تشكيل الصورة في قصيدة النثر (حسام عربي نموذجاً)

بقلم : إلهام عفيفي(مصر)

لم يحدث الخلاف حول جنس أدبي ليصبح خلافا أدبيا وجوديا يصل إلى الحرب مثلما حدث منذ فترة طويلة حول “قصيدة النثر” ومازال حتى اليوم.
فحين ذهب ممارسوها ومناصروها (أدونيس وأنسي الحاج وإدوار الخراط وغيرهم) بأنها تجديد مشروع لشكل القصيدة العربية، وتعبير عن حساسية جديدة تواكب متغيرات العصر، يرى معارضوها من المحافظين أن المصطلح في حد ذاته متناقض فكيف يكون العمل شعراً ونثراً في الوقت ذاته؟ وقد وصفها بعضهم «بالقصيدة الخرساء» أو”عصيدة النثر» بما يعني أنها كائن هلامي يفتقر إلى شكل محدد.
وفي وسط الصراعات والاتهامات المتبادلة بين المعسكرين لا يستطيع أحد أن ينكر هذا اللون الأدبي الذي اقتنص الاعتراف به على ساحة الأدب، فصار له فرسانه ومجيدوه، وتم اعتماده في المعاجم العالمية والموسوعات المتخصصة، فجاء تعريفه بموسوعة برنستون المتخصصة في الشعر والشعريات بأنها (تكوين كلامي قابل لاشتماله على كل خصائص القصائد الغنائية، إلا أنها تكتب على الورق كالنثر وهي مختلفة عن نثر الشعر بالاحكام والقصر ولا يدخلها التشطير كما هو الحال في شعر التفعيلة، وكذلك تختلف عن فقرة النثر المختصرة بالإيقاعات المتواترة من الألفاظ، والوقع الرنان، والمجاز والتكثيف في الأسلوب التعبيري، وقد تحتوي على إيقاعات داخلية منتظمة، وفي الأغلب تتكون من فقرة أو اثنتين، في نصف صفحة، وقد يبلغ طولها ثلاث أو أربع صفحات، وفي هذه الحالة تفقد التوترات أثرها ) (موسوعة برينستون/1974) (1)
وحينما يتحدث م . هـ . أبرامز عن قصائد بودلير (سأم باريس) أو (إشراقات) رامبو، يرى إنه “نثر محكم بعناية شديدة ومتناسق ذو تكويناته رنانة ومنتظمة في سياق متصل دون استخدام التشطير” (معجم المصطلحات الأدبية/ 1957)(2).
ويرى معظم النقاد المؤيدين لقصيدة النثر أمثال أدونيس والماغوط وغيرهما أنها تحمل مميزات القصيدة الغنائية حيث تميزت عن سابقاتها بتحررها من الأوزان والقوافي والتشطير، مما يجعلها تفتقد لهذه الميزة، إلا أن تكتسب موسيقاها الخاصة من الصور البيانية والتشبيهات التي تقربها إلى القلب والمشاعر.
وقد اهتم النقاد العرب بالصورة في القصيدة الشعرية اهتماما بالغا منذ الجاحظ وحتى اللحظة، بوصفها عنصرا رئيسا من عناصر القصيدة عبر تاريخ الأدب العربي، إنطلاقا من معرفة العربي للشعر بأنه فن التصوير، حيث يمنح التصوير النصَّ جمالياتٍ وإبداعا.
وقد اعتبر محمد غنيمي هلال الصورة الشعرية في كتابه (النقد الادبي الحديث) أنها (الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة في معناها الجزئي والكلي، فالصورة جزء من التجربة نقلا صادقا وواقعيا)(3).
وترى د. هدى فخر الدين(4) أن قصيدة النثر لها جذور في التراث العربي الأدبي والصوفي.
وخلصت الكاتبة إلى أن قصائد النثر ليست كلاً متجانساً، وإنما هي إبداعات فردية تحمل ميسم أصحابها وتتحرك في اتجاهات مختلفة، فشعراء هذه القصيدة لا يشكلون مدرسة موحدة وإنما يتفاعل بعضهم مع بعض، يتلاقون ويتصادمون، يتبادلون الأصداء، يتحاورون ويبني بعضهم على بناء بعض. ومنجزهم إنما هو فضاء إبداعي فسيح يضع تراث الماضي موضوع المساءلة، ويطمح إلى تجاوزه. وتظل قصيدة النثر – كما تقول المؤلفة – شكلاً متمدداً لا يكف عن الاتساع، ويمتاز بالتنوع، وهي جزء لا يمكن تجاهله من تضاريس الخريطة الشعرية المعاصرة.
هذه المقدمة الطويلة نسبيا كتبتها بعدما قرأت قصيدة الشاعر حسام عربي الأخيرة (إهداء إلى الصهباء)، وقد تابعت أشعاره منذ ما يربو على 7 سنوات، ولفت نظري وقتها في نصوصه زخم الصور التي تتلاحق في تتابع سريع يجعلك تلهث وراء القصيدة، وتركيب الصور الذي يستخدمه بشكل يعطي شكلا ومعنى مختلفا سواء في أشعاره الرومانسية ولا سيما التي تحمل مرارة الإخفاقات وخيبات المجتمع العربي، وكذا أشعاره الصوفية التي تمثل ديوانا كاملا ينتظر الطبع، وقد أصدر الشاعر ديوانين “نساء ذبن في دمي” و ” إلى التي تمشي”، فضلا عن الكثير من القصائد المنشورة على صفحته الخاصة على الفيس بوك.
وتأتي كل النصوص من قصيدة النثر، ببصمة خاصة به، تشعرك أنه يسير حسبما تأخذه القصيدة، وليس العكس.
هناك شعراء يجيدون صناعة القصيدة، وهناك شعراء يكتبون ما يرسله الله الى قريحتهم كلاما بكرا لا تمسه يد الصنعة، والشاعر حسام عربي من هذا النوع، فهو يكتب القصيدة كما تأتي إلى قريحته، ولا يحاول تهذيب هذه المفردات والصور الجامحة، فيقول مثلا:
الإنزياحُ الأحمرُ
القادمُ من عوالمِ شعركِ…
يضربُ دنيا قصيدتي….
كلماتي تسقطُ تحت
أسوارِ صمتكِ….
أمْسُكِ يغتالُ يومي
وغدي
يفخخُ أحلامي
بثقوبٍ سوداء
يبتلعُ كل ما أملك من مجاز….
لا يلتزم الشاعر دائما بالسمات المتداولة في قصيدة النثر مثل البرهنة لأنه يكتب مبتعدا عن الوزن والقافية لتصير صوره وتراكيبه دون قيود، معتمدا على إيقاع الكلمة ولحن التركيب التصويري الذي يصنعه، غير إن القارئ لأشعاره سيجد فيها بعض الوزن وأحيانا القافية، حسبما يتطلب موضوع القصيدة وموسيقاها، كما يحيط قصيدته بزخم من الجماليات التصويرية، ويتجه بشعره في معظم الأحيان نحو الصوفية المطلقة، فتتشابك عنده العلاقات بين مفردات اللغة، فيخرج النص بنا إلى ضرورة الإصغاء لتلك التقنيات الجمالية الفكرية والمعرفية والشعورية، فعلى سبيل المثال يقول:
إني قطعةُ ثلج، في مقلاةِ زيت…
تتأبطُ نارَ العدمِ، فوا آلما بلا أملٍ
لا الزيت ولا الثلج امتزجا
وأنا.. وحيدٌ جدا …جافٌ جدا…
مستعدٌ جدا… للإحتراق…..
فراغٌ منك ..
أبحث في أعين المارةِ عن عناق….
ينسج الشاعر صوره من عالمه الخاص، فهناك صور وتعبيرات تميزه وله مفردات يوظفها بشكل خاص به فكثيرا ما يستخدم المفردة استخداما خارج التوافق العامي لها، لإدراكه أن التوافق على شيء لايعني الصحة المطلقة، بل إنه يعني أن هذا الموضوع قد توقف فيه البحث والتفكير، وهذا ما يتنافر تماما مع الابداع، حيث إن المبدع لا ينتج نصا إلا من خلال اضطرابه واهتزازه ومعاناته الخاصة والتي قد ترتبط بالعامة، والمفردة لابد أن يكون لاختيارها سبب، يتعلق بالموضوع والتقنية، وللشاعر نزعته في التصوير التشكيلي للصور، فيشعر القارئ بأنه يشاهد الصور التي يرسم تفاصيلها بالكلمات، فالعصافير هنا رواة يحكون له عن جمال حبيبته، العطر يعترف، والموسيقى تتحدث عن عبقرية الخصر، فكل المفردات الصامتة تلك تتحدث اليه وتصف ليرسمها، ولأن من يصفها صهباء تشعر ان لون القصيدة قد تحول إلى كرنفال ألوان يسيطر عليها البرتقالي والاحمر،
أصفكِ…. والعهدةُ على العصافيرِ
التي تقسم أنها تعلمت الغناءَ على يديكِ….
والعطرُ الذي اعترف أمامي
أنه يسرق الأريجَ منكِ….
وتحدثت الموسيقى طويلاً عن عبقريةِ خصركِ…..
الشفقِ الذي يستحم في شعرك كل مساء….
وحديثِ البرتقال وهو يغازلك ليل نهار….
كلهم قالوا… وأنا كتبت
كلهم وصفوا وأنا رسمت
أيتها الصهباءُ…
تأتي قصائد الشاعر حسام عربي متكاملة المعنى ومنسجمة المضمون والشكل والأسلوب، لكنه يسترسل أحيانا فيكرر نفس المعنى بتعبيرات وصور مختلفة، وكأنه يحاول إخراج كل ما في عقله من صور تتجسد له عند الكتابة، فهو يمتلك القدرة على تكثيف الصور البيانية والعاطفية والموسيقى الداخلية للنص فيقول مثلا:
بهاءَ حضوركِ جعلني….
أخلعُ وقاري… محاولاً
أن أنسكبَ في زيتونِ عينيكِ….
وفي لحظةِ الامتزاجِ..
يمنعني كحلُ عينيكِ المظلم…….
والضوء البليد….
متثاقلة قداماه……
يعدني بالسقوط …..
على صحنِ خدكِ الغارقِ
في حمرةٍ منثور عليها
ما تيسر من الشيكولا….
طفولتي تتقافزُ بداخلي…
إذ تلوحين من بعيدٍ
تهم بك…
ومن أبرز سماته الأسلوبية، اللجوء إلى الاقتباس والتأثر بالقرآن والسنة ، وكذا التناص مع التاريخ والأساطير في الأحداث والتناول فيقول الشاعر في إحدى قصائده:
يتفلتُ قميصكِ..
من بين أصابعِ القدّ…
ولم يكُ هناك ثَمَّة شهود
ينصفون الخديعةَ…
أسقطُ في الجبِّ لكن…
لن تلتقطني السيارةُ….
فكيف أباعُ لك..؟!
ولا أملكُ صواعَ الملكِ
فأخذك في دين قلبي……
صوتُكِ القادمُ من كوكبِ الموسيقى
أغرقني في نهر من ڤالس…
ضحكتكِ الذهب الذي
يتحدرُ من شفتيكِ
قلائدُ لن تزين صدرَ مساءاتي المتعبةِ…
إصراركُ العجيب ألا احدا يراك…
يمرّ ببالي عودُ الأراكِ
في فمِ فاطمة بنت النبي…
وسيفُ عليّ في الغمدِ يتوعدُ…
وأنا أرعدُ…
ولا مطراً يسقطُ…
خشية أن تبتلي…
وكلي ينسابُ عبر نافذتِكِ…
محاولاً أن يراكِ…
يمنعهُ الذئبُ الأحمر ..
والجيدُ المرمر…
والصوتُ السكر ..
وغاباتُ الزيتونِ النائمةُ
في عينيكِ…
وختاما يقدم الشاعر حسام عربي من خلال إبداعاته في قصيدة النثر ابتكارات تقنية متفردة في عرض تجربته الشعرية الرائدة، تستقي من خلالها قصائده في مبناها ومعناها ونزوع توجهاته لجماليات الفن التشكيلي.
فقصائده رسمها خياله المبدع في لوحات وجدانه المرهف بحساسيته الابتكارية المرهفة جداً، ونقلها، مباشرةً؛ على أوراق قصائده، وبكل السرعة؛ وقبل أن تجف فيها الألوان!!
*****
المصادر:
(1) The Princeton Encyclopedia of Poetry and Poetics, Princeton University, 1974
(2)A Glossary of Literary terms, M.H. Abrams 1957
(3) د.محمد غنيمي هلال، النقد الادبي الحديث،
(4) د. هدى فخر الدين أستاذ الأدب العربي المساعد بجامعة بنسلفانيا الأميركية، «قصيدة النثر العربية The Arabic Prose Poem» 2021، والصادر في سلسلة «دراسات جامعة إدنبره في الأدب العربي الحديث»

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!