لصحيفة آفاق حرة:
الكنايات والتناص في نصوص “حانات الذكرى” لأنمار المنسي
بقلم. د. سلطان الخضور. الأردن.
يطفح كتاب “حانات الذكرى” الذي كتبته أنمار المنسي والذي احتوى خمسًا وعشرين نصا وزعت على ما يقارب الثمانين صفحة من القطع الّصغير, والتي أفردت سطورها بطريقة قصائد النثر, يطفح هذا الكتاب بالكنايات والتناص. وإذا علمنا أن الكناية في لغتنا العربيّة تعني أن تعطي الكلمة أو العبارة أو الجملة معنى آخر غير المعنى الظاهر معنى مخفيّا, كنوع من انواع البلاغة اللفظيّة, كأن نقول: ” فلان يشار له بالبنان” والمقصود الشهرة. “ولوح بغصن الزيتون” كناية عن السلام والأمان, وهادم اللذات كناية عن الموت… وهكذا, فإن التناص هو استيعاب النص الواحد لنص آخر أو أكثر, وقد يأتي التناص الأدبي كحالة من حالات التعالق, إما متطابقًا في النتائج الوظيفية للنص الأدبي وفي خصائصه البنيوية, أو متفاعلًا بتكييف النص الجديد على النص الذي تفاعل معه مع حفظ ألأهداف المقاصد في كتابة النص, أو متداخلًا حيث يتم التمازج بين النصين بحيث يخلق صلة بين النصين المتمازجين .
وقد أغرقت المنسي نصوصها بالكنايات ما يشير إلى بلاغة اللفظ والمعنى والتمكن من المفردات, حيث أوقعت مفرداتها الموقع الذي تريد لتعطيه معنى أعمق من المعنى الظاهر, وقد ظهر ذلك جليّا بين السّطور وأحياناّ كانت تمرّره من خلال العناوين, ولأن الأمر لفت نظري فقد ارتأيت أن تكون هذه القراءة لعدد من الكنايات ولعدد من التناصات الواردة في النصوص ومدلولاتها.
وتوضيحاً لما ذكرت فسأستل الكنايات والتناصات من بعض النصوص , وأوضّح وجه البلاغة في استخدامها, ودلالاتها.
ورد في النص الأول أشواق حائرة” غير أن الليل مدّ يديه لي” تأتي هذه العبارة بعد وصف الليل بالمدلهم الساخط على من كسرت أصابعهم على طاولة الانتحار وهي تراقب وجه الغريبات, فالليل هنا لا يسعف أحداً غير الكاتبة, كناية عن الحاجة لمنقذ فتجد يدا الليل تمتدان لإنقاذها .
أما في “وجع الحنين” وهو عنوان القصيدة الثانية فقد وردت كلمة وجع كناية عن شدة الحنين وما ينتج عنه من آلام حد الوجع.
وفي النص الذي يليه المعنون بـ” هذي أنا ” فقد وردت جملة “لكن نار الفؤاد لا تبرد” لتدل على القوّة والاستمراريّة في حالة الاشتعال, حيث جاءت هذه الجملة بعد ” كمجنون أنا في غسق الغروب الهارب للمجهول, خلف البحر أهمي, لكن نار الفؤاد لا تبرد, واللهيب يطفو على وجهي.
أما النص المعنون بــ” أغاني الشوق” فقد تضمن جملة ” وهواك يعذب مهجتي , يتركها كريشة في مهب الرّيح” كناية عن مدى تأثير الحب والهوى فقد وصل لدرجة ينتج عنها العذاب لمن وقع فيه. وكانت جملة ” هي ذاكرة أحلامي المدجّجة بالسّخط ” تحت عنوان غربة الروح كناية عن الحمل الثقيل الذي حملته هذه الاحلام فالذاكرة هنا دجّجت بالسخط كما يدجّج الجندي بالسّلاح فيصبح حملة كبيراً وثقيلاً.
أما التناص الوارد في النّصوص فقد ظهر جليًا في ” شقراء يا أنتِ” ” وعروس البحر تنام على الشّط , والحرّاس قد ذهبوا, ففي ذلك تعالق مباشر مع قصّة عروس البحر المعروفة والموجهة للأطفال.
وتحت عنوان “أنت …هناك” فقد وردت مفردات عديد ة مثل معبد خوفو, سمفونية فكتوريا صامتة, تعاويد حورس, قيثارة نفرتيتي, قبلات فرعونيّة, كأني كليوبترا جميعها مسميات تم اقتباسها من قصص العهد الفرعوني.
ثم جاء نص بعنوان أتذكرك ليحمل جملة” وإبريق الشاي فوق الحطب, يفور ولا ندري… أتذكرك” وفي ذلك تناص مباشر مع التراث, فجاء ذكر ابريق الشاي فوق الحطب, ليعطي ربما صورة للرحلات, أو لليالي الشتاء حيث تكثر مواقد الحطب.
أما نص “غربة السنابل” ففيه تناص مباشر مع قصص دينيّ, فقد ورد فيه ما يشير إلى العهدة العمرية وإلى قصة عذريّة السيدة مريم, وصوت المسيح “ع” فالعهدة العمريّة من التاريخ الإسلامي وميلاد المسيح وكلامه وهو في المهد من القرآن الكريم. ” إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك اذ أيّدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا –سورة مريم الآية 110.
و”ذات يوم” التي شحنت بمفردات من الادب العربي فكان ذكر لقيس وليلى وعنترة وعبس وكلها تعالقات واضحة مع الأدب العربي الجاهلي الذي يتحدث عن الصعاليك.
هذه نماذج من الكنايات والتناصات الكثيرة التي وردت في النصوص, ما أعطى النصوص قوة وجعلها أكثر متعة لكثرة ما فيها من الصّور.
ورغم أن غلاف الكتاب يوحي بالحيرة , ومحاولة انتزاع الذكريات من الذاكرة في حالة من السرحان العميق, إلا إنه مفعم بالرومانسيّة, استدرجت الكاتبة الكثير مفردات الطبيعة التي تنم عن أحاسيس عميقة, وعلت النصوص عناوين دالّة, وظفتها الكاتبة بشكل يخدم الفكرة, وقد استوقفني الإهداء حيث كان كالتالي” إنما أهدي حرفي إلى كل من زرع بدربي صخرة لا تكسر, وحنظلة لا تقلع, وشجرة سنديان يابسة, لا تضر ولا تنفع. هذا الاهداء جميل في معانيه إذ تستمد العزيمة عادة من الصعاب, وينبلج الفجر من العتمة, ومن الشوك يقطف الزهر, وفي الشدة تختبر الإرادة, فاستطاعت المنسي تحطيم الصخرة التي ظنوها لا تنكسر واقتلعت الحنظلة من دربها, وأورقت سنديانة ووضعتها بين أيدينا لنستظل بظلها, مع تحفظي على كلمة حانات التي وردت في العنوان.