” ..من اجمل وأبلغ ما قيل في مكة المكرمة شعرا وغناءا يجعلان كل مؤمن متيسر السبيل إلى حج البيت ، مع كل حرف ونغمة وصوت، يحلق طائفا بالبيت الحرام ، ساعيا بين الصفا والمروة وقد مدت له جسور من الأعطار وأزكى الأطياب يعبرها نحو الروضة الشريفة .
فيما يلي شرح واف لابيات القصيدة العصماء لعملاق الشعر العربي سعيد عقل ، كنت قد قراتها منذ سنواته للكاتب والناقد السوري خطيب بدلة رأيت هنا إعادة نشرها لمن لم بستطع إلى حج البيت سبيلا ..
👇👇👇
غنيتُ مكةَ

23 آب 2018
خطيب بدلة
ثمة رواية متداوَلة تفيدُ بأن “سعيد عقل” نظمَ قصيدة “غنيتُ مكة” إكراماً للمخرج الفلسطيني صبري الشريف الذي يكنُّ له أهلُ الموسيقا والغناء في لبنان مودة كبيرة، ويتحدثون عنه بوصفه ذا يد بيضاء على النهضة الفنية في لبنان، إضافة إلى أنه أخرج معظم الأعمال المسرحية الرحبانية مضفياً عليها جماليات باهرة.
والحقيقة أن مناسبة كتابة قصيدة غنيتُ مكةَ غدت الآن قليلة الأهمية بعدما أصبحتْ من الأغاني الخالدة. تعودُ أهميتُها، برأيي، لعدة أسباب:
السبب الأول هو أن مغنيتها فيروز، وقد قال أنسي الحاج ذات مرة: ما من مكافأة لشاعر أكثر من تغنّي له شاعرةُ الصوت فيروز.
السبب الثاني هو الاسم الرحباني، واللحن الرحباني الذي نُبْخِسُهُ حَقَّهُ لو قلنا إنه رائع فقط..
السبب الثالث اسم سعيد عقل الشاعر الكبير. (بغض النظر عن تصريحاته السياسية التي كانت مستهجنة في حينها، ولكنها أصبحت شيئاً من مخلفات الماضي).
السبب الرابع أن الفريق الذي أبدع الأغنية كله (فيروز وعاصي ومنصور وسعيد) مسيحي، بينما “مكة” هي حاضرةُ المسلمين وقبلتهم.
نص القصيدة
غنيــــــــــــتُ مكةَ أهلَها الصيدا، والعيدُ يملأ أضلـــــعي عيــــــــــدا
فرحوا فلألأ تحت كل سماً، بيتٌ على بيت الهــــدى زيـــــــــدا
وعلى اسم رب العالمين عَلا، بنيانُهُم، كالشَّهْب ممــــــــــدودا
يا قارئ القرآن صَلِّ لهــــــــــــــــم، أهلي هنـــــاك وطَيِّبِ البيــــــــــدا
مَنْ راكــــــــــــــــعٌ ويداه آنستا، أن ليس يبقى البابُ موصـــــــــودا
أنا أينما صلــــى الأنامُ رأتْ، عيــني السماء تفتحـــــــت جودا
لو رملةٌ هتفتْ بمبدعها شَجْوَاً، لكنـــــــــــــــــتُ لشجــــــــــوها عودا
ضج الحجيج هناك فاشتبكي، بفــــــــــــمي هنا يا وُرْقُ تغريدا
وأعز رب الناس كلهم بيضــــــــــــــاً، فلا فرقـــــــــــــــــــــتَ، أو سودا
لا قفرةٌ إلا وتخصبها إلا ويُعْطَــــــــــــــــى العطـــــــــــــــــــــــــــرَ لاعودا
الأرض، ربي، وردةٌ وُعدت، بك أنت تَقْطِفُ فاروِ موعودا
وجلالُ وجهك لا يزالُ رَجَـــــــــــــــــــــــــــــاً يُرجى وكل سواه مردودا
قراءة القصيدة:
يجدر بي، بدايةً، أن أشكر الصديق “عبد الغني عون” الذي شاركني البحث عن الأسرار البلاغية الكامنة في قصيدة غنيتُ مكةَ، (وكنتُ قبل ذلك قد استشرتُ الصديق نجيب كيالي حول بعض الحالات الصعبة). وقد توصلنا، عبد الغني وأنا، إلى بعض الاستنتاجات:
ألف- لنلاحظ أن فعل “غَنَّى” يتعدى بحرف اللام، وبنفسه، فنقول: غنيتُ لمكةَ، وغنيتُ مكةَ، والشيء الطبيعي أن يختار سعيد عقل الصيغة الثانية، لأنها الأكثر بلاغة، وبها يصبح الغناءُ أكثرَ قُرباً من المدينة المُغنَّى لها، وأكثرَ حميميةً. وسرعان ما يَحذف الشاعرُ حرفَ العطف: غنيتُ مكةَ (وَ) أهلَها الصيدا. والحذفُ من أساليب البلاغة العربية، ومن فعالية الحذف وجماليته أنه يدفع الذهنَ للبحث عن المحذوف.
وهناك، أيضاً، احتمال أن نعرب “أهلَها”: بَدَلْ. فيكون المعنى: غنيتُ أهلَ مكةَ.
و”الصِيدُ”، في بعض معانيها: الكرماءُ الذين يتصيدون الضيف تصيداً لأجل أن يكرموه.
باء- يوجد في الكون سماء واحدة، وفوقها، بحسب المفاهيم الدينية سماوات. وأما قول سعيد (فَرِحُوا، فلألأ تحتَ كُلِّ سماً بيتٌ)، ففيه مجاز شعري مُبْتَكَر، بمعنى: ابتهجَ أهلُ مكة والمؤمنون، فتلألأت بيوتهم (سماواتُهم) العامرة بالهداية.
جيم- وعلى اسم رب العالمين عَلا: “على” الأولى حرف جر. “عَلا” الثانية فعل ماض، وبينهما جناس لفظي، والشَّهْب: هو الجبل الذي تعلوه الثلوج. فمع أن مكة مدينة صحراوية استعار لها سعيد عقل، للتشبيه، منظراً لبنانياً مألوفاً هو منظر الجبل المغمور بالثلوج “الشَّهْب”.
دال- نحن أمام قصيدة أُبْدِعَتْ مرتين. في المرة الأولى أبدعها سعيد عقل بالقلم والورق، وفي الثانية أبدعها عاصي ومنصور وفيروز بالصوت والنغمات. مبدعا الأغنية الرحبانيان أدهشهما البيت الذي يقول: لو رملةٌ هتفتْ بمبدعها شَجْوَاً، لكنتُ لشجوها عودا.. فوضعوا لهذا المقطع كُلَّ ما في جعبتهم من حب، وشجو، وتطريب، وتغريد، إذ بعدما تؤديه فيروز أول مرة يقدمون لنا موسيقا راقصة على إيقاعه، ثم تترنم به فيروز كما لو أنها تغني موالاً، ثم يعودون إليه ثالثة ورابعة..
في هذا البيت يتباهى الشاعر برهافته، فلو أنَّ حبةَ رمل أرادتْ أن تناجي ربها وتشكو له شجواً لكان هو، أي الشاعر، لسانَ حالها، ولكان هو “العودَ” الذي يترجِمُ بالنغم ما يجيش به قلبها.
ومن أسرار بلاغة هذا البيت حذف الفعل. فـ “رملةٌ” تُعْرَبُ: فاعلاً لفعل محذوف يفسره المذكور، تقديرها: لو هتفتْ رملةٌ!
هاء- يُحمِّلُ سعيد عقل البيت القائل (وأَعِزَّ رَبِّ الناسَ كُلَّهُم، بيضاً، فلا فرقتَ، أو سودا)، للقصيدة بعداً أخلاقياً سامياً، يتعالى عن شتى أنواع التمييز االعنصري أو الديني أو المذهبي.
واو- إعراب جملة (أعطاه عطراً): أعطى فعل ماض، الهاء مفعول به أول، عطراً مفعول به ثان. وسعيد عقل يُحول الجملة إلى صيغة المبني للمجهول فتصبح: يُعْطى العطرَ (لا عودا) أي يُهدَى الناسُ العطرَ الخالص، لا عودَه الذي يُستخرَج منه.
زاي- وكلُّ سواهُ مردودا: الأصلُ: كلُّ “ما” سواه، والشاعر حذفَ “ما” فأصبحت: وكُلُّ سواهُ.. وأما “مردودا” فهي خبر لفعل ماض ناقص. التقدير: كل سواه (ما يزال) مردودا.
حاء- مَنْ راكعٌ ويداه آنستا أن ليس يبقى الباب موصودا.
هنا يتجلّى تبتُّل الإنسان لربّه قرباً ومؤانسة، فـ “مَنْ” ليست للاستفهام، بل هي اسم موصول بمعنى “الذي”.. وراكعٌ خبرُها، وتفيد هذه الجملة التكثير، فهناك كثير من الراكعين يبتهلون إلى الله. و”آنستا” أشعرتاه بالأنس والقرب من الله مع إيمان لا يشكّ بأن باب القرب والرحمة والرجاء لا يوصد في وجه العباد.
طاء- ضج الحجيج هناك (في مكة) فاشتبكي، بفمي هنا (في لبنان) يا وُرْقُ تغريدا. “وُرْق” ومفردها وَرْقاء، وهي الحمامة. إنها واحدة من متلازمات سعيد عقل الشعرية. تتلخص في أن يحصل شيء وكأنه ردٌّ على شيء آخر، مثل: دقيت، طل الورد ع الشباك. والجميل هنا هو “الاشتباك” بين الحمامات في التغريد داخل فمه.
ياء- أنا أينما صلّى الأنام رَأَتْ عيني السماء تفتّحت جودا. هنا سعيد عقل، بخلفيّته المسيحية، يرى، بأفق مفتوح على الديانات الأخرى، أن البشر أينما صلوا، وكيفما خاطبوا ربهم، تتفتّحُ لهم أبواب السماء كرماً وعطاءً.
وكل عام وأنتم بخير
من موقع discoversyria-
——————————
تعليق كَتبَهُ:
——————————:(#ناصر بحّاح-عدن-):
——————————-
#من المفروغ عنه، أن قصيدة (غنيتُ مكةَ)لشاعرها “الإشكالي “سعيد عقل”
كانت وستبقى واحدة من خالدات الإنشاد الديني على مدى آماد مفتوحة لاحد لها!!..
@#وإن ماتناوله المُعلِق عليها الأستاذ(خطيب بدلة) هو مما لايختلفُ بشأن معظمه ناقدان، أومتلقيان واعيان لأسرار وعلوم اللغة من بلاغة و”بيان وتبيين”-حسب شيخنا المتقدم “الجاحظ”،وماإلى ذلك ممايتفرع عنها من الإحلال والإبدال، والحذف، والإضافة مما سأحاول الإشارة إليه لاحقاً على نحو وجيز، بما يسمح به المقام!!
@#على أنني أتجهُ الآن مباشرة إلى صاحب هذه القصيدةالشاعراللبناني، والعربي الكبير ،الذي يُعد، كماذهبتُ سابقاً شاعراً (إشكالياً)شعراً ،بل وسلوكاً حياتياً ،وهنا أعني تحديداً مظهره العام،فهو إشكالي إيجابي شديد النزوع إلى الإضافة والتجديد،والتخطي بشعره على كل ماهو مألوف،وجامد،وهذا بالطبع مما يُحسب له لاعليه،وقد أقدم رحمهُ الله على الكثير من ذلك في تجاريبه الشعرية الرائدة،الأمر الذي دفعه ذات مرة إلى المناداة باِستبدال العربية الفصحى بالعاميات المَحكية ،وماأظنه وقتهاقد قال ماقال إلاّ تبرماً من الحال الذي وصلتْ إليه العربية الفصحى من حال في تعقيدالتلقي التعليمي لها،والانفتاح على غيرها،وسيادة العاميات ،و(الفرانكو عربيات)في معظم البلاد العربية، ونعرف أن مناداته تلك قد قُوبلت بالاستهجان حد القول:(إن سعيد عقل بلاعقل)، لكن موضوعنا هنا لايتصل بهذه المسألة قدر ما وددتُ الإشارة إليه من تجليات (الإشكال) لدى شاعر استثنائي بمقاييس لاتخطئها الذائقة المتخصصة.
@#عودة إلى قصيدته “غنيتُ مكة”،وماقام به الأستاذ (خطيب بدلة) وهو كل المتقدِم بنا، أسمح لنفسي بالوقوف على بعض الاِشارات فيما يتعلق ببلاغة هذه القصيدة، ومنها على سبيل المثال:
*إن البلاغة العربية منذ (عبدالقاهر الجرجاني) ،و(وابن رشيق القيرواني) ومعهم وبعدهم كثيرون، قد جعلوا لمسائل بلاغية مثل التعدي والحذف قيمة جمالية تقتضيها لحظة القول أوالتعبير، وفي الوقت ذاته تم الاِجماع في حالات أخرى على أنه(كلمازاد المبنى وصل المعنى)!!
@#(إن هذه المرونة في الطرح البلاغي منذ ذلك الزمان لهي كفيلة كما أرى أن يُتيح مساحة أرحب للإبداع الشعري بأريحية محدودة، بوصف العملية الإبداعية وليدة شرعية للحرية التعبيرية.
مثال من قصيدة (عقل) :
@#غنيتُ مكة أهلها …..،يجوز هنا اعتبار البدل، كما يجوز اعتبار العطف أيضاً، دون اِ عتبارٍ لفعل التعدي أواللزوم، وأذهب إلى القول:إن غنيتُ مكةَ أجمل من غنيتُ لمكة
فالأولى قد جعلتْ من مكة في هذا الموسم (الحج) أغنية إنشاد أهل الأرض لرب السموات العُلىٰ،أجل مكة أغنيةُ تضرعٍ، وإنشادوتبهل وتراتيلُ جمعية إلى الله، حيث تذوب الفوراق بين الجميع…. إلخ.وفي القصيدةوردقول الشاعر:(من راكع، ويداه آنستا……
وهكذا!!
@#أماالحديث عن الرحابنة، وفيروز فليس له محل من الاختلاف.
بل هو منطق الاِتفاق على الإطلاق!!