والاحتجاج. في “شارعِ الحريّة”، تتبدّى رائحةُ الخراءِ كتعبيرٍ عن فشلِ النّظامِ في تلبيةِ احتياجاتِ النّاس، لتكونَ الشّرارةَ التي قد تُشعلَ ثورةً اجتماعية.

إنّ رمزيةَ الخراءِ في “شارعِ الحرية” تحملُ في طياتِها دعوةً إلى الصحوةِ الاجتماعية، وهي صرخةُ غضبٍ واحتجاج، تعبيرٌ عن رفضِ الواقعِ المزري والدّعوةِ إلى تحقيقِ التّغيير. إنّها تذكيرٌ بأنَّ الفضيحة، مهما حاولت السّلطةُ إخفاءَها، ستظلُّ تظهرُ في نهايةِ المطاف، وأنَّ التّغييرَ الحقيقيَّ يبدأُ من الاعترافِ بالحقائقِ المرّةِ والعملِ على مواجهتها بشجاعة.
في هذا السياق، لا بدَّ من الإشارةِ إلى أنَّ توظيفَ رمزيةِ الخراءِ في الأدبِ والشعرِ ليس بالأمرِ الجديد؛ فقد استخدمته نصوصٌ أدبيةٌ روائيةٌ كثيرةٌ، عربيةٌ وأجنبيةٌ، لتجسيدِ الواقعِ الاجتماعيِّ المختلِّ لكتّابِها. في روايةِ “الخبزِ الحافي”، يستخدمُ محمدُ شكري وصفَ الخراءِ كجزءٍ من واقعٍ مريرٍ عايَشه في طفولته، وصْفٌ يُشخّص أوضاعا غيرِ آدميةِ فضيعة يعيشُها النّاس. و هو تشخيص يَفْضَح واقِعَ التهميشَ والفقرَ المدقعَ، ويشكلُ نقداً صارخاً للظروفِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ في المجتمعِ المغربيِّ في تلك الفترة (4).

ونعثرُ على هذه الرمزيةِ بشكلٍ مكثّفٍ في رواية “عزازيل” ليوسف زيدان، حيث تعكسُ الأوصافُ الدقيقةُ للخراءِ والقذارةِ كلَّ أشكالِ الفسادِ الاجتماعيِّ والدينيِّ في العصورِ الوسطى. هذه الرّمزيةُ تعبّرُ عن انحطاطِ القيمِ واستشراء الفسادِ في المجتمع، وتجسّدُ الصراعَ الداخليَّ للبطلِ مع القيمِ الأخلاقيةِ والدينية (5).

في الأدبِ العالمي، أبدعَ غابرييل غارسيا ماركيز في استخدامِ رمزيّةِ الخراءِ لتجسيدِ الفسادِ والانهيارِ في مدينةِ ماكوندو بشكلٍ لافتٍ ومكثّف. إذ تكشِف أحداثِ الرواية، كيف تغرَق المدينةُ في الفوضى والخرابِ نتيجةً للحروبِ الأهليةِ والفسادِ السياسي. تتجاوَزُ الرّائحةُ الكريهةُ والأوساخُ كونها تفاصيلَ ماديّة، لتصبحَ رموزاً تعبِّرُ عن تدهورِ الحالةِ الاجتماعيةِ والسياسية، وفقدانِ القيمِ والانحلالِ الأخلاقي. تُتَرجِم الرّموزُ بدقةٍ حالةَ الفوضى والخرابِ التي تحلُّ بالمدينة، نتيجةً للتاريخِ المضطربِ والمعقّدِ للعائلةِ الرئيسيةِ في الرواية، وتبرزُ كيفَ تتلاشى أحلامُ الحريّةِ تحتَ وطأةِ الفسادِ والصّراعاتِ الدامية (6).

*- لعنةُ الفسادِ والخرابِ المجتمعيّ*

تُعَدّ كثافةَ وصفِ الكاتبةِ لحالةِ الفوضى العارمة في شارع الحرّية نتيجةَ تفشّي رائحةِ الخراءِ ، بمثابةِ صرخةِ احتجاجٍ لمجتمعِ ما بعد الثورةِ في تونس ضدَّ استفحالِ الفسادِ الذي لا يَظهرُ كأمرٍ عابرٍ، بل كبنيةٍ متجذّرةٍ تؤدّي إلى تدميرِ المجتمع. يتجسّدُ ذلكَ في سوءِ إدارةِ المواردِ العامة، وانعدامِ العدالةِ الاجتماعية، واللاّمبالاةِ تجاهَ مشاكلِ المواطنين.

يعكسُ هذا المشهدُ ما ذكره عبدُ الرحمانِ الكواكبي من أنَّ الفسادَ والاستبدادَ مترابطانِ بشكلٍ وثيقٍ، وكلما زاد الاستبدادُ في المجتمعِ، ازدادَ الفسادُ وتفاقمتْ مشاكله، مما يؤدّي إلى انهيارِ المجتمعِ بأكمله (7).

ويرى” بول كروجمان” أنَّ الفسادَ يؤدّي إلى تفاقمِ التفاوتِ الاقتصاديِّ بتركيزِ الثروةِ في أيدي قلّةٍ قليلةٍ، بما يعمّقُ الفجوةَ بين الأغنياءِ والفقراء. كما يُفسدُ المؤسساتَ الديمقراطيةَ ويُضعفُ آلتّنميةَ الاقتصاديةَ من خلال تحويلِ المواردِ إلى أنشطةٍ غيرِ منتجةٍ (الرشوة مثلاً). هذا التدهورُ يؤثّرُ على القيمِ الأخلاقيةِ والثّقةِ المجتمعية، ويؤدّي إلى تآكلِ الطّبقةِ الوسطى وتقليصِ الفرصِ المتاحةِ لها (8).

إنَّ الفسادَ الذي يتجسّدُ في القصةِ ليس مجرّدَ ظاهرةٍ سياسيةٍ، بل لعنةٌ تقتلُ كلَّ جمالٍ في حياةِ الناس. الروائحُ الكريهةُ التي تجتاحُ شارعَ الحريةِ هي تجسيدٌ حيٌّ لواقعٍ يتفشّى فيه الفسادُ، و يتعذّرُ الهروبُ من تأثيراته السامةِ التي تخنقُ المجتمعَ وتغلقُ أبوابَ الأملِ في وجهِ الناس.

ضمنَ هذا السياقِ التأويليِّ لرمزيةِ الفوضى التي خلقتها صدمةُ تفشّي رائحةِ الخراءِ وتدخُّلُ الشرطةِ في “شارعِ الحرية”، يجسّدُ الرجلُ الثريُّ رمزيةً متشابكةً ومعقدةً تعكسُ جوانبَ عديدةً من الواقعِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ في المجتمعاتِ العربية عموما لا في تونس فقط. هذه الشخصيةُ ليست مجرّدَ صورةٍ لامتيازاتِ السّلطةِ والثروةِ، بل هي مرآةٌ تعكسُ عمقَ الفسادِ والتهميشِ الاقتصاديِّ الذي تعاني منه الأغلبيةُ الساحقةُ في المجتمع.
في هذا السياق، نرى كيف تستغلُّ الطبقاتُ الحاكمةُ مواردَ الدولةِ لتحقيقِ مصالحها الخاصة، تماماً كما يفعلُ الرجلُ الثريُّ في القصّة عندما يلقي كيسَي الخراءِ في الحاويةِ، متلذِّذاً بمشاهدةِ الفوضى التي تلي ذلك.يرْمُز هذا الفعلُ إلى الاستهتارِ بالآخرينَ وعدمِ الاهتمامِ بمصيرهم، وهو ما يُميّزُ الطبقاتِ الفاسدةَ التي تتغذّى على معاناةِ الفئاتِ الدّنيا.

الرّمزيةُ هنا تتعدى مجرّدَ تصويرِ الفسادِ الاقتصاديِّ، لتشملَ أيضاً التّدهورَ الأخلاقيَّ. وهو ما وصفَه عبدُ الرحمنِ الكواكبي في “طبائعِ الاستبداد”، (9). فالفسادُ هنا ليس مجردَ سلوكٍ منحرفٍ، بل هو جزءٌ من بنيةِ النّظامِ الذي يستفيدُ منه الأثرياءُ على حسابِ الفقراء.

القبحُ في زمنِ الكورونا*

في ظلِّ تفشّي فيروسِ كورونا، تتبدّى الفضيحةُ والقبحُ كوجهين لعملةٍ واحدة، يعبِّران عن أعمق أزماتِنا الإنسانيةِ والمجتمعية. تَظهَرهذه العلاقةُ المتشابكةُ بين الفضيحةِ والقبحِ بوضوحٍ في الكيفيةِ التي كَشفت بها الجائحةُ عن هشاشةِ النظمِ السياسيةِ والصحيةِ، وعن الفجواتِ العميقةِ في العدالةِ الاجتماعية.

القبحُ هنا ليس مجردَ تعبيرٍ عن الشكلِ الخارجيِّ أو الظروفِ المادية، بل هو تعبيرٌ عن الانحطاطِ الأخلاقيِّ والفسادِ المتجذّرِ في المجتمعاتِ. مثلما ينكشفُ القبحُ في وجوهِ الأزمات، تظهرُ الفضائحُ كصدى له، تفضحُ ما كان مستورًا وتكشفُ عن العيوبِ الخفيّةِ التي لم نكن ندركُها أو كنا نتغاضى عنها.

الفيروسُ، بانتشاره السريعِ وقوتهِ غيرِ المرئية، يكشفُ النقابَ عن قبحِ الأنظمةِ غيرِ العادلةِ التي تفتقرُ إلى البنيةِ التحتيةِ الصحيةِ والاقتصاديةِ اللازمةِ لحمايةِ شعوبِها. الفضيحةُ تتجلّى هنا في العجزِ والفشلِ في التعاملِ مع الأزمة، وفي القراراتِ السياسيةِ التي تؤدي إلى معاناةِ الناس. إنها فضيحةٌ عالميةٌ تظهرُ في تزايدِ الفقرِ، وعدمِ المساواةِ في الحصولِ على الرعايةِ الصحية، واستغلالِ العمالةِ الضعيفة.

لكنَّها في الوقتِ نفسهِ فضيحةٌ تحفزُ التفكيرَ النّقديَّ وتُعرّي الحقيقةَ وتُجبرُ المجتمعَ على مواجهةِ قبحهِ (10) تمامًا كما تُعرّي الجائحةُ هشاشةَ الأنظمةِ وتفضحُ الفسادَ وعدمَ الكفاءة. هذا الكشفُ يمكنُ أن يكونَ دافعًا لإعادةِ التفكيرِ في الأولوياتِ وإعادةِ بناءِ المجتمعاتِ على أسسٍ أكثرَ عدالةً وإنسانية.

القبحُ الذي يتفشّى مع الفيروسِ يعكسُ الفسادَ
يحملُ في طيّاتِه في طيّاتِه إمكانيّةَ التحوّلِ والتغيير. فكما أنَّ الفضيحةَ تُجبرُ الناسَ على الاعترافِ بالحقيقةِ، فإنَّ القبحَ الذي تكشفُه الجائحةُ يمكنُ أن يكونَ دافعًا لإحداثِ ثورةٍ في الفكرِ والممارسة، لإعادةِ بناءِ المجتمعاتِ على أسسٍ جديدةٍ تعزّزُ العدالةَ والكرامةَ الإنسانية.

*السّلطة، الهويّة، والذّاكرة في قصّة “شارع الباجي قائد السبسي”: سرديّة التمرّد*

**التوتر بين الأجيال:**

في مشهدٍ من السّرد الأدبي، تتسلّلُ القصةُ إلى أعماقِ الفجوةِ العميقةِ بين الأجيال، حيث يتجلى السّخطُ العارمُ على الشيوخِ والعجائزِ الذين طال بهم العمرُ أكثرَ من والدي السّاردة. يتجاوزُ هذا الغضبُ الزّمنَ ليعكسَ رغبةً متأجّجةً لدى الجيلِ الجديدِ في كسرِ قيودِ التقاليدِ الباليةِ والسّيرِ نحوَ مستقبلٍ مشرق. إنها حالةٌ من التمرّدِ الصّامتِ الذي يغلي في نفوسِ الشباب، متجسدةً في شعورهم بأنَّ الحياةَ تقتّرُ عليهم بينما تمنحُ الشيوخَ “أوقاتًا زائدة”. يُقيّدُ الجمودُ الثقافيُّ الذي تَتحصّن به الأجيالُ القديمةُ كل حركة نموَ وتغيير، ممّا يُشعرُ الجيلَ الجديدَ بالاختناقِ والرّغبةِ في التّغييرِ الجذري. و هي المفارقة التي تُشعِل غضب الشباب حين يَخنِقُه الشُّعور بأنّ الحياةَ تضيقُ عليهم بينما تمنحُ الشيوخَ “أوقاتًا زائدة”. يعكسُ هذا التباينُ التحدّيَ الذي يواجهُه الجيلُ الجديد للتحررِ من القيودِ الثقافيةِ التي تفرضُها التقاليدُ القديمة.

في “شارع الباجي قائد السبسي”، تنكشفُ مشاعرُ السُّخطِ التي تُعبِّرُ عنها القِصّة تجاهَ شخصيةِ الشيخِ الباجي، باعتباره عقبةً أمامَ تطلعاتِ الجيلِ الجديد. تُبرزُ بدايةُ القصةِ هذا الاستياءَ بشكلٍ واضحٍ، مترجمةً رغبةً ملحٍةً في إعادةِ تشكيلِ المجتمعِ وفقًا لطموحاتِ الشبابِ وتطلعاتهم لمستقبلٍ أفضل.

ومع ذلك، يَظهرُ صراعُ نورة عبيدٍ الداخليُّ بشكلٍ أعمق. فهي تجدُ نفسها ممزقةً بين الرغبةِ في التغييرِ الجذري وبين الشعورِ بأنَّ الماضي، رغمَ عيوبه، يحملُ جوانبَ إيجابية. إنَّ الماضي يضيءُ الطّريقَ نحوَ التغيير، وهو طريقٌ مليءٌ بالتحدّياتِ التي تؤخرُ وتُعيقُ وتؤثرُ؛ فالطريقُ في تونسٍ يعثّرُ ويوتّرُ ويؤخّرُ. في هذا الصراع، يظهرُ تقديرُها لشخصياتٍ من الماضي مثل الجدة، التي تمثلُ رمزًا لاحترامِ الوقتِ وتقديسِ الجهد. و هي القيمُ، رغمَ كونها جزءًا من زمنٍ مضى، تقدِّمُ إشاراتٍ هامةً نحوَ التغيير وتجعلُ الطريقَ إلى المستقبل أكثرَ وضوحًا.

في سياقٍ مشابه، نجدُ مرجعيةً رمزيةً في روايةِ “الجريمة والعقاب” لدستويفسكي تُمكِّننا من اثارة إشكال أو مأزق نَلمَسه في رؤية نورة عبيد تجاه شخصية الباجي.. في الرواية، يحملُ البطلُ الشابُ راسكولنيكوف أفكارًا ثوريةً تتجاوزُ القيمَ القديمةَ وتدعو إلى رفضِ القوانينِ الاجتماعيةِ والأخلاقية رفضا جذريّا.إذ يعتقدُ أنه يحقُّ له ارتكابُ الجريمةِ لتحقيقِ هدفٍ عظيم، مقابلَ القيمِ الثابتةِ التي تجسِّدُها شخصيةُ الأم (11). يُحيلنا هذا الصّراعُ على سؤالٍ عميقٍ: ألا يقودُ الإعلانُ عن “قتل الأب” (منظومة القيم القديمة) إلى الفوضى وتبرير الأفعال البشعة تحت مسمّى الثورة والتغيير؟

هذا التساؤلُ تحديدًا هو ما يخلُقُ لدى الكاتبة توتُّرًا داخليًا يعيشه القارئُ أيضًا، إذ نستشفُّ من مراوحتها بين السُّخطِ على الشيوخ الذين يعمرون طويلاً وبين تعبيرها الصّريحِ عن احترامها لقيمِ الجدة، شعورها بمأزقِ التوفيقِ بين رغبتها في التغييرِ الثَّوري والاعترافِ بقيمةِ الماضي. هذا الاعترافُ هو تحديدًا ما يجعلنا نميلُ إلى الإقرارِ بوجودِ نوعٍ من الشعورِ بالذنبِ الناتجِ عن “قتل الأب” رمزيًا (السخطُ على شخصيةِ الباجي)، يتجلى في إدراكها أنَّ القيمَ القديمة، مثلَ تلك التي تمثلُها الجدة، قد تكونُ ضروريةً لإنارةِ الطريقِ نحوَ المستقبل. وما يبررُ هذا الاستنتاجَ أيضًا هو تلك الصورةُ المأساويةُ التي وصفتها في قصة “شارع الحرية”، وهي صورةُ الفوضى والقبحِ اللذين تفشيا في المجتمعِ نتيجةَ الانسياقِ وراءَ تدميرِ أسسِ الماضي، إذ يبدو أنَّ التغييرَ يحتاجُ إلى إرشادٍ من القيمِ القديمةِ لضمانِ بناءِ مستقبلٍ أفضل.

بالتالي، تكشفُ نورة عبيدٌ بوعيٍ أو دون وعيٍ عن صراعٍ عميقٍ بين الطُّموحاتِ الثوريةِ من جهةٍ والتمسُّكِ بالقيمِ التقليديةِ من جهةٍ أخرى. هذا الصراعُ يثيرُ تساؤلاتٍ حولَ الكيفيةِ التي يتمُ بها تحقيقُ التغيير، حيث يظهرُ أنَّ الطريقَ إلى المستقبلِ يمرُّ عبرَ الاعترافِ بما شكَّلهُ الماضي من إضاءاتٍ إيجابيةٍ تنيرُ الطريقَ. وبالتالي، فإنَّ القطعَ الكليَّ مع القيمِ القديمةِ يشكلُ خطرًا، حيث يمكنُ أن يكونَ منفذًا إلى الفوضى ويُعيقَ بناءَ المستقبل.
في روايةِ *عناقيد الغضب*، يُظهرُ جون شتاينبك كيف يقودُ القطعُ النهائيُّ مع القيمِ القديمةِ إلى تفشي الفوضى إلى درجةِ الانهيار نتيجةَ تدميرِ الأسسِ التي كانت ضامنةً للتوازنِ الاجتماعي، وهو المعنى نفسهُ الذي نستشفُّه في مقاربةِ قصةِ “شارع الباجي قائد السبسي”: فالطريقُ إلى المستقبلِ يحتاجُ إلى إدراكِ أهميةِ القيمِ السابقةِ كمصدرٍ للإلهامِ وإضاءةٍ للطريقِ نحوَ التغيير (12).

*التهميش والشعور بالإقصاء*

بينَ أسطرِ القصة، يتجلى شعورُ الشخصياتِ بالتهميشِ والإقصاء، سواءً أثناءَ انتظارِهم خارجَ العياداتِ أو من خلالِ حواراتِهم المليئةِ بالإحباطِ تجاهَ الواقعِ السياسيِّ والاجتماعيِّ. هؤلاء الذين تجمّعوا في شارعِ الباجي قائدِ السبسي، وجوهُهم مرهقةٌ وصوتُهم مخنوقٌ بالغضبِ، يُترجمون حالةً واسعةً من التهميشِ والخيبةِ التي تلفُّ المجتمعَ.

في قلبِ مشهدِها الأدبيِّ، تلتقطُ نورة عبيد نبضَ الحياةِ التونسيةِ في “شارعِ الباجي قائدِ السبسي”، حيثُ يتجلّى الإقصاءُ والتهميشُ في أبسطِ تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ. في هذا الشارعِ، تتناثرُ الوجوهُ المرهقةُ، العيونُ التي تلمعُ بظلالِ الغضبِ، والأجسادُ التي تتنفسُ الإحباطَ. تتسربُ قصصُهم من بينِ جدرانِ قاعات انتظارِ العياداتِ إلى زوايا النسيانِ، في حالةٍ تُعبّر عن خيبةِ أملٍ عميقةٍ في تونسَ ما بعدَ الثورةِ. إنها تلك اللحظاتُ التي يشعرُ فيها الإنسانُ بأنه مجرّد رقمٍ في طابورٍ طويلٍ من المنتظرين، بدونِ صوتٍ أو تأثيرٍ. هناكَ قناعةٌ ترسّختْ لدى الجميعِ بأن الثورةَ قد لا تكونُ تمكنتْ من تحقيقِ تغييراتٍ ملموسةٍ في حياةِ النّاس اليوميّةِ، بِمَا يعزِّزُ الشعورَ بأنّ التّهميش هو قدرُهم في النظامِ الاجتماعيِّ الجديدِ.
في روايةِ **”العمى”** لجوزيه ساراماغو، يتبدّى مشهدٌ آخرُ من مشاهدِ الإقصاءِ، حين يفيضُ الوباءُ على المدينةِ ليفضح بشاعة التَّفاوتاتِ الاجتماعيةَ في عالم مظلمِ، لا أمل فيه و لا رجاء. و هي البشاعة نفسها التي يعيشها أبطال “شارع الباجي قائد السبسي” حين تعصف بهم مشاعر الخيبة و اليأس من واقع كالوباء لا يمكن مقاوَمته أو التّخفيف منه. (13).
إن من دلالاتِ الوباءِ الذي تحدثتْ عنه روايةُ “العمى”، إذا ما أوَّلناه من وجهةِ نظرِ نصِّ نورة عبيد، هو وباءُ التّغوّلِ الاقتصاديِّ لعائلاتٍ بعينها، وهو ما لم تُخفِهِ الكاتبةُ عندما أشارتْ إلى احتكارِ صناعةِ الجعةِ والخمورِ من قِبلِ عائلةِ السبسي. تحيلُ هذه الإشارةُ إلى مسائلَ أعمقَ تتعلقُ بالكيفيةِ التي تتحكمُ بها النخبُ بالقطاعاتِ الأساسيةِ في المجتمعِ، مما يعزِّزُ الفجوةَ بينَ الأغنياءِ والفقراءِ. إن النخبَ الحاكمةَ في المنطقةِ العربيةِ، سواءً كانت مدنيةً أو عسكريةً، تتورَّطُ في ممارسةِ مراكمةِ الثروةِ عبرَ انتزاعِها من أيدي الشعوبِ باستخدامِ وسائلِ العنفِ والفسادِ. هذا الوضعُ يساهمُ في زيادةِ الفقرِ وتعميقِ التفاوتِ الاجتماعيِّ (14).
**قهرُ السياسةِ وسخريةُ الواقعِ في “شارعِ الباجي قائدِ السبسي”**

في عمقِ “شارعِ الباجي قائدِ السبسي”، تنبضُ السُّخريةُ وكأنها نبضاتُ قلبٍ تتلاعبُ بالأسى في وجه البؤسِ والظّلمِ. فليست السُّخرية هنا ترفٍ فكريّ، بل هي ردةُ فعلٍ حيويةٍ تعكسُ تدهورَ الواقعِ وتجعلُ من التعاسةِ مادةً للتهكمِ والتعبيرِ عن اليأس. تتجسَّدُ السخريةُ في وصفِ الباجي قائدِ السِّبسي بأنه “الشيخُ والحكواتي”، وهو تعبيرٌ يترجم ذلك التناقضَ بين مظهرهِ الخارجي وواقعهِ الدَّاخلي. تُسلّط السخرية الضوء على الازدواجية بين صورة القائد المثالي، الذي يُفترض أن يكون حاميًا للعدل ورمزًا للحكمة، وبين الحقيقة المؤلمة التي تكشف غموضه وتجاهله لمشكلات الشعب. “الشيخ” هنا ليس مجرد لقب، بل هو تجسيد للهوة الفاصلة بين الرفاهية الشخصية والقسوة الاجتماعية، و”الحكواتي” هو وسيلةٌ للإيهام بخبرةٍ وهمية، تتناقض مع واقعٍ مظلمٍ ينتظر التغيير.. يتجاوزُ النقدُ هنا مجردَ الاستنكارِ ليمتدَ إلى التهكمِ العميقِ الذي يعكسُ إحباطًا واسعَ النطاقِ من الوضعِ القائمِ.لقد فقد الناس ايمانهم بالتغيير لكن ذلك لم ينتزع منهم إرادة المقاومة عن طريق السخرية :تلك هي السقراطية المتجددة في عقول البؤساء.
في مشهدٍ مثيرٍ، يُشعلُ الزوجُ سيجارةً في ضجرٍ، لافتًا انتباهَ القارئ إلى العلاقةِ الملتبسةِ بين السياسةِ ووسائلِ التسليةِ والتهدئةِ. يقولُ الزوجُ: “ما البرءُ من داءِ السياسةِ وضغطها إلاّ بهذه”، في إشارةٍ إلى السيجارةِ ومعملِ الباجي. يتناولُ الزوجُ السيجارةَ كرمزٍ للسُّخطِ العميقِ، حيثُ يربطُها مباشرةً بمعملِ الباجي قائدِ السبسي. في هذا السياق، يبرزُ النقدُ الساخر كموقف سقراطي من ازدواجية تعكسُ تلاعبَ السلطةِ بمصائرِ الأفرادِ، وتفسحُ المجالَ لتفريغِ المشاعرِ المكبوتةِ عبر الإدمانِ والتسليةِ.

**”يحتاجُ الشعبُ وشاعرهُ إلى معملِ السبسي. يحتاجُ الشعبُ وشيخهُ إلى معملِ السبسي. نحتاجُ الخمرَ لندقّ رأسًا برأسٍ.”** تتجاوزُ هذه العبارةُ كونها مجردَ سخريةٍ لتُمثلَ تأملًا في العلاقةِ المعقدةِ بين السلطةِ والشعبِ. يشيرُ النصُّ إلى أنَّ الشعبَ، بمختلفِ أطيافهِ، لا يجدُ منفذًا للتعبيرِ عن معاناتهِ سوى في الاستهلاكِ المفرطِ لمشروباتٍ معينةٍ كوسيلةٍ للهروبِ من واقعهم المؤلمِ. الخمرُ هنا، كما السيجارةُ، تصبحُ رمزًا لتفريغِ الإحباطِ والغبنِ الناتجِ عن عدمِ تحقيقِ التغييرِ المنشودِ.

يستندُ هذا النقدُ إلى تشابهٍ مثيرٍ في التسمية بين السِّيجارةِ، التي تُعرفُ في تونس بـ”سِبْسِي”، وبين الباجي قائدِ السبسي كرئيسٍ سلطوي. يُفترضُ أن يعكسَ هذا التشابهُ مدى تداخلِ السياسةِ والفسادِ الاجتماعيِّ، حيثُ تتحولُ السيجارةُ، التي تنفثُ أعمارَ الشعبِ وعرقهم، إلى رمزٍ من رموزالحكمِ نفسهِ. يتضحُ أنَّ السخريةَ هنا تتجاوزُ السَّطحَ لتغوصَ في عمقِ العلاقةِ بين الاستبدادِ والملذاتِ التافهةِ التي توفرها السُّلطةُ كوسيلةٍ لتسليةِ الشَّعبِ وتجاهلِ مشكلاتهِ الحقيقيةِ.

في النهاية، تظلُّ العباراتُ “لا فرقَ بين السياسةِ والسٍِبسي. كلاهما سيجارةٌ تنفثُ أعمارَنا” شاهدةً على العلاقةِ المتشابكةِ بين الاستبدادِ والتمييزِ الاجتماعيِّ. تُبرزُ السيجارةُ، بما تحملهُ من دلالاتٍ سلبيةٍ، مدى تعقيدِ وتورّطِ السلطةِ في تفاصيلِ حياةِ الناسِ اليوميةِ. ومن خلالِ هذه السخريةِ، تفتحُ عبيد نافذةً على قسوةِ الواقعِ السياسيِّ في تونس، وتكشفُ عن أنماطِ المقاومةِ التي تظلُّ ملاذًا للناسِ للهروبِ من واقعهم المظلمِ.

في “شارعِ الباجي قائدِ السبسي”، يُجسِّدُ نقدُ عبيدِ الساخرُ صورةَ التناقضِ بين حياةِ الترفِ للشخصياتِ السياسيةِ وواقعِ المعاناةِ الشعبيةِ، مما يعززُ فهمَنا للظلمِ المتفشي ويضيفُ عمقًا لمشاعرِ الإحباطِ والخيبةِ التي تسيطرُ على الشعبِ. هذه السخريةُ، الممزوجةُ بالحزنِ والأسى، تتيحُ لنا رؤيةَ أوجهِ التناقضِ في السلطةِ وتكشفُ عن حقيقةٍ مؤلمةٍ خلفَ واجهاتِ السياسةِ الزائفةِ.

**تجليات النَّقد السَّاخر في القصة**:

1. **سخرية من التفاوت بين الأجيال**:
– تُعَبِّرُ الكاتبةُ عن سخطها على الشيوخِ والعجائزِ الذين عاشوا لفترةٍ أطولَ من والديها، و هي نظرةً ساخرةً تجاه فكرةِ العدلِ في الحياةِ وطولِ العمرِ: “أعترفُ لكم اليومَ في خجلٍ بما كان ينتابني من سخطٍ على كلِّ من مدَّ اللهُ في أنفاسه أكثرَ من أنفاسِ أمِّي وأبي.”

2. **سخرية من النظام الصحي**:
– يَعَكِسُ وصفُ رحلةِ الذهابِ إلى مصحّةِ قرطاجنة وما يرافقُها من انتظارٍ وضجرٍ السخريةَ من النظامِ الصحيِّ والبنيةِ التحتيةِ في تونس: “الطّريقُ في تونس يعثّرُ ويوتّرُ ويؤخّرُ.”

3. **سخرية من الحياة السياسية**:
– تبرزُ السخريةُ من الباجي قائد السبسي وحياته السياسيةِ من خلال حديثِ زوجِ الكاتبةِ عن أنّ السبسي عاشَ وماتَ في الرفاهيةِ والسلطةِ، و هي نظرةً ساخرةً تجاه السياسيينَ في تونس: “وُلِدَ وماتَ في الحريرِ. لم تقتلهُ إلاّ الحيّةُ التي في صدره.”

4. **سخرية من تسمية الشوارع**:
– تَسَخِرُ الكاتبةُ من تسميةِ الشوارعِ بأسماءِ السياسيينَ دونَ النظرِ إلى القيمةِ الحقيقيةِ لأعمالهم: “كان يكفي لتغييرِ ‘شارع الأرض’ بالدائرة البلديّةِ حيّ الخضراء وبمنطقةِ المركزِ العمرانيِّ الشّماليِّ إلى شارعِ ‘الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي’.”

5. **سخرية من السيجارة والمجتمع**:
– يَعَكِسُ الربطُ بين السيجارةِ والسياسةِ السخريةَ من كيفيّة أن تكون الأشياءِ الضارةِ جزءًا من الثقافةِ اليومية: “أشعلَ زوجي سيجارةً في ضجرٍ. ثمَّ قالَ: ‘هذا أيضًا سبسي’. ولا فرقَ بين السياسةِ والسبسي. كلاهما سجائرٌ تنفثُ أعمارَنا.”

6. **سخرية من ممارسات الأطباء والمجتمع**:
– يُصَوِّرُ زوجُ الكاتبةِ موقف السخريةِ من كيفيةِ تعاملِ الناسِ مع الأطباءِ والممارساتِ الطبية: “محمود المسعدي أخبرني أخي؛ كان إذا نزلَ بدارِ السرايا بالمدينةِ العربي، يطلبُ من النادلِ أن يُحْضِرَ الغلالَ ويعصرها أمامه.”

7. **سخرية من العبث والإجراءات الروتينية**:
– يُعَكِسُ نقدُ الإجراءاتِ الروتينيةِ والبيروقراطيةِ، مثلَ انتظارِ الدخولِ إلى العيادةِ ودفعِ مائةِ دينارٍ لاسترجاعِ العافيةِ: “ولجنا العيادةَ. فطلبت السكريتيرةُ ألاّ يدخلَ إلاّ المريضُ. فخرجَ زوجي وتركني لمحدّثتي تروي لي نقمتها وأخيها على الحياة.”

تُظهِرُ هذه المظاهرُ نقدًا لاذعًا للأوضاعِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ في تونسَ، من خلالِ أسلوبٍ ساخرٍ يجمعُ بين الواقعِ والخيالِ. يمكننا تتبُّعُ هذا النوعِ من النقدِ الساخرِ في الأدبِ العالميِّ، حيث تُستخدمُ السخريةُ لتشخيصِ الأوضاعِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ ونقدها بشكلٍ بديعٍ. في روايةِ **”1984″**، يُبدي جورج أورويل براعةً في إبرازِ قدرةِ السلطةِ على التضليلِ وخلقِ واقعٍ زائفٍ من خلالِ شخصيةِ “الأخ الأكبر”. تُظهِرُ الروايةُ كيف تستغلُّ السُّلطةُ التقنياتِ النفسيةَ والسياسيةَ لتخديرِ العقولِ وطمسِ الحقائقِ، وتَنسجُ عالمًا مقلوبًا تتلاعبُ فيه بالأفكارِ والمفاهيمِ.
عبر السخريةِ المفرطةِ والتناقضاتِ الصارخةِ، يُقدِّمُ أورويل نقدًا لاذعًا للديكتاتورياتِ، كاشفًا عن زيفِ النظامِ وفشلهِ في تحقيقِ العدالةِ والحريةِ. تتحوّلُ السخريةُ في روايتهِ إلى مرآةٍ تعكسُ بؤسَ الواقعِ وتفضحُ التلاعبَ الفجَّ بالحقائقِ، مما يجعلُ من “1984” عملًا أدبيًا خالِدًا يكشفُ عوراتِ السلطةِ ويعري استبدادَها بأسلوبٍ أدبيٍّ رفيعٍ ( 15).
**في السياق العربي، تُعْتَبَرُ روايةُ “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ مثالًا بارزًا على استخدام النقد الساخر للإشارة إلى التناقضات في النظام الاجتماعي والسياسي، وكشف بشاعة الفجوة الشاسعة بين حياة الترف الفاحش للسياسيين ومعاناة الشعب اليومية. يَرْسُمُ نجيب محفوظ التناقضات بين الطبقات الاجتماعية مُسْتَخْدِمًا مزيجًا من التعابير الساخرة والتفاصيل المؤلمة التي تكشف عن عمق الألم الاجتماعي، مُبرِزًا كيف تتناقض رفاهية الطبقات الحاكمة مع قسوة الحياة ومرارتها التي يعانيها الجماهير.** (16)

**رمزية الانتظار في القصة**

في عالمٍ يتداخلُ فيه الواقعُ بالرمز، تُجَسِّدُ مشاهدُ الانتظارِ في العياداتِ الطبيةِ في قصةِ نورة عبيد رمزًا عميقًا لحالةِ المجتمعِ التونسيِّ المعاصر. لا يُعَبِّرُ الانتظارُ الطويلُ الذي يُعَانِي منه الأفرادُ في المصحّاتِ فقط عن التجربةِ الشخصيةِ للفرد، بل يَرْمُزُ إلى أملٍ جماعيٍّ في التغييرِ والتحسينِ الذي يبدو بعيدَ المنال. هذا الارتباطُ بين الصحةِ والمرض، بين العياداتِ والانتظار، يَعَكِسُ بوضوحٍ حالةَ الترقُّبِ والضّياعِ التي يعيشُها الشعبُ التونسيُّ في ظلِّ نظامٍ سياسيٍّ مُتَجَاهِل لمشاكلهِ العميقةِ.

نجدُ أنفسنا اذن أمامَ حالةٍ رمزيةٍ تتجاوزُ حدودَ الفردِ إلى المجموعِ، حيثُ يتعاملُ الأفرادُ مع نظامٍ يُشْبِهُ الطبيبَ الذي يظلُّ صامتًا أمامَ الألمِ ويكتفي بالكلماتِ دونَ أفعالٍ. تَعْكِسُ رمزيةُ الانتظارِ في العياداتِ الطبيةِ في القصةِ حالةَ المجتمعِ الذي يبحثُ عن شفاءٍ لمشاكلهِ العميقةِ من خلالِ تعبيراتٍ رمزيةٍ غيرِ كافيةٍ، وهي رسالةٌٌ قويةٌ تُعبِّر عن خيبةَ الأملِ من نظامٍ سياسيٍّ يكتفي بالرُّموزِ دونَ تقديمِ حلولٍ فعليةٍ.
**الهوية الوطنية والذاكرة الجماعية**

تُثيرُ إعادةُ تسميةِ الشارعِ باسمِ الباجي قائد السبسي تساؤلاتٍ عميقةً حولَ بناءِ الهويةِ الوطنيةِ والذاكرةِ الجماعية. لا يعكسُ هذا الفعلُ الاحتفاءَ بشخصيةٍ معينةٍ فحسب، بل يُترجِم أيضا تناقضاتٍ جليّةٍ بين ما يُحتَفَى به وما يُنسَى في سياقِ التاريخِ الوطني. تُظهِرُ تسميةُ الشارعِ باسمِ السِّبسي، رغمَ القوانينِ التي تَشترط مرورَ ثلاثِ سنواتٍ على وفاةِ الشخصياتِ المدنيةِ قبلَ تكريمِها، إحدى سمات القداسة التي تضفيها السلطة على نفسها و هي التلاعب بالقوانينِ .

يَعَكِسُ هذا الفعلُ تناقضًا بين الرغبةِ في تعزيزِ الهويةِ الوطنيةِ من خلالِ الرموزِ السياسيةِ وبين واقعٍ تاريخيٍّ قد يكونُ محاطًا بالجدلِ. فبقدرِ ما يُحتَفَى بالسبسي كرمزٍ للتقدمِ و الحداثة، تُنْسَى أو يُقَلَّلُ من شأنِ جوانبِ أخرى من التاريخِ الوطنيِّ التي لا تتماشى مع السرديةِ الرسمية. يُظْهِرُ هذا التناقضُ كيف يمكنُ أن تتأثرَ الذاكرةُ الجماعيةُ بالسياساتِ الرسميةِ وتقديسِ الرموزِ، مما يُؤَدِّي إلى بناءِ سردياتٍ جديدةٍ تتجاوزُ الواقعَ التاريخيَّ المعقدَ.

يرتبطُ تقديسُ الرموزِ في تونس بشكلٍ وثيقٍ بفكرةِ السلطةِ الأبويةِ، حيث يُنْظَرُ إلى القادةِ كرموزٍ للأبوٍةِ السياسيةِ. لقد صُوِّرَ بورقيبةُ والسِّبسي، على حدٍّ سواءٍ، كرمزين أبويّين للشعبِ، الأمر الذي يُعَزِّزُ سلطتهما ويُضعف كل إمكانيةِ للنقدِ. يُسَاهِمُ هذا التقديسُ للرموزِ في تعزيزِ فكرةِ أن الهويةَ الوطنيةَ مرتبطةٌ بشكلٍ وثيقٍ بالسلطةِ السياسيةِ، وهو ما يَعَكِسُ استمراريةَ الهيمنةِ السياسيةِ عبر استخدامِ الرموزِ لتخديرِ الشعب وإبقاءِ السلطةِ في يدِ قلةٍ قليلةٍ.

يُظْهِرُ تقديسُ الرموزِ في تونس، من بورقيبةَ إلى السبسي الكيفيّة التي تُوظٌَف بها الرموزُ لبناءِ الهويةِ الوطنيةِ وتعزيزِ السلطةِ الأبويةِ. فمن خلالِ عمليةِ إعادةِ تسميةِ الشوارعِ وتكريمِ الشخصياتِ السياسيةِ، تتجلّى الدينامياتُ المعقدةُ لبناءِ الذاكرةِ الجماعيةِ وكيفيةِ استغلالِ الرموزِ لتحقيقِ أهدافٍ سياسيةٍ معينةٍ. تُبْرِزُ هذه الدينامياتُ التوترَ بين الواقعِ التاريخيِّ والتصوراتِ الرسميةِ، و هو ما يَعكِس التحدياتِ التي تواجهها المجتمعاتُ في مسعاها لفهمِ وتقديرِ تاريخِها بشكلٍ أكثرَ دقةٍ وواقعيةٍ.
يُعَرِّفُ هشام شرابي السلطةَ الأبويةَ بأنها نظامٌ اجتماعيٌّ وسلطويٌّ يقومُ على الهيمنةِ الأبويةِ التي تُعَزِّزُ الاستبدادَ والسلطويةَ. في هذا السياق، تكونُ السلطةُ مركَّزَةً في يدِ القادةِ الذين يُنْظَرُ إليهم كرموزٍ أبويةٍ، تسعى إلى الحفاظِ على السيطرةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ عبر استخدامِ الرموزِ والشعاراتِ التي تُعَزِّزُ سلطتها. يُعْتَبَرُ القائدُ في هذا النظامِ بمثابةِ “الأب” الذي يُحَافِظُ على النظامِ ويُشَرْعِنُهُ، ويُوَظِّفُ الرموزَ كوسيلةٍ لتأصيلِ هذا الدورِ وتوطيدِ هيمنتهِ.** (17).
يرى تشومسكي أن الأنظمة الاستبدادية تستخدم الرموز والأساطير لتبرير سياساتها وتضليل الشعوب. فهي تنسجُ صورةً مثاليةً للنظامِ السياسيِّ والاقتصاديِّ القائمِ، وتُصوِّرُ المعارضةَ والاحتجاجاتِ كتهديدٍ للأمنِ والاستقرارِ. وتُستخدمُ الرموزَ الوطنيةَ والدينيةَ لتعزيزِ الولاءِ للنظامِ وإخفاءِ الممارساتِ الاستبداديةِ والقمعيةِ.
يؤكدُ تشومسكي أن هذه الأنظمةَ تستغلُ الخوفَ من الآخرِ والتهديداتِ الخارجيةَ لتبريرِ سياساتها القمعيةِ داخليًا. فتخلقُ الرموزُ والأساطيرُ شرعيةً زائفةً للنظامِ، وتَصرِفُ الانتباهَ عن المشاكلِ الحقيقيةِ مثلَ الفسادِ والتفاوتِ والقمعِ السياسيِّ. ويدعو تشومسكي إلى نقدِ هذه الرموزِ والكشفِ عن الحقيقةِ خلفها، وتمكينِ الشعوبِ من المشاركةِ الحقيقيةِ في صنعِ القرارِ (18).

**خاتمة**

**في ثنايا نصّي “شارع الحرية” و”شارع الباجي قائد السبسي”، تقدم لنا نورة عبيد لوحة أدبية ترسُم التباينات العميقة في نسيج المجتمع التونسي، الذي تتشابك فيه الحريات بالتاريخ السياسي في رقصة معقدة. تعبيرات رمزية وشخصيات متباينة، مصاغة بدقة، تُترجِم واقعاً يتقاطع فيه الأمل مع مرارة القمع، والجمال الظاهري مع قسوة الحقيقة.

من خلال التركيز على شوارع مثل “شارع الحرية” و”شارع الباجي قائد السبسي”، تفتح عبيد أمامنا أبواباً نحو عوالم ملأى بالتناقضات، حيث تَروِي التفاصيل اليوميّة واقعا اجتماعيّا مليئا بالصراعات والتحديات. ليست تلك الشوارع سوى مرآة تعكس الصراع الداخلي للمجتمع، وتجسد نضال الأفراد في مواجهة الفقر والفساد، وتبرز التوترات التي تطبع الحياة في تونس.
تُضيء عبيد، عبر تقنياتها السردية العميقة، مشهدًا أدبيًا يلتقط معاني الحياة والحرية والسلطة بأسلوب يستدعي التأمل العميق. هذه المجموعة، بجمالياتها وبُعدها النقدي، لا تقتصر على تقديم صورة أدبية فحسب، بل تعزز من قدرتنا على فهم وتعميق رؤيتنا للواقع التونسي وتناقضاته.
في ختام هذا الرحلة الأدبية، لا نرى في “شوارع” سوى ذواتنا و قد تاهت منّا.. و لا نسمع فيها سوى ضجيج دواخلنا التي تصرخ في وجه المرارة. “شوارع” هي رجع الصدى لكل عاشق للحرية ضد قبح السلطة.

فيصل السائحي
ناقد و قاص
استاذ فلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية

الهوامش و المراجع:
1 – نورة عبيد روائيّة تونسية تدرّس اللّغة و الآداب العربية في الإعداديات و المعاهد التونسيّة شاركت في عديد الملتقيات الأدبيّة والثقافية الوطنيّة والدوليّة. كتبت في الصحف الوطنيّة والعربيّة. الورقيّة والالكترونية و الفائزة بجائزة الطاهر الحدّاد لأدب المرأة في دورتها الأولى 2018 عن المخطوط القصصيّ :مرايا
التّراب؛ قصص التّفاصيل المنسيّة
– الفائزة بالمرتبة الثالثة عربيّا في مسابقة ‘نقص لهم” بمجموعة قصصيّة لليافعين الإصدارات:
– بوابات على ديدان النّسيان 1999(مجموعة شعريّة)
– نوبات 2019 (رواية تشاركيّة مع معاوية الفرجاني.)
– مرايا التراب؛قصص التفاصيل المنسيّة 2019 طبعة أولى و2020 طبعة ثانية
– تاج الحياة (رواية لليافعين) طبعة عربيّة 2022 وطبعة تونسيّة 2022
– شوارع: مجموعة قصصيّة 2024
– شاركت بمقالات نقدية في مؤّلّفات جماعية ومقدّمات لروايات تونسيّة.
– يصدر قريبا: رواية لليافعين : حكايات توتو:رسائل طفلة شقيّة ومجموعة قصصيّة لليافعين: مدينة الفسيفساء وقصص أخرى.
2-“المراقبة والمعاقبة ولادة السجن”ميشال فوكو ترجمة محمد علي اليوسفي دار النشر مركز الانماء القومي بيروت 1990 انظر خاصة الفصل الثالث
3- عبد الله العروي “مفهوم الدولة” (دار المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1996)
4- “الخبز الحافي”، محمد شكري. – دار النشر: منشورات الجمل.- طبعة 1982
5- رواية عزازيل ليوسف زيدان – دار الشروق الطبعة الاولى 2008 و نالت جائزة البوكر العربية عام 2009.
6- رواية “مئة عام من العزلة” غابرييل غارسيا ماركيز ترجمة صالح علماني ونشرتها دار المدى صدرت 1997
7- عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” دار النشر: دار الشروق، 2005، صفحة 45
8- كتاب بول كروجمان “ضمير شخص ليبرالي”، ترجمة مجدي صبحي. مركز المحروسة للنشر في القاهرة، الطبعة الأولى 2018
9- نفس المصدر
10- HANNAH ARENDT : La Crise de la culture: Huit exercices de pensée politique- traduit par: Patrick Lévy- Gallimard 1972
11- فيودور دوستويفسكي * الجريمة و العقاب *ترجمة سعيد الغانمي- دار الكتاب العربي بالقاهرة
1986
12 – “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك * المترجم الشريف خاطر، نشر دار اليقظة العربية في
دمشق 1960
13 – (جوزيه ساراماغو، “العمى”، منشورات الجمل1998، الطبعة الأولى ، ترجمة علي عبد الامير صالح
14 – (ماهر حمود، 2023، “مقدمة: الاقتصاد السياسي للسلطوية في المنطقة العربية”مجلة، *رواق عربي*بتاريخ:26 /10 /2023
15 – ( جورج أورويل، “1984”، دار النشرعصيرالكتب للترجمة و النشر و التوزيع 2019، ترجمة : سالي حسن عزت
16- (نجيب محفوظ، “أولاد حارتنا”، دار الشروق، الطبعة الأولى 1967، ص 65-95)
17 – (“ظاهرة السلطة الأبوية في المجتمعات العربية: قراءة في نظرية هشام شرابي” عبد الله موسى- المصدر: موقع الميادين بتاريخ 7-يوليو –2024
18 – “تشومسكي: الربح على حساب الناس” ترجمة آلاء النحلاوي، منشورات تكوين، 2022

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!