وقفة مع نص للشاعر ناصر قواسمي بقلم أحمد وليد
حوار ذاتي
_ مِن أيْنَ
ندخُلُ الحياة
إن شِئنا الدٌخول لِلحياةِ
_ مِن جميع الجِهاتِ
يا صاحِبي
نَدخُلها مِن جميع الجِهاتِ
_ وكيْف نكتُبُ
عنِ الفرحِ
والحُزن ينامُ في الطُّرقاتِ
_ نغُضّ البصر
عنِ الطّريقِ
ونمشِي كالضّريرِ في ثبات
_ فإن أوقَعَتنا
على وُجوهِنا
أوْ سَدَّت الطّريق بالآهات
_ نَستَنشِق التُراب
يا صاحِبي
نرقُصُ كيْ ننجوَ مِن الآتي
_ فإن لم نستطِع
وعَجِزنا
أوْ ضَاقت النَفسُ بِالعثراتِ
_ حينها لا جدوَى
يا صاحِبي
أن تكون مِـن أهــــلِ الحياةِ
اللّعنة عليك
حتّى ترضى
مِن أيْنَ جِئتِني أنَــــا بالذات .
ناصر قواسمي
———————————-
النص عبارة عن حوار ذاتي غير عادي يتخطى حدود الذات ويتمرّد على الواقع، يُظهِرُ آليات الشاعر الفكرية و رؤاه في ذائقة مختلفة تماما في مفاهيمها عن التقليد، ومُستقلة في منظورها الخاص للأشياء. فإن كانت اللغة هي مادة الشاعر التقليدي، فإن الحياة هي مادته اليوم.
لقد انصب الشاعر على نفسه وحاورها عبر الآخر بأسلوب غير مألوف .. وبتركيبة لغوية ترمُز للإقصاء والتهميش وتُظهِرُ عجزٓ الأغلبية في لغة الـ “نحن” أمام مُتغيِّرٓات الواقع. والشاعر هنا لم يستثني نفسٓهُ إِذْ يُعلنُ عن صِراعه النفسي الدّاخلي في مُحاولة يائسة منه الإبتعاد ما أمكن عن قبضة الآخر في ذاته التي لا يراها إلا من خلال تمثُّل هذا الآخر فيه. بكلّ هذا العبء وهذا الحِمل تُكمِلُ الشخصية المتكلمة مسارها في القصیدة وتخُطُّ تفاصیل تحركها عبر الكلمات مُتٓمٓرِّدٓة على الواقع بشكل عام وعلى ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي بشكل خاص..
رغم كون الشاعر الآن موجود ويُشكل جزءًا مهما قد يصغر أو يكبُر في حيِّزه حسب علاقته بالآخرين، إلا أنه يحس أنه خارج نطاق الحياة، غير محسُوب بين الأحياء وإن كان حيًّا. فما مفهوم الحياة بالنسبة للشاعر؟
الحياة هنا لا يشيرُ بها إلى كونه كائن حي بل يقصد بها وجوده الفعلي والفعال داخل المجتمع وكل تبعاته ومتعلقاته، فهو لا يعتبر نفسه حيًّا إن كان منفصلا عن الناس والمجتمع، إنه خطابٌ ذاتي يبحث فيه الشاعر عن الكيفية التي تخوله دخول الحياة من جميع جهاتها. فلا وجود لكينونة الشاعر”أنا” منفصلة عن الآخر داخل إطار المجتمع بشكل خاص أو عام. وإن عدنا للشاعر كـ “ذات” شاعرة وفاعلة ومدركة إدراكًا تاما وفعلي لحجمها الطبيعي داخل المجتمع نجدها تقِرّ وجودها وتعطيه أهمية كبرى وإن تساءل الشاعر بلحظة من اللحظات عن كينونته بطريقة رمزية في سؤاله الإستنكاري عن الوجهة أو الجهة التي من خلالها يمكنه دخول الحياة. فهذه الذات الشاعرة تطمحُ لإثبات ذاتها داخل المجتمع إثباتًا مشتركًا بينها وبين الآخر “يا صاحبي” الذي يُمثِّل بقية المجتمع وليس المجتمع برُمّٓتِهِ. وهذه الـ “نحن” التي عبّر عنها بـ “صاحبي” هي التي تُرهِقُ الشاعر وتُؤزِّمُه فهو يحِسُّ أنه يحمل ثقلٓها وأعبٓاءها، يشتركان بنفس المعاناة ونفس المصير . فالحياة التي تجمعهم لا يعتبرها الشاعر حياة، بل مُجرّد مُحاولة للبقاء حيًّا، كل الظروف ليست مؤاتية لتضمن لهم حياة كريمة يتمتعون فيها بنفس الحقوق، إذ تفرض عليهم واجبات أكثر من غيرهم لكنها تحرمهم من حقوقهم في حين تتمتع طبقة معينة بالحقوق كاملة ولا تُفرض عليها واجبات.
مِن أيْنَ
ندخُلُ الحياة
إن شِئنا الدٌخول لِلحياةِ
_ مِن جميع الجِهاتِ
يا صاحِبي
نَدخُلها مِن جميع الجِهاتِ
“مِن أيْنَ؟” سؤال بديهي يفرض نفسه، بل قد يكون مطروحًا دائما بين الأوساط المغلوبة على أمرها، كأن يُطرح السؤال بصيغ مختلفة ومتشعبة، (من أين؟ كيف لي؟ من أين أبدأ؟ ماذا علي أن أفعل؟ …) كلها أسئلة تُحيِّر كل من يسعى لتحسين عيشه ودخول غمار الحياة من بابها الواسع والمضمون.
الشاعر يسأل وبنفس الوقت يجيب، عن مشيئة مؤقتة، لأنه ربما قد يشاء أن يُغامر ليدخل مُعترك الحَيَاة أو لا. فالحياة بزمننا أصبحت مغامرة، ومن يرغب بدخول هذه المغامرة عليه أن يكون مهيّئًا ومُستعِدّا.
الشاعر ناصر القواسمي يعرف مسبقًا أنه ملزم بدخول غمار المغامرة، لأنها مفروضة عليه ولا حق له في الإختيار لهذا يريد دخول الحياة من جميع جهاتها.. عليه المحاولة وبشتى الطرُق وهذا هو القانون الذي تفرضه عليك الحياة، ليس لك خيار فيه فأنت مُلزٓم بالسير فيها ولا حقّ لك في الوقوف بل وعليك طرق جميع الأبواب الممكنة واستخدام كل الإمكانيات التي تتوفر عليها.
وكيْف نكتُبُ
عنِ الفرحِ
والحُزن ينامُ في الطُّرقاتِ
هي الذات المبدعة تجد نفسها ومن منطلق اتصالها بالمجتمع مُكرهة على إخضاع عالمها الإبداعي للآخر في علاقة متصلة تظهر فيه نمط تفكيرها، اعتقادها وسلوكها..
هذه الـ “نحن” التي تهيمن على الخطاب وتسيطر على تفكير الشاعر ترغمه على الإنصهار فيها، فهو لا يجِدُ نفسه ولا يُثبتُ وجودها إلا من خلال الآخر. وفي خضم كل المعاناة والقهر والحرمان الذي يجمع بينهما ينطقُ الشاعر بصوت الجماعة إذ يتحوّل ضمير المتكلم إلى ضمير جماعي فيقول: “يا صاحِبي.. نَدخُلها مِن جميع الجِهاتِ”. فالشاعر لا يعيش منفردا منكفئا على ذاته غير آبه للآخرين بل تلك الـ “نحن” تعطيه قوة دافعة للبحث والتساؤل ما يخول له الإستمرار في الحياة ودخولها من بابها الواسع ” التفكير بالغير، مساندته والتضامن معه” وفرض الوجود من خلال آخر ينفصلان في التفكير ويجتمعان في الحياة، لهما نفس المصير.
_ نغُضّ البصر
عنِ الطّريقِ
ونمشِي كالضّريرِ في ثبات
_ فإن أوقَعَتنا
على وُجوهِنا
أوْ سَدَّت الطّريق بالآهات
_ نَستَنشِق التُراب
الشاعر يمتلك وعيا تاما بحاضره وإن نفى الآن ذاته التي يحاول التمسك بها وإثباتها والمحافظة على ثباتها والسير ولو بتعثر نحو مستقبل يعرف مسبقا أنه مظلم وأن الطريق التي يمشي فيها رفقة الآخر غير مضمونة “ونمشِي كالضّريرِ في ثبات” لهذا هو يسرفُ في استعمال الأفعال المضارعة ( نغض، نمشي، تستنشق…) هذا لا يعني إثبات الوجود أو المحافظة على الكينونة بقدر ما هو مغامرة وتنبؤ بما سيكون، فالطريق لن تحملهم وسيقعون حتما على وجوههم وهكذا لن يسعفهم سوى تراب الأرض يستنشقونه بدل أوكسجين الحياة. فالطريق مظلمة يملؤها الظلم والقهر، المعاناة والآهات، ليست مزهرة ولا وجود فيها للفرح لهذا يتساءل الشاعر كيف له أن يكتب عن الفرح، أن يسجله، يدونه ويجعل له تاريخا إن كان الحزن يتربصُّ بهم في الطرقات .. مهما حاولوا واختاروا طريقا صحيحا إلا ونالوا نصيبهم من الحزن والعذاب.
وبعدما يتمُّ الإختيار، ومهما غضُّوا البصر عن الطريق بكل ما تحمله من معاناة إلا أن النتيجة في النهاية هي الوقوع.
يا صاحِبي
نرقُصُ كيْ ننجوَ مِن الآتي
_ فإن لم نستطِع
وعَجِزنا
أوْ ضَاقت النَفسُ بِالعثراتِ
_ حينها لا جدوَى
أية رقصة هذه التي تساير الزمن ؟ تمشي معه جنبا إلى جنب، تُحاذِيه، وبنفس الوقت تتهرب من الآتي؟
و أي حركة يحاول من خلالها الإنسان النجاة وتجنّب الزمن وكل ما سيحمله؟
هذه هي لعبة الحياة، الرقص من أجل النجاة، من أجل الإستعداد والتأهب للقادم، فالدهر يحمل مفاجآت كثيرة، والحياة غير مضمونة والسير فيها مغامرة كُبرى وهذه هي قواعد اللعبة “لعبة الحياة” التي يعرفها كل من يُمارسُها، والشاعر مارسها ومازال ماضيا فيها يحثُّ الآخر على المسير ويهيئه مسبقا لما سيكُونُ فهو يعلم أن الطريق مليء بالعقبات والعثرات كثيرة والسقوط لابد منه لكن لا مفرّ من المسير في حركة راقصة بها نميل قليلاً يميناً وبعدها يسارا، نخطو خُطوة للأمام أو نعود خُطوتين للوراء في حركات نتجنب فيها عثرات الطّريق.
يا صاحِبي
أن تكون مِـن أهــــلِ الحياةِ
اللّعنة عليك
حتّى ترضى
مِن أيْنَ جِئتِني أنَــــا بالذات .
“يا صاحِبي.. أن تكون مِـن أهــــلِ الحياةِ” عليك أن ترقص، تتحرك، إنه التأهب للموت، فَفِي الحركة حياة والتوقف لن يكون إلا موتًا مُحقّقًا “فإن لم نستطِع.. وعَجِزنا .. أوْ ضَاقت النَفسُ بِالعثراتِ _ حينها لا جدوَى ”
متى كانت الحياة مدعاةً للرضى؟
“اللعنة عليك يا صاحبي إن كنت من أهل الحياة”، هي لعنة تستمر معك رضيتٓ أم لم ترضٓ سترافقك حتى الممات.
هو خطاب تصويري يحمل الضمير الجماعي ويخاطبُ الجماعة عن طريق توجيه الخطاب للصاحب الذي ينوب عن الذات وعن الآخر بصيغة الجمع. وقد جاء في شكل مشاهد تظهر عبقرية الشاعر الذي استطاع أن يوصل لنا فكرة القهر الذي يلازم الإنسان ما أن يشعر بالحياة، معاناة وقهر ترافقه في مشواره الحياتي لاتفارقه، تُفرٓضُ عليه فليس له سوى التحمل والرضى والمسايرة والصبر.
شاعر حرّك مشاعرنا وحرك عقولنا و وجّه تفكيرنا لما هو كائن وحادث ولا ننتبه له، إنها الحياة طبعا لن تكون إلا هكذا، والسير فيها لن يكون سهلا والطريق شاق . ومع كل هذا لكي نحيا ونعيشٓ الحياة نضطر في بعض الأحيان للرقص، وقد تكون رقصتنا رقصة الحي المتأهب للممات.
ودون أن يُقحمنا الشاعر في متاهة الزمان والمكان، فالمكان هو الأرض بمكوناتٍ خصَّها في “الطريق،الطرقات، الجهات،…” والزمان الذي سيطر فيه الحاضر على الماضي والمستقبل فالأفعال جاءت بصيغة الماضي والحاضر “شئنا، أوقعتنا، سُدَّت، عجزنا، ندخل، نكتب، ينام، نغض، نمشي، نستنشقُ، نرقُص، ننجو…” إلا أنه أقحمنا في “الحركة” فلكي نعيش الحياة علينا أن نتحرك، فَلا حياة مع الوقوف، فهي “رقصة الحياة” نتعلمها لنحيا، فالرقص حركة دافعة للأمام في المكان والزمان الآتي، لا نتنبأ كيف ستنتهي الرقصة، وإن كنّا سنرقصها للآخر أم لا، لكننا نتحرك في حركة راقصة لعلنا ننجو.. عكس الموت الذي يتربص بِنَا في نهاية الطريق فهو يُمثِّلُ حركة راجعة للوراء، إلى ما قبل الزّمن، فالزمن هو مقياس الحركة ، ولا حركة بلا زمن … ومهما تحركنا وتحدينا الزمن وكل ما يحمله وما سيحمله مستقبلا إلا أن النهاية لن تكون سوى توقُّف وانسحاب، عندها لا جدوى من وجود الزمن فالموت يُلغيه وبالتالي يلغي كل آتٍ.
“اللعنة عليك حتى ترضى .. مِن أيْنَ جِئتِني أنَــــا بالذات ” هذه الختمة اختصرت كل القلق والضجر والضيق الذي يُحسّه الشاعر فهو يلعن ذاته في الآخر، يلعن ضمير الجماعة فيه، ضميرٌ لا يهدأ، لا يستكين ولا يتوقف عن الحركة، حركة حرَّكت الشاعر فحرّك الآخر من خلاله هو، شاعر له القدرة على تحريك ما لا يُمكِنُ تحريكه، فقد حٓرّك الأفكار في عقولنا وأسنٓدٓها إلى فكرَة تمحورت عليها القصيدة وفق بناء لغوي تركيبي جعلنا نحاول الإجابة عن الأسئلة التي طرحها الشاعر لنصطدم باللعنة التي تُصيبنا كلما توغلنا كثيرا وحاولنا الفهم.. لعنة تصيب كل من حاول دخول الحياة، فٓهْمٓها والرقص معها.
ويأتي صوت الشاعر صارخا، غاضبا، ليُلقي لعنته قبل الرضى، لكنها لعنة لن تكون إلا بالرضى التام، ليتساءل في الأخير تساؤلًا عميقًا يصبّ فيه كل غضبه “مِن أيْنَ جِئتِني أنَــــا بالذات” إنه صوتُ ضميره هو من جاءه يحفر بعمق يوقظُ فيه كل المواجع.. والشاعر هنا إن لعن لا يلعن إلا نفسه، فلم نعد ندري إن كانت اللعنة علينا أم على الشاعر أم على القصيدة أم هي لعنة الحياة على الحياة وإن كانت عامة تخصُّ الْكُل ولا تستثني أحدًا.
كتب الشاعر قصيدته بطريقة مركّبة ومتسلسلة، تعتمدُ على قوة الإقناع وتستجيب لفضاء القصيدة الذي جاء وفق هندسة لم يُخطِّط لها الشاعر مُسبٓقًا، فضاء توفر على عناصر الزمان والمكان والحركة لم يترك فيه الشاعر مكانًا لفراغ إلا شغله وفق مشاهد وصور متحركة راقصة تتراقص معها النفوس متطلعة نحو غد أفضل، يُجنِّب فيه الشاعر ما أمكنه ذاته والآخر لعنة الحياة.
إنها حياة القلوب والضمائر، ليس كل حي يحيى الحياة جلهم يعيشون بلا قلوب ولا ضمائر يعيشون جثتا تتحرك، لا يتحركون إلا لمصلحة شخصية لا يهتمون للبقية(الناس والمجتمع) هو الجشع والطمع عمى القلوب وعتّم الرؤية.. لكن أن تمتلك قلبا حيا نابضا بالحياة وتعيش كل هذه الظروف التي يعيشها شاعرنا الآن حتما ستُصابُ باللعنة، لعنة ضميرك الحي فلن تستطيع العيش ولن تهنأ بالحياة. لهذا نجد الشاعر يختم كلامه بالتساؤل:
“يا صاحبي
أن تكون من أهل الحياة
عليك اللعنة حتى ترضى،
من أين جئتني أنا بالذات؟”
هو هنا يخاطب صاحبه الذي قلب عليه المواجع وأيقظ ضميره، لهذا يلعنه الشاعر ويسأله لماذا جاءه هو دون جميع الناس.
لكن هل كان شاعرنا غافلا أو نائما؟ هل كان بلا ضمير؟ طبعا لا، إنه صوتُ ضميره فيه ينفصلُ عنه يحاوره ويسأله، وكأننا بالشاعر منذ البداية كان يتحدث مخاطبا ذاته منفصلا عنها في ضمير لا يستكين، لا يهدأ ولا ينام.. وكأنه يتساءل لما هو بالذات يحضر ضميره ليعذبه بهذا الشكل الذي رأيناه في هذه القصيدة. ليثبت في الأخير أن بمقدوره دخول الحياة ومن جميع الجهات، لكن لا خروج منها إلا بلعنة تتبعك حتى الموت، موتك الفعلي وليس موتُ الضمير فيك.
أحمد وليد الروح