“إنّ القدرة على إدراكٍ حسيٍّ بمرتبةٍ بيانية للقصيدة يمكن التعبير عنها بالشرح الشعري هو الشيء الحقيقي الذي يَعجز عنه غيرُ أهل العلم بالشعر، وهو الشيء الذي يلتفّ حولَه المؤلفون المعاصرون حين يريدون الكتابة حول نص شعري؛ فمِن السهل -مهما بدا عملًا كثيرًا ومعقّدًا- أن أسود الأوراق بالشؤون (التوصيفية) ومن المتأتّي للدارس التراثي مِن غير أهل العلم بالشعر أن يسود الأوراق ببيان الغريب وبعض الإعراب ويستطرد في ذلك مِن حيث نفسه بعيدًا عن ذات القصيدة؛ أما إدراك البيان، ومِن ثَمَّ إدراك -أو تصور- رُتبة للنص في مصفوفة الأدب العربي جُملة، ومِن ثَمَّ تعليل ذلك بالشرح اللغوي البياني (وهو الشرح الشعري) فهو الشيءُ النادر الذي يلتف حوله الحداثي بالطلاسم والإحصاءات والرسوم البيانية، ويلتف حوله التراثي بالاستطراد مع الغريب والإعراب من حيث نفسه.
والسبب في ذلك هو أن الشرح الحقيقي للشعر لا يتأتّى لمن يَفعله على جانبٍ مِن علمٍ آخر بوصفه عِلمًا خفيفًا تكميليًّا كما يَظن المغفّلون الذين لا يَعلمون حقيقةَ الشعر؛ وإنما هو علمُ خاصةِ الخاصة؛ إذ يَشترط إلى قاعدة العقل والذكاء المشروطة في كل العلوم قريحةً ذوقيةً خاصة لا تتأتّى لكل عالمٍ في علمٍ آخر كما لا تتأتّى موهبةُ الشعر لكلِّ أحد؛ فكما أنّ الشعر موهبة فكذلك شرحه وفهمه في الأصل؛ وقد وَصَفَ الناقدُ الكبير الشاعرُ (حازمٌ القرطاجني) بعضَ الأئمة الفحول في علم الكلام بأنهم عوام جُهّال في علم الشعر ( ! ) وأنهم لا يصح ان يؤخذ منهم فهمُ الشعر! وصرَّح -هو وغيره كُثُر- بأنّ علم الشعر إنما يؤخذ عن أهله المتفرغين عليه المستهلكين فيه أزمانَهم”.