قراءة في ديوان ” حين يتكلم الحُب ” للشاعرة جيهان رافع
كتب إبراهيم موسى النحَّاس:
الشعر عند ريتشاردز- كما عبَّر عنه كتاب ” العلم و الشعر” بترجمة د.محمد مصطفى بدوي- يُسهم في تكوين الإنسان بأن يوسِّع حساسيته, ويزيده تعاطفًا مع الآخرين, و يولّد فيه قدرة أكثر تنظيمًا و تناغمًا على معالجة أمور الحياة. والشاعرة جيهان رافع في ديوانها الجديد(( حين يتكلم الحُب )) تتعامل مع الشعر من تلك الزاوية حيث تقوم رؤيتها على تعظيم هذا الحُب و الإعلاء من شأنه ليكون الحُب هو محور الرؤية التي ترتكز حولها قصائد الديوان فتقول في قصيدة” قبضة العطر” التي تنتقد فيها نظرة مجتمعنا الشرقي للحُب ص39: (( ولحجز مقعد السعادة/ على متن قطار الأمل/ سأعزف على الملأ / حتى يصبحَ الحُب كما أهوى/ كالصليل في الدماء/ كمعصمِ ليلٍ / في خمرة سوار)).
ومن هنا تتجلّى أهمية حضور الآخر و وجوده فلا حُب بدون حضوره, فتقول في قصيدة” ساقية موسيقية ” ص26-27: (( فلا أنفاسً من دون صدركَ / و لا سلامٌ لفضاءٍ/ لا ينعشه شذا صوتكَ/ حين تُلقي عليَّ السلام)). لكن المُلاحَظ في معظم القصائد قيام العلاقة مع هذا الآخر على الغياب و الانتظار, لنلمس إحساس الذات الشاعرة بالاغتراب, فتقول في قصيدة” منتصف ارتواء” ص17-18: (( أيَّتها الذابلة بمنتصف ارتواء/ ما زلتِ المنسيَّة في رُكن المحبرة بين الكلمات/ لا شيء يعكس تجاعيد زمنك/ و لا ريشة ترسم في ساعتك اللحظات / شلَّتْ الجسور تحت أقدام حزنكِ/ و أنتِ هُنا بكل ما أوتيتِ من رغبةٍ/ لا يلون ذكراكِ فضاءُ قلبٍ/ فمَن يحاسب أمام ظلامكِ عدل نهاية المسلسلات؟!)).لهذا يكون الشعور بالاغتراب و الخوف في قصيدة” غربة الضوء” ص15-16حين تقول: ((لا شيء يؤازر نكبة القلب/ و عِزَّة عارمة/ لن يهزَّ صمتها البلل/ صراخها مقفل الجهات/ يغلي في جوف النُدب/ لم تكن الساعة تكفُّ/ عن مناقشة الجدار/ وخوف الليل من مغادرة الشمس)).و نلاحظ معًا جمال الصورة الشعرية الجديدة في نهاية المقطع حين قالت: ((لم تكن الساعة تكف/ عن مناقشة الجدار/ وخوف الليل من مغادرة الشمس)) مِمَّا يؤكد أنَّنا أمام شاعرة تمتلك توظيف الخيال الشعري ومتمكنة من أدواتها الفنيَّة. كما يتجلّى هذا الحزن و الشعور باغتراب الذات الشاعرة و معاناتها من أوَّل الديوان من خلال هذا المفتتح ص 5 حين تقول: (( أعِرْنِي دفأكَ لهذا البرد من الحُزنِ/ فالمطر موجِعٌ/ عسيرةٌ ولادةُ الغيمةِ/ فالسماء ترتدي الدفءَ دمًا / و معاطفُ الحُب باتت ضيِّقة/ لا تتسع لجسد الوردِ)).
و على المستوى الفني يعكس الديوان لنا صورة الشاعرة المثقفة حيث تظهر ثقافتها الواسعة داخل الديوان و خير شاهد على ذلك تلك المفتتحات التي استخدمتها لشارل بودلير ص10 و أجاثا كريستي ص56.
كما اعتمدت الشاعرة في معجمها الشعري على اللغة القائمة على الرمز مع التكثيف الدلالي في استفادة واضحة من لغة القصة القصيرة التي تقوم على التكثيف و لِمَ لا و هي تجيد كتابة فن القصة القصيرة بنفس درجة إجادتها لكتابة القصيدة, وقد طبعت مجموعتها القصصية هذا العام أيضًا بعنوان(( قاع الذاكرة)) و هذا التعامل الرمزي مع اللغة نلمسه في معظم قصائد الديوان لكن يكفي أن نقرأ هذا المقطع ص 83-84 من قصيدة ” حين يتكلم الحب ” لنعرف مدى الثراء الفني في لغتها القائمة على الرمز و التصوير و التكثيف فتقول: (( عندما انهمر الضوء/ من مآقي نسمة/ تعثّرتْ العاصفة/ و أعلن الخريف/ تفتّحَ براعم الشمس/ و إلهُ الحُب أعاد النزف/ لتملأ خوابي الخدَّين/ حُمرةَ اللمسة/ كانت تقيم في بيادر/ السنين العجاف/ عندما امتدَّت قشّة/ نحو نهر فوضاها…أهدتها النجاة/ سوف تمطر رغبة العطر/ على الأوتار القاحلة/ و ترقص مع الحقول/ أصابع البكاء/ و تُقبِّل رائحة الدرَّاق/ كرزَ دهشتها)).
و على مستوى الخيال نجد توظيف الشاعرة للصور الشعرية الجديدة المبتكرة و تلك نقطة تحسب لها وتؤكد أنَّنا أمام صوت شعري يسعى نحو التميُّز و عدم الوقوع في براثن التقليدية المستهلكة, و لنقرأ معًا تلك الصورة الكليَّة التي تحمل في تفاصيلها الكثير من الصور البلاغية الجزئية حين تقول في قصيدة” مساحيق الكلمات “ص97: (( عادت مُضرجة/ بحبر رسائله/ أصابع ثوبها / ما زالت تمسك / بمساحيق كلماته/ و صدأ ذاكرتها / يصمُّ آذان الرُمَّان/ في حقول أمسها)).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان (( حين يتكلم الحُب )) للشاعرة جيهان رافع يقوم في رؤيته على تعظيم قيمة الحُب مع التعبير عن وجع الذات الشاعرة و اغترابها, في قصيدة نثرية تقوم لغتها على توظيف الرمز بدون غموض مع التكثيف الدلالي و التجديد في الصورة الشعرية و استفادة واضحة من فن القصة القصيرة.