كبرنا وبقيت الأحلام  في قصيدة ” حبلى بالوجع “للشاعرة الأردنية  رنيم أبو خضير

آفاق  حرة 

هاشم خليل عبدالغني – الأردن

 

فـي نص سردي يجـمع بين خصائص الشـعر والنثر تـقدم لنا الشاعرة ” رنيم أبو خضير ” قصيدة نثرية (حبلى بالوجع ) تتحدث فيها عــن مسيرتها العلـمية والعمـلية  ، نص يتسـم ” بتسلسل أحـداثه، وبالإيحاءات التي تستقر في الوجدان و الأذهان وبلغته الجميلة، بجانب ما فيه من تجربة إنسانية وحصيلة معرفية، بصرف النظر عن مستوى الاتفاق والاختــلاف معها”..نـص تنطبق عــليه إلى حد مــا ، مقــولة الشاعر الكبير ” ادونيس ” (إذا كــان الشــعر يتـسم بالكــثافة والإيجاز والإيــحاء والتوتر والمـجاز؛ فــإن النثر يمتلـك خـاصية الوضوح والسهولة، وبالاطراد والتتابع ). من هذا المنطلق فالشاعرة تحـاول مـن خـلال آلية التـذكر القبـض عـلى أحـلام هــاربة أجبرتها الظروف القسرية على التخلي عنها .

تبدأ الشاعرة سرد مسيرتها الدراسية من خلال إشارتها في مطـلع نـصها لدراستها لـمساق الفـلسفة ، فـي هـذه المرحلـة بدأت تغادر مرحلة الضعف  والتفكير الطفولي  لتنتقل لمرحلة الإدراك واكتمال النمـو والـوعي الفـكري ، وبـدأت الفجوة بين مرحلتي الطفولة والنضج تضمحل وتضعف ، بعد أن كسر الهم

والحزن براءة أحلامها وروحها ، وبعد هيجان واضطراب في إعمال العقل للوصول إلى شواطئ المعرفة والاطمئنان .

في ظل هذه الحيرة هناك سؤال يشغل بال الشاعرة ، (كيف طعم الموت !)  أي مــوت هــذا الذي تتساءل عنه الشاعرة ؟ هناك عــدة معـاني لهذه الكــلمة ، فبيننا الكثير مــن الــموتى يتحـركون يتحدثون يأكلون يشربون يضحكون ، لكنهم موتـــى … يمارسون الحياة بلا حياة !! قال غسان كنفاني رحمه الله : ” الحياة ليست نصرا، الحياة مهادنة مع الموت “.

بـدأت نقــطة التحول فـي حـياة الشاعرة  ، حين أجبرتها الظروف على ترك دراسة الصحافة ودراسة العلوم السياسية ، وبــدأت مــرحلة أخـــرى مـــن حياتها ، شكلت هـذه الأزمة أو الانكسار نقطة التحول وانتهى الحلم ..عندئذ بدأت الشاعرة  من جديد .. كبرت الشاعرة وبقيت الأحلام .وبقي التساؤل(كيف طعم الموت؟ !). – أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت –  كما قال فرانتز كافكا .

في صيف 2016
درست مساق الفلسفة
كانت يرعات قلبي  
قد بدأت بالنضوج
وفجوة الظلام تلاشت من أمام طفولتي
بعد أن فض الحزن بكارة روحي.

بعد فوران سريع في الفكر
كان لدي سؤال مدون لا يغيب
كيف طعم الموت !

كنت سابقا ادرس في كلية الصحافة
وثم تحول الموضوع إلى جانب آخر
وصار لزاما علي
أن ادرس العلوم السياسة

ترتبت على هذا التحول  القسري اللارادي( انقطاع الرجاء .. حين حِيلَ بينها وبين ما تأمله ) أثار نفسية مؤلمة، فأصبحت أيام الشاعــرة “حـبلى بالــوجع ” واليأس والقنوط ، فــأحست الشاعرة بأن الكون قد تأمر عليها ، بلا رحمة أو عطف ، دون أن تنبس ببنت شفه ، ولم تقوَ على المواجهة أو الصياح لطلب الـعون والمساعدة ، فهـذا الـكون أخـذ خفـية وبغير وجـه حق حنجرتي ، وتـرك طبقة فـوق طبقة مـن الصراخ ، الـذي لـم اصرخه تتراكم وتكبر بعضها فوق بعض .

بلا أي رد
بلا أي قرار أملك !

كان للكون إن يقطع حنجرتي
ادخل يده إليها وسحبها
كالمنشار .. بلا شفقه
دون أن انبز بصوت
دون أن يترك لي القدرة
على الصراخ والاستنجاد !

الكون
السارق الذي اخذ حنجرتي
وترك طبقات متراكمة من الصراخ
لم اصرخه تكبر فيّ ..

فـر الـكون بحنجرة حبـلى  مليئة بالمرارة والألم والقهر والصراخ والــذي اختنق في داخـلي .. ولـذت بـالصمت لأول مرة …وأصبحت أتحرك بلا غاية أو هدف .وأخذت تطلعاتي لتحقيق أهدافي وآمالي تخفت رويدا.. رويدا، ولكن الشاعرة تتعايش مع واقعها الجديد ، حين قــال أستاذها أنـت : (لديك فـلسفة اللاحياة .. وتملكين بـاطن وفـير الــمعاني! ) فهــل الشاعرة تؤمن بفلسفة ما وراء الطبيعة التي ” يُقصد بها كـلّ ما لا يمكن إدراكه بحواسّنا، وما يقودنا الفضول إلى معرفته ” … واتساقا مـع الفلسفة ودهـاليزها ، فـالأستاذ يؤكــد لتلميذته أنها ..تمـلك فـي طـويتها ودخيـلتهــا وعـقلـها البـاطن اللاشـعـوري واللاواعي ،كثير من الدلالات الإنسانية والمعاني المبتكرة الغير مألوفة  التي تحمل كثيراً من الصفات المحمودة .
وهرب بحنجرة تحبل بصراخ
لم انجبه..

علقت كرة الصمت لأول مرة
وفر الصوت مني

صرت أركض بلا ساق

واهبط من دوامة الطموح
سلم … سلم  .. نحو الحضيض.

أول محاضراتي
التي استعملها كدليل على وجودي
الآن
قال الأستاذ حينها :
لديك فلسفة اللاحياة
وتملكيين باطن وفير المعاني!

بعد أن تحدثت الشاعرة عن حياتها العلمية وخيبة أملها في دراسة  الـصحافة وتحـولـها لـدراسة العـلوم السياسية ، الآن تـخرجت مـــن الجامعة وتحمل شهادة جامعية ، ضاعت فرص سانحة للعمل وكما يقال : ( الفرص الضائعة لا تعوض ) ، رافق ذلك جراح وإحزان  لا حد لها ، وخيبات كبيرة لعدم تحقيق الشاعرة لما كانت تأمله وتتمناه وتسعى لطلبه ، بجسد مهدود لا فائدة منه ولا جدوى .

الآن بعد أن تخرجت
واملك شهادة جامعية
وفرص ضائعة كثيرة
وآسى لامتناهي
وخيبات وفيرة
وجسد عقيم

تقول الشاعرة شعـرت بالبهجة والسرور لتخـرجي ، ولـكن هــذا الفـرح والبهجة المؤودة ، جعـلني مرتبـكة وقــلقة ومـهزوزة ، كانت خيبة كبرى لأني لم أحقق هدفي في دراسة الصحافة ، إلى جانب ذلك كنت استفرغ كلمات المجاملة بدون إحساس في وجه هذه الدنيا التي حـرمتني مــن تحقيق ذاتي ،وجـمهور الـمارة يصفق بــدهشة شديدة لوجعي وألمي ، وعلاقتي بالناس محطمة ومنهارة لا أملـك لها حيلة ولا قوة ..فاقدة الأمل نتيجة إحساسي بالضياع .
فرح وقلب موؤدد
ومعلق فيه عقد الخيبات
وأحزان عظيمة
وكلمات ميتة اتقيئها
في وجه هذا الكون الأزرق
ويزقف المارة
ذهول
احتفاء بوجعي
(وعلاقات محطمة
مروية ومنشورة للملأ
ليشهدوا
حزن الضياع  )
وحب لا يشبع
الحزن منه
ووجهة بلا عنوان

     اركض بلا وعي نحو جهة غير محددة .. الصمت يبتلعني ، والهـم والحـزن كـذئب شرس صعـب الـمـراس يلتهم فــراشي  يؤرقني أرقاً لا ينتهي … أدركت الشاعرة أن أحلامها الوردية ولـدت لأم عقيمة عـاقـر، فــأجهضت أفـكارها واكتشفت أنــها تشرب من بئر المتاهة الحالكة ، فالشاعرة تتساءل  في نهاية المقطع متى تتخلص من عقم أحلامها .
اركض نحوها
وصمت يأكلني
وذئب شرس يلوك فراشي

أرق لا يشبع مني

وأمومة عقيمة
 ( لرجل طفل لرحم الحب
لا يصل رحمة
عاق
ولئيم )
لا اعرف متى تتركني

تستمـر الشاعـرة في توصيف حــالتها النفسية بين فرح لم يكتمل وبؤس شديد لا يحتمل ، هـذا البؤس أصبح من طقوسي الليلية وأصبحت على توافق تام مع ظلام شديد .

حالة الشاعرة المضطربة انتقلت عدواها وانتشرت في حارتنا فتشير الشاعرة لمــا تحس به جاراتها مـن ضيق وخـيبة ووجـع حين يستعجلن بزوغ الفجر ليرتحن من محاولات فاشلة يائسة من أزواج عجزوا عن إشباع  رغباتهن الجسدية .

وبؤس وفير
أمارس فيه الليل على مهل
ووئام مع ظلام دامس
يخرج من قلبي
ويشع يملأ حارتنا
تصرخ جاراتنا كثيرا
لكي يطلع النهار
لترتاح أجسادهن من طمع أزواجهن
الذين لا يشبعونه

بكل ضيق وغصة تؤكد الشاعرة أن لكل شيء تاريخ انتهاء إلا الإعراض عن الحبيب وهــجره ، فــإنه يتسع ويزداد وينـمو جلياً ظاهرا في رحم الألم الكبير ، من رحم الوجع تولد الوحدة وحب العزلة ، التي تستوطن جسدي وروحي .

تنتقل الشاعرة للحديث عن الحزن والألم الناتج عن الهجران ، فتشبه الشاعرة الحزن كممارسة الجنس لأول مرة ، ففي كل مرة يتجدد فيها الحزن يزيل عذرية وبراءة القلب فيتجدد الجزع والخوف الشديد  المخلوط بالشك ..

علمت أن لكل شيء تاريخ انتهاء
( المعلبات ، الطعام الليل والود والحزن والأرق والسعادة والعلاقات والزواج والحب وووو).

لكل شيء تاريخ انتهاء
سوى الهجران
يكبر .. يتضخم ..
وينبت
في رحم الوجع العظيم
فتولد أفواج الوحدة
ممنوعة من الرحيل
عن موطنها جسدي

وإن الحزن
كممارسة الجنس
لأول مرة
وكل مرة يفض بكارة قلبك
بذات الهلع
والوجع
والريبة وكأنها الأولى!

 

    نتيجة ما مرت به الشاعرة من عدم التوفيق في دراسة الصحافة ، فإن لسان حالها يقول : (احذروا فخ الفرح )، فـقد ساهـــمت تجربتها المريرة  في تكوين رؤية تشاؤمية غير علمية ولا عملية ، لعل التساؤل المطروح

( هل الكوب فارغ أم ممتلئ ؟ ) فكما هو معلوم ” المتشائم يرى النّصفَ الفارغ من الكأس، بينما يرى المتفائلُ النصف الممتلئ منها “- فالتشاؤم هو سلوك عقليّ يتوقعُ نتيجةً غير مرغوبة لموقفٍ معيّن- فالشاعرة تركز على سلبيّات الحياة متناسية إيجابياتها .

الآن عرفت
أن الفرحة فخ
والتعامل مع
مهمة الحياة اليومية
كالتعامل مع الجزار
السكين كلام لاذع

الآن عرفت

في المقطع التالي تعاتب الشاعرة أحبتها الذين كرروا ذبحوها  ( بدون سكين ) حين بالغوا في تعذيبها وخنقنها ، حين حالوا بينها وبين تحقيق حلمها ، ولكن الشاعرة أمام هذه الضغوط  لم تستسلم ولم تلغ عقلها وما زالت أحلامها حية في وجدانها كأني بها تقول : ” ما زلت أقاوم ” تتابع الشاعرة  سردها الشعري قــائلـة : الآن أستطيع أن اصــرخ ” وأقـول عــرفت طعم الموت !” ولكن ..ما طــعم الموت الذي عرفته الشاعرة ؟ إنه الموت حياً .. حين لــم تحقق أحلامك وأمانيك فأسوأ مــا قــد يُصيب المرء هو أنّ يفـقد شهيتهُ ورغبته للـحياة وتصبح دواخله هشة ، وروحه مـوزعة بين زنزانة التعاسة والانغماس

في جوع الحلم الضائع .

زاد من حرارة اللحظة الشعرية التي تعيشها ذات الشاعرة ” رنيم أبو خضير ” وهي تستعيد ما قاله الشاعر الكبير محمد الماغـوط :-  ” إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى .. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء ” كـما أكـد ذلك – برتولت بريشت – حين قـال :- ” لا تخـف كثيرا مــن الـموت، بـل من الـحياة الناقـصة ” .

فكأن الشاعرة تقول :- كبرنا وبقيت الأحلام ، مؤطرة بأنفاس الأحلام والأمل ، فالشاعرة الآن تتكئ عـلى أحـلام بـدأت تكـبر فـي داخـلها ، وتتوسد ذراع الأمومة الحاني والتعب، كما تؤكد الشاعرة أن لا نهاية للضوضاء والمشقة والبكاء … وتختم الشاعرة نصها بمخاطبة أستاذها (عرفت طعم الموت يا أستاذ .. ومنذ ما خلقت وانأ أمارسه!.. ) .
وكل يوم يذبحني الأحبة مرات كثيرة
ولا أموت
الآن امدد يدي إلى حنجرتي
وأقول عرفت طعم الموت !

امدد يدي إلى أطفال يكبرون فيّ
وأتوسد سرير الأمومة والتعب
حبل لا تاريخ لإنجاب له
..
الضجيج.

عرفت طعم الموت يا أستاذ
ومنذ ما خلقت وانأ أمارسه!..

في الختام ،القصيدة تختزل تجربة ذاتية ..  في سردية ذات أبعاد إنسانية لشاعرة شابة ، جوهرها مطاردة حلم لإنسانة سكنتها الأحلام ، ضمن إطار فردي بعيداً عن أمواج التزييف .

في القصيدة نعثر على لغة جميلة وصور بديعة التشكيل والكنايات  كما أن القصيدة نبض إنسانة مسكونة بهم ذاتي لجد الغليان ، تفجر حروفا من الصدق ، وقد كانت الشاعرة  في أمسّ الحاجة إلى أن تنثرها كتابة ، ” كي لا تبقى تمور في وجدانها وتؤرقها. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير” .

     رنيم أبو خضير 24 عاماً من مواليد مدينة الزرقاء الأردنية ..تخصص علاقات دولية ودراسات إستراتيجية ، كتبت الشعر في سن مبكرة ، إعلامية تعد البرامج الإذاعية وتقدمها  في إذاعة الظليل ، وتحضر لتقديم دراسات عليا.

نشأت في بيت أدبي والدها  شاعر لكن اختار عدم الظهور تربيت على الأدب والقوة والصلابة والحنان والأمان وقوة الشخصية .. كتبت رواية قصيرة نشرتها وعمرها..17 عاماً( قبرك لي يا وطن) ستقوم دار نشر في نيوزلندا بترجمة كتاباتها إلى ثلاث لغات، تنشر قصائدها و كتاباتها في عدد من المجلات والصحف إلى جانب المواقع الكترونية .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!