آفاق حرة للثقافة
بقلـم || هشام شمسان . أديب وناقد من اليمن
مفتتح :
○ دراسة العنونة في الكتب الشعرية، أوالروائية، والقصصية، من الموضوعات الشائعة في النقد الأدبي، إذ يهتم كثير من النقاد بتحليل نصية العنوان، لاستخلاص الدلالات، والرموز الإشارية التي تتأتى من إيحائيتها التركيبية. فالعنوان هو أحد الأيقونات المهمة التي تعطي النصوص هويتها الخاصة، ومنها ينسرب الناقد إلى تحليل الرسالة الشعرية، وفهمها، وتحديد العلاقة بين الشاعر ونصه، وفهم الظروف والسياقات التي كتبت فيها القصيدة، ودراسة مدى تأثير القصيدة على القارئ وكيفية تأثيرها على المشاعر والأفكار.
○ وتعد نصية العنوان هي أولى العتبات الجمالية للكتاب، إلى جانب لوحة الغلاف، واسم المؤلف، والإهداء، وتعيين الجنس..الخ..فالعنوان هو أحد الأمور الحساسة لدى أي كاتب؛ باعتباره نصاًّ محاذياً للنص الأصلي، ويمثل البوابة الأولى، لدخول القارئ إلى عالم الشاعر، بل وباب مهم للدخول إلى العالم البنائي للنصوص؛ ففي حين تعكس العنونة جانباً من هوية الشاعر، وموضوعه، وأسلوبه الشعري،فهي- أيضاً- بمثابة البطاقة التعريفية التي تمنح النص هويته.
وبالرغم من أن العنونة- التي تشغل واجهة الكتاب- قد لا تمثل سوى جزء محدد من المتن الداخلي، إلا أنها -أحيانا- قد تمثل جوهر الكتاب كله، بدلالتها على محتواه، ونمط كتابته. (*)
○ ويحرص الأدباء- عادة- على الوقوف أمام العنوان طويلاً؛ لأنه يعد المؤشر الأول لجذب القارئ، ودفعه لاقتناء الكتاب، والولوج عبره لمضمون المتن. ومع ذلك، فإن بعض الشعراء قد يعاني من صعوبة كبيرة في اختيار عنوان تعبيري مناسب، يدلل به على مضمون كتابه بطريقة شادَّة. وقد يلجأ البعض لتأخير طباعة بعض كتبه بسبب التردد في اختيار العنوان المناسب .
○ يمكن للعنوان أن يكون بسيطاً ومباشراً جداً، وغير لافت، مثل ” أحبك أولا أحبك” للشاعر العربي محمود درويش، و يمكن أن يكون فلسفياًّ، تجريدياًّ، مثل “سرير لعزلة السنبلة”. للشاعر المغربي محمد الأشعري. ومن الممكن أن يكون العنوان غرائبياً، جافاًّ نحو ” قيامة استفهام” للشاعرة العراقية نجاة عبدالله.
.وقد يكون العنوان جميلاً، وإيحائياًّ، ولكنه منافق، أي غير دال على مضمون الكتاب، والغرض منه دعائي تسويقي محض، مثل ” نادينكا” وهو عنوان رواية للكاتب اليمني عبد الرحمن الآنسي، يدور موضوعها كله حول شخصية الكاتب، ويتم إسقاط العنوان(نادينكا) على شخصية ثانوية عادية، غير نامية، ولاتأثير لها في العمل الروائي كله. ومثل ذلك يخلق الحيرة لدى القارئ، فيشعره بخداعية العنونة.
فعلى المبدع أن يحسن اختيار العنوان، بمايعكس المضمون، ويشد القارئ، للتطلع للمحتوى النصي.
○ إن أذكى العناوين تلك التي ترتكز على ملمح “الإيحاء السيميائي” القائم على تثوير الإسقاطات النفسية لدى المتلقي، بحيث تجره جرّاً إلى منطقة القراءة، والتأمل، بغض النظر عن نوعية التركيب الإبلاغي، وليكن شاهدنا على ذلك (كبرت كثيراً يا أبي) كتركيب قائم على اعتبار لفظي محض (مباشر)، ولكنه إيحائي الدلالة. فهو “يلقي المعنى في النفس”، ويولد فيها الأثـر.
▦ “كبرتُ كثيرًا يا أبي”: السيرورة والتحولات .
لا نبالغ حين نقول بأن موضوعة العنوان تختصر في دلالتها سيرة تحولية محورها الشاعر، وفضاؤها العام الطفولة، والأبوة، والأسرة، والمجتمع، والوطن. وتسرد تمرحلات السيرورة العمرية بوجوهها المتباينة(صبا.شباب.شيخوخة.) وتنضوي فيه محمولات اجتماعية، وثقافية، وأيدلوجية، وفلسفية لمعاني الرفض، والتقدير الأبوي، والتمسك بالطفولة، برغم هشاشتها، وهامشيتها. وكسر الاستسلام لعبثية الحياة، وفنتازية الأحلام، ومركزية الفقر، والحاجة، والتصادم مع الخوف، والموت، والعزلة، والقيم ….الخ.
○ ففي تعبير “كبرتُ كثيراً” استعارة ضمنية للزمن، وتبدلاته، وتغير أحواله، وعدم القدرة على العودة إلى الوراء. كما يتضمن اعترافاً بالنضج الشخصي، والنمو الجسمي والعقلي، والعاطفي، والروحي. ويأتي-ذات التعبير- في سياق تغيير المواقف، والأفكار، وفي سياق المراجعة الذاتية، لوصف التغير، من خلال استخدام الفعل الزمني(كبرتُ).
وقد اختار الشاعر الفعل الماضي (كبرتُ)+ (صيغة المبالغة” كثيرا” التي تدل على الثبوت، ليعبر بهما عن اليأس القطعي الثابت من إمكانية العودة بالزمن إلى الماضي، مع تجدد الانفتاح المستقبلي لمزيد من التقدم بالعمر . ولو كان قال: ” شختُ يا أبي” كما قالها الشاعر طه الجند في إحدى قصائده؛ لكان أغلق المعنى التكثيري للعمر؛ لأن فِعْـليّة (شختُ) لأ تؤدي وظيفة دلالية متطورة، ونامية، ناهيك عن إيحائيتها الجافة.
أما تعبير ” أبي” فيحمل رمزاً عاطفياًّ، وشعورياًّ : فالأب هو المرجع الأول والشخص الأول الذي تتعلق به قيم ومعاني كثيرة، منها الأمان، والحب، والحنان، والاحترام، والنصح، والإرشاد .
ويأتي حرف النداء(يا) ليؤكد تلازمية تلك العاطفة بين الأب، وابنه، بما يبثه النداء من مشاعر الاستئناس البوحي.
وفي مجمل العنوان نرى صورة تشخيصية للأب، يتفاعل فيها الشاعر مع أبيه على نحو حميمي، دافئ، وحزين- أيضاً .
▦ من سيميائية العنوان، إلى تجليات النص :
“غدًا سأرتدي نظارة طبية
سأرى الأشياء بوضوح رجل ثمانيني
وسأبدو أكثر نضوجاً، وحكمة .
في طفولتي تمنيت أن أرتدي نظارة
وأن يتساقط شعري،
لأبدو عبقرياً
كان الصلع مرتبطاً بالذكاء في نظري
وكان تفكيري غبياً.”
………..
تذكرت نظارة أبي..
كنت أرتديها لأرى نفسي كبيراً
……….
تذكرت نظارة ابني الصغير،
حين ينام، أرتديها لتسحب نظري، وأكون مثله
تمنيت لو قايضته بعيوني، ويعطيني نظارته. (ص3،5)
……………………..
○ الاختيار يدور حول فكرة التغيير، والتطور العمري، والمحاكاة، والتضحية، والإيثار، بوصف الشاعر خواطره تجاه ارتداء النظارة الطبية، وتأثير ذلك على طريقة رؤيته للأشياء، وعلى شكله الخارجي. فهو يريد رؤية الأشياء على نحو مختلف، مما كان بدون نظارة. فالنظارة لديه رمز للحكمة، والعبقرية، وهي كذلك رمز للشيخوخة، وظهورالتجاعيد، وتساقط شعر الرأس، وظهور الصلع، وفيها إيحاء تفضيلي، يتسم بميل، وعطف، وشفقة خاصة لابنه، الذي يتمنى أن يقايضه ببصره، مقابل النظارة .
المفارقة الجميلة- في مقطعٍ تال- تكمن في استبدال لغة (النظارة) بلغة (المبْصَرة) للتعبير عن معانٍ فلسفية مختلفة :
▦ “أحتاج (مبصرة) لأرى ما يخبئه لي القدر
لأرى قلوب الأصدقاء
لأرى العطر وهو يتكون من الورود المسحوقة
لأرى الكنوز المخبوءة تحت جدران الأيتام…” (ص6)
جميل هذا التحول الإبلاغي.
فـ(النظارة) التي استعملها في المقطع الأسبق كانت لرؤية أشياء احتمالية التحقق، مثل الحكمة، والعبقرية، وتقدم العمر، وتساقط الشعر، وهي أشياء مستقبلية، جائزة التحقق، بينما استعمال (المَبْصَرة) – بتقنية الإبصار التي تعني النفاذ إلى مكنونات الأشياء، وجوهرها، جاءت لتعكس همًّا، رؤيويا، وحدسياًّ يتمثل بالحاجة إلى رؤية الحقائق المخفية في الحياة، كتمييز تفاصيل الأشياء الواقعة خارج نطاق (النظر) ومنها الحاجة لرؤية الآخرين بطريقة أفضل، وأكثر وضوحًا، ومنها كذلك “رؤية قلوب الأصدقاء”.
ومن ذلك الرغبة في الاستمتاع بتفاصيل الحياة الصغيرة المهمة، التي مثَّل لها بتعبير “العطر وهو يتكون من الورود المسحوقة”
كما تأتي هذه الرؤيا الخارقة بـ(المبصرة) لتعكس الحاجة إلى مساعدة الآخرين، والكشف عن الحقائق الدفينة والمخفية في الحياة، كمعرفة “الكنوز المختبئة تحت جدران الأيتام”. وهو تعبير يؤكد قيمة، وأهمية المشاركة الوجدانية، والمادية مع البائسين في هذه الدنيا.
وفي دلالة (المبصرة) يكمن الفضول الفطري المتخيل للإنسان الباحث عن الحقائق اللا منظورة في الحياة، والتي لا يمكن لنا أن نجدها دونما توظيف للعقل، والقلب، وبالأدوات المناسبة.
▦ وفيما يشبه الفصول الروائية، ينتقل الشاعر- في سردية تالية- من مقطعية متنقلة بين الطفولة، والشباب- بترميز النظارة، والمبصرة- إلى مقطعية زمنية متقدمة في العمر :
▦ “كبرت كثيراً ..
شعري يبيض كل يوم
دون أن أصل إلى معنى الوقار..
بدأت باستهلاك النصف الآخر من عمري
أنتظر السكر والضغط كل يوم
وأتأمل الذين يحملون نصف أجسادهم الميتة
ويمشون بقدم واحدة.”
بدأت أتمرن على قيادة الكرسي المتحرك
وأفكر في ليونة الإسفنجة التي يلصقونها على العكاز
لا أزال محتفظا بهيكلي العظمي، دون أي كسر
لاأحب كلمة هيكل !….. (ص9)
وهي تجربة ذهنية متخيلة عبر الشعور بأنه يفقد جزءًا من ذاته، بالتقدم في السن، دون الوصول به إلى معنى الوقار.
ويمكن تحليل هذا المقطع سيميائيًّا كالآتي :
•• يشير “الشعر الأبيض” إلى العمر المتقدم، وفيه تمثيل رمزًي للخبرة والحكمة.
•• “النصف الآخر من العمر ” يشار به للوقت الضائع، وللأحلام التي لم يتم تحقيقها بعد.
•• “السكر والضغط” يمثلان رمزًا للمشاكل الصحية التي تؤثر على الجسم مع تقدم العمر.
•• “حمل الناس أجسادهم الميتة”، يمثل رمزًا للضعف، والعجز الجسدي.
•• “الكرسي المتحرك والعكاز” يمثلان رمزًا للإعاقة الجسدية.
•• تمثل “الإسفنجة التي يلصقونها على العكاز” رمزًا لـ(الوسادة) الناعمة التي تعين الشخص المسن على التحرك بشكل أفضل، وأكثر راحة.
•• عبارة “لا أزال محتفظا بهيكلي العظمي/ يشار به إلى الحالة الصحية الجيدة، وفي التعبير إيمائية توحي بإمكانية المقاومة والثبات في وجه التغيير، والتحديات.
•• تعبير “لا أحب كلمة هيكل! ” فيه إيحاء إشاري عميق، مرتبط بالهوية الدينية العربية، مقابل الفكرة الدينية اليهودية المرتبطة بـ(الهيكل) ، لذلك السبب فالشاعر لايرغب بذكر كلمة (هيكل) المزعجة في وصف الجسد، ويفضل الاستخدام اللفظي الحر، الأكثر نفعًا ووضوحًا للحالة .
وقد تؤول النصية بما يشير إلى عدم الرغبة في تسمية جسم الإنسان بكلمة توحي بالصلابة، والعجز وتقييد الحرية، ولكونها- أيضاً- تعكس استدعاءات نفسية منفرة، وبغيضة لدى الشخصية الشعرية .
▦ الليل بغيض يا أبي
يعرض علي صور الموتى والمفقودين
يذكرني بكل حوادث الطائرات
التي شاهدتها في نشرات الأخبار (ص 31)
……………
……………
“الظلام يعضني مثل كلب،
أتحسس خوفي
وأحاول تشذيب الفزع في حاجبي..
أشعر بيد تتجول في الغرفة،
يد فقط.
لا أجرؤ على مصافحتها (ص40)
○ الصورة الرئيسية هـٰهنا، موضوعة “الخوف” ومن جزئياتها: الفراغ، والوحدة، والانطواء، والضغط اليومي، والاستدعاءات التذكرية، وتقوم- في مجملها- على تفصيلات نفسية، وإنسانية، يختلط فيها الواقعي، بالفلسفي الفـوبيّ.
وهي صور شائعة للانتكاسات، ومسببات الموت، وترتبط عادة بتجارب شخصية أو رؤى عامة للمجتمع، يتم استحضارها بناءً على المعرفة الخاصة والخلفيات الثقافية للشاعر .
يوظف الشاعر “الليل” كرمز للظلام المرتبط بـ(تيمتي) الحزن، والخوف، ويشتجر ذكره بصور الموتى والمفقودين، والحوادث الجوية، بما ينم عن انطباعات شخصية مكتسبة من وسائل الإعلام، وهي صور حادة تتأتى من صدمات الواقع اليومي.
لنعاين نسقية “الظلام يعضني مثل كلب” تلك التي تعكس معاني نفسية ارتدادية تتمازج بالتوتر، والاضطراب. وتتموقع دالة “الكلب” لتعطي إشارة رمزية مرعبة، لحالة الرهبة من الظلام. ويأتي خيار: “أحاول تشذيب الفزع في حاجبي” ليمثل الحالة العصبية القلقة، ومحاولة تهدئة النفس والسيطرة على المشاعر.
وبمعنى تأويلي فلسفي أعمق، فإن تعبير “الظلام يعضني مثل كلب” قد يشير إلى الحياة البشرية المعاصرة، التي قد تُشابه الظلام، وترهبنا بطريقة شبيهة بكلب مسعور يعض .
وإجمالاً فنحن أمام شخصية تتحسس خوفها من الحياة، والمستقبل، وتحاول التركيز على تخفيفه- مااستطاعت- من خلال استخدام تقنية “تشذيب الفزع”.
○ وإذا كنا- فيما سبق- قد توقفنا عند عنصر الخوف السلبي، كـ(تيمة) مسيطرة، فثمة خوف إيجابي نبيل، نسوقه في السردية الآتية :
▦ “أخاف من العيون التي تضع عدسات لاصقة،
من الأظافر الملونة
من صدور السليكون”
مخاوفي كثيرة
لا أريد البوح بكل التفاصيل ” (ص13)
………………..
○ نزعة الخوف هنا مختلفة إبلاغياً، لأن فيها تحريض إيجابي قائم على عدم الثقة بالزيف الخارجي، وهو بنية متعلقة بتناقض الجمال الظاهري، مع الجمال الداخلي الحقيقي، ويدعو إلى الاحتراس من الأشخاص الذين يعتمدون على العناصر الخارجية لتحسين شكلهم الداخلي. فالرسالة الشعرية في هذا التعبير تنبئ بضرورة التعامل بحذر مع ما يظهر لنا من جمال خارجي مزيف.
إن فكرة الخوف- على إطلاقها- قد تولد مشاعر ذات صلة بها، مثل عدم الثقة بالنفس :
▦ “ليس لي “برستيج”
أمشي وأتلفت كطفل مندهش بكل ما حوله
أرسم قلبا على غبار السيارات
المركونة منذ زمن
إحيي نفسي برفع حاجبي
في واجهات المحلات الزجاجية ” (ص29)
○ اصطلاح” البرستيج” قائم شعريّاً على وظيفة نزوعية : إما بالحس مثل امتلاك الشهرة والمال، ووسائل الترفيه، والجمال، والوسامة.. أو بالتخيل، مثل الإحساس بمشاعر التقدير والاحترام من قبل الآخرين.. أو بالقوة الحركية الناطقة، التي يستعمل فيها وسائل الأعضاء المتحركة إرادياًّ كأن تمتلك القوة الجسمية، واللياقة البدنية، أو الفصاحة اللسانية، وبدون هذه الأدوات، أو بعضها- على الأقل- فأنت هامشي، وضعيف.
ولأن الشخصية الشعرية، هنا، تشعر بالتضئيل، فقد أصر صاحبها على أن يتخطى هذا المفهوم، ويصنعَ لنفسه “برستيجه” الخاص به؛ لاجئاً إلى فكرة البساطة المتمردة. فصنع من مسرودة :”أرسم قلباً على غبار السيارات، المركونة منذ زمن”.
” برستيجاً” عاطفياً متخيلاً، مركزه القلب وتمثيله الحب العشقي، المقرون بالأمل .
وصنعَ من سردية ” أحيي نفسي برفع حاجبي/ في واجهات المحلات الزجاجية” برستيج الثقة بالنفس؛ رفضاً للحياة الروتينية التي يعيشها، وبحثاً عن الجمال في الأشياء البسيطة ،والتركيز على الأشياء المثيرة للإعجاب، والنظر إلى العالم بعيون طفلية، مليئة بالدهشة والفضول ..
……….
○ في المناجاة الروحية نقرأ هذا الاختيار :
▦ انا طفل ياالله
أحتاج أن أضحك، لينبض قلبي أكثر
نحن هنا ياالله
نحتاج إلى صراطك
كي لا يسقط ماتبقى منا
نحتاج إلى حبلك
بعد أن التفت كل الحبال
على أعناقنا.
(ص92،93)
○ لهذه المختارة الشعرية انزياحات نفسية قوية، بالرغم من كسرية النظام الـدُّعائي فيها، الذي يخرج به عن مبدأ الاحتراس .
فالقياس الشرعي ألَّا يُستعمل في الدعاء مع (يا) اسم الذات الإلهية، وإنما تُستعمل الصفة الدالة على الربوبية (يارب) فهي الأقرب نفسيّاً، والأكثر إمداداً بطاقة الإيحاء، والأكثر صوابية سياقيّاً من (ياالله) .
وعلى سبيل التوضيح، والتمثيل، فنحن لا ننادي آباءنا بأسمائهم الذاتية، عند إرادة الحاجة منهم، أو حتى عند لومهم، أوإبداء الغضب أمامهم ، وإنما بصفتي (أبي- أمي) ، أو بصفات أخرى محببة إليهم. ونستبعد نداءهم بالاسم الذاتي، احتراساً من الخروج عن أدبيات التعامل معهم .
ولكن بعض الشعراء يفضلون التفخيم الدلالي للكلمة، على السياق التدليلي للمعنى، وهذا يضيع عليهم الكثير من الجمال الداخلي للنسق، على حساب بهرجة الشكل الصوتي للمفردة اللغوية..
وفي المختارة أعلاه استخدم الشاعر حرف النداء(يا) للتدليل به على أن ثمة مسافة بين الإنسان، وخالقه، واستعمل كلمة (الله) في سياق المنادى: ( أنا طفل ياالله)، (نحن هنا يا الله)، (أحتاج اسمع صوتك يا الله) ومثل هذه الأنساق الندائية لاتحمل معنى الدعاء المؤطر بالحضور القلبي، كما نعلم، لأن الجو النفسي للداعي مليء بالتذمر، والإحباط، والسخط. ولربما تعمد الشاعر مثل هذه الصيغ الندائية ليوحي بها إلى هشاشة الضعف الإيماني الكائن في معظم البشر، أولئك الذين لايدركون كيف يتم التعامل مع هذا الخالق؛ لذلك فهم يجردونه حتى من ربوبية الدعاء التي أمر بها في كتبه، وتعاليمه.
ولكن بالرغم من ذلك، فالنصية فيها اقترانات، وارتباطات كثيرة؛ بتوافقها مع روح الطفولة البريئة، وحاجتها إلى الاطمئنان وتجاوز المخاوف.
فـ(الطفل) هو ذلك الإنسان المعاصر الذي يحتاج إلى الحب، والأمان، والاستقرار القلبي، والوجداني، ولكنه مضطرب نفسياً، متململ روحياً، متقلب وجدانياً، ويحتاج إلى معية الله، وقربه، واتصاله لتثبيته، وتوجيهه إلى صراط الحق، حتى لايسقط في فخ الدنيا، فيخسر قيامته.
✮ ثمة إعجاز علمي طبي في قول الشاعر: “أحتاج أن أضحك، لينبض قلبي أكثر” .
فالطب الحديث يؤكد بأن “الضحك يساهم كثيراً في تحسين الصحة القلبية”. فعند الضحك تزداد سرعة نبضات القلب، وتتحسن الدورة الدموية، وتزداد كمية الأكسجين التي تصل إلى الأنسجة والأعضاء في الجسم، فيمنح المرء شعورًا بالسعادة، والانغمار في الانتعاش..
▦ تختيم :
مازال هناك الكثير من المقاطع الملهمة التي تغري النقد بالتوقف عندها، وسرد إبلاغاتها، وتأويلات محمولاتها الانزياحية، والإيحائية، ولكن حسبنا هذا الحيز منها الآن، على أن يكون للمستقبل- إن شاء الله- رؤية في إمكانية تقديم دراسة ضافية لجانب محدد من الديوان .
○ القصيدة الروائية:
يهمنا أن نشير في هذا التختيم إلى أن ديوان” كبرت كثيراً يا أبي” ، وإن كان ينحو إلى في تجنيسه إلى نظام قصيدة النثر (الشعر الحر)، إلا أننا وجدنا أنها المرة الأولى التي نجد فيها ديواناً بهذا التجنيس الذي يلجأ إلى تقنية الرواية في تنضيد نصوصه، فهو قائم على نص واحد مكون من 160 صفحة تقريباً، معتمداً فيه الشاعر على الأزمنة المتقطعة الأشبه بفصول الرواية الحديثة: فنحن نقرأ نصاً ذات زمنية طفولية ثم تأتي مقطعية تالية ذات زمنية متقدمة (شيخوخة) ثم ينقلنا إلى نصية بعمرية شبابية، ثم نصية بعمرية مختلطة الأزمنة، والأمكنة، وهكذا يدور بنا الشاعر في زوايا وأقبية الأزمنة، والأمكنة، كما تدور بنا الرواية عبر تقطيعاتها الفصولية. ومما لوحظ فيها بروز الصورة المشهدية الكلية للنص، إلى جانب الصور الجزئية، والصورة الكلية تكون عادة في القصص، والروايات، وليست في نظام “قصيدة النثر” (الشعر الحر) تحديداً، إلى جانب اختيار العنوان الذي جاء معبراً عن المحتوى كله، وهذا قليل في كتب الشعر،أن يجيء العنوان ممثلا للمحتوى كله.
وتأسيساً على هذا النسق الشعري، يجوز لنا أن نقول:” إن هذا جنس جديد من الشعر، يمكن أن يطلق عليه “القصيدة الروائية” ، فيكون الشاعر اليمني عبد المجيد التركي هو مؤسسها، ورائدها الأول.
—————-
(*) كعناوين الكتب الروائية، والقصصية، وكتب التاريخ، والسياسة، والدين، مع استثناء الشعر، الذي قد يكون العنوان فيه غير لازم للتعبير عن كامل المحتوى المتني فيه، فقد يختار الشاعر عنواناً معبراً عن موضوعات متنوعة في ديوانه، وقد يكون العنوان مرتبطاً أحياناً بموضوع شعري محدد، يشكل إما الجزء الأكبر من الديوان، أو مرتبط بقصيدة واحدة، فحسب، ومن القليل أن تجد عنواناً شعرياًّ، يمثل البناء الداخلي كله .
……
● ترجمة الشاعر :
عبد المجيد محمد أحمد التركي، شاعر وكاتب وصحفي، من مواليد 1975، اليمن – صنعاء. يعمل مصححاً لغوياً بصحيفة الثورة الرسمية، ويعمل مشرفاً لملحق اليمن اليوم الثقافي. صدر له عام 2004م عن وزارة الثقافة ديوان شعري بعنوان (اعترافات مائية)، وصدر له “هكذا أنا” ديوان شعر، عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر، 2016، كما صدر له “كتاب الاحتضار” ديوان شعر، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016.
– “كبرتُ كثيراً يا أبي” هو الديوان الشعري الرابع، صدر عن مؤسسة بدور التركي، 2023. الأردن .
– عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وعضو هيئة تحرير مجلة الثقافة 2004-2006، وعضو هيئة تحرير مجلة دمُّون الثقافية. شارك في ملتقى النص الجديد في القاهرة 2010م، وفي المهرجان الشعري السادس بمدينة الرقة- سوريا 2010م. ومهرجان يوم القدس العالمي- تونس 2012، ومهرجان التصالح ونبذ العنف- العراق 2013، ومهرجان معتقل الخيام- بيروت 2013..كما شارك في المؤتمر الشعري الرابع لشعر المقاومة- طهران 2013م، ومهرجان في الكويت 2014م بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس رابطة الأدباء الكويتيين.