رهان العقل امام مكيدة المقوسي / بقلم : علي حميد الحمداني

النصوص التي يكتبها الشباب هي نصوص تحتوي على قدر كبير من الصدق في الافكار التي تتناولها حتى لو اختاروا مواضيع من مخيلتهم يكتبون عنها … هذا لأنهم قبل ان يكتبوا فهم قراء جيدون تعاملوا مع النصوص التي قرأوها هنا وهناك من اعمال ادباء اعجبوا بهم ودققوا في مقومات الجمال في تلك النصوص وآلوا على انفسهم ان يدربّوا اقلامهم على الكتابة باسلوبهم الخاص يعبرون فيما يكتبون عن خلجات انفسهم جاعلين من سطورهم التي يكتبونها سفراء لدولة الابداع التي تتنامى طولاً وعرضاً في كيانهم ,, ولذلك يقتحمون عالم النشر على مستوى محيطهم الصغير الذي يشكل قسما من حياتهم الاجتماعية ويقرأون تلك الكتابات لأصدقائهم ,, وربما افراد اسرهم او حتى المحيطون بهم في العمل الّا انني تخليت عن قناعتي هذه في أمسية مميزة كنت حاضرا فيها مع جمع من الأدباء العرب في قاعة دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع ، كانت الأمسية مخصصة لتوقيع رواية للشاب موسى ذاكر المقوسي والتي تحمل عنوان ( الموت هو المكيدة ) .. حصلتُ على نسختي من الرواية واختلستُ النظر الى صفحاتها الأولى فجذبتني قوة الأفكار التي سطرها المقوسي وحاجة القارئ للمزيد من التركيز ليعي كيف اختطّ الكاتب طريقه في توثيق وبيان أفكار الجيل الذي ينتمي اليه وطرحه تلك الأفكار بزخم وتركيز متتالي مستقى من ثقافة عالية واستشراف لطبيعة النفس وما يعتمل فيها من حوار داخلي تمكن الكاتب من أن يكون طرفاً ثالثاً في حوار الذات مع الذات . رواية ( الموت هو المكيدة ) لم تكن رواية بالمعنى المتداول لنموذج الروايات التي تعودنا أن نقرأها لكنها نمط جديد من أهم ميزاته هو التوغل في العقل وتجسيد تلك الثورات الداخلية التي تحتل أفكارنا ، والأسئلة الكثيرة المرتبطة بتطورات الأحداث ، الأسئلة التي ندرك أن الاجابة عليها ستحل الكثير من عقبات تعترض عقولنا وتجابهنا بعدم القناعة بما حولنا ، عدم القناعة التي تملأنا بالشعور أننا واقعون ضحايا لما لا نؤمن به لكننا مجبرون على أن نعيش بتلك الكيفية دون أن نملك صلاحية الرفض أو حرية التغيير ، فالتغيير لن يتحقق برفض فردي ما دام القيد واحد والسجن الفكري هو سجن جمعي وليس انفرادي .. وهذا ما يتطلب ثورة فكرية وإعادة ترتيب الفوضى العارمة التي تسود فكرة ( البشرية ) وتجعلها تقف على حافة انهيار وكفر بكل القناعات ، المقوسي يرى أنَّ كل الفلسفات والايديولوجيات المتعاقبة في تاريخ العقل البشري لم تنتج دستوراً فكرياً صحيحاً كفيلاً بتنظيم علاقة الإنسان بنفسه ولا علاقته بإنسان آخر ولا بمجتمعه ولا بالمجتمع البشري عموما ً وأخفقت حتى في تنظيم علاقة الانسان مع الطبيعة .. هذه الايديولوجيات وبغض النظر عن مصاردها إن كانت سماوية أو نابعة من عصارة فكر الانسان نفسه وتراكم النتاج العقلي والتجاربي أدّت الى تقييد العقل وعجزه عن ابتكار خط شروع جديد لايديولوجيات أكثر جدوى ، ومن هنا تعسرت الإجابة على سيل الأسئلة التي أنتجتها إرهاصات الواقع وتراكمت تلك الأسئلة أمام بوابة العقل البشري الرافض للتعامل معها بالصيغ القديمة وما زال عاجزاً عن إبتكار المفاهيم التي تؤمِّن لها اجابات ، فتلك الاجابات لن تكون إلّا ثورة فكرية وفلسفية ما زال العقل البشري يقف على مسافة منها ، موقناً بوجودها لكنه لم يتبين ملامحها بعد .. وباختصار فإنّ هذا الشاب ( موسى ذاكر المقوسي ) أقنعني بالبشارة التي تحملها روايته ( الموت هو المكيدة ) وهذه البشارة يمكن تلخيصها بالقول ( ان البشرية لن ينقذها من مآسيها وبؤسها الا تغير اسلوبها الفكري وتتفحص قناعاتها مجددا وتشكك في ايديولوجياتها المتوارثة ثم تحقق انقلاباً على تلك القناعات ) . ويسعدني هنا ان اقتطع هذا النص من رواية ( الموت هو المكيدة ) .. أول قراءاتي لموسى ذاكر المقوسي . …. (( إن تشخيص الحالة الحالية للعالم بأكمله و الحياة عموماً هي المرض. لو كنت طبيباً و تم سؤالي عن العلاج, فسوف أجيب الصمت “سورن كيركجور لا أتوافق معه كثيراً في العلاج بقدر ما أتوافق في التشخيص إن المرض و أي كان نوعه هو حال العالم بأكمله الآن ينتشر بسرعة يصيب كل فرد حتى في أبعد نقطة من العالم, تسأل لماذا؟ كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ماذا فعلنا بأنفسنا؟ ترى نفسك فجأة في دهاليز من الضياع تسأل ما الإجابة؟ ما السؤال؟ إنها معضلة أن تبحث عن وجود إجابة غير موجودة لسؤال غير موجود لا أصل له يكمن البحث في وجود الإجابة من عدمها في أصل التساؤل الملح في عقلك. لا زال هذا العالم منطوي على المعنى الذي يطغى عليه وهو الإنسان الذي يسعى في سبيل هذا المعنى مهما بدت الاختلافات الثقافية فكل شخص له تأثير على معنى وجوده لمنحه الكيان الذي يتمتع به لكن ليس ضمن المستوى الفكري ذاته و لتجنب المرض الذي يمحي معنى وجودك ثمة طريقة واحدة و هي المواجهة و ليست الصمت مع أنها طريقة تتكبد فيها الخسائر لكنها الطريقة الوحيدة الممكنة و يمكنك القيام بذلك فهي قادرة على تحويل فكرك من العدم و الشعور بالعبثية إلى الوجود و رغبتك في الحياة رغم المرض كما يعيد الحب الدفء إلى قلبك. أن تخسر ليس بالأمر العظيم لكن العظيم أن تشاهد معنى وجودك يفتك به المرض شيئاً فشيئاً كلما ازداد صمتك حتى تشعر بأنه لا يوجد سبب لوجودك فلا تستطيع المضي في الحياة لأنك فقدت معنى وجودك , إن إدراكك لتفاهة الواقع شيء جيد بما أنك أدركت فأنت تملك القدرة على التفكير و إدخال نفسك في خيال تريده لتواجه المرض و الذعر الناشئ عنه. يقول نيتشه” إن الفن إنما يأتي في مواجهة الرعب الناشئ عن غياب أي معنى للحياة, ليبرر الوجود نفسه” من حين لآخر يغمرك هذا العالم بأمراضه تغرق ثم تعود لتجد نفسك في العالم نفسه أنت تعلم جيداً أن الأيام تمضي و تمضي معها الآلام لا بدَّ من ذلك لكن الفن كما قال نيتشه في مواجهة الآلام و الرعب الناشئ عنها الذي يدفعك لعدم إدراك المعنى من الحياة . لا تتكور على نفسك في عالم موحش لا تهمه بشيء تعلم الوقوف و الحصول على الأشياء التي ترغبها

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!