كتب. د. مصطفى عطية. الأنساق الظاهرة والأنساق المضمرة في رواية “اليهودي الحالي”.

لآفاق حرة

 

“الأنساق الظاهرة والأنساق المضمرة في السرد الروائي: رواية اليهودي الحالي لعلي المقري نموذجا”

بقلم. د. مصطفى عطية. مصر

وخلاصة هذه الدراسة أنها تتناول منهجية النقد الثقافي Cultural Criticism الذي أحدث تغيرات كبرى في الدراسات الأدبية خاصة، وفي العلوم الإنسانية عامة، فقد كان بمثابة رأس الهرم الذي يعتلي جملة من المعارف والعلوم، بدءا من التحليل الأدبي، ومرورا بالفلسفة والتاريخ، وانتهاء بعلم النفس والاجتماع، وغيرها من المعارف الإنسانية؛ التي تساعدنا في فهم أدق وأعمق للنص الأدبي، وما فيه من إشارات ثقافية ودينية وتاريخية ولغوية؛ في تقاطعها مع البنية النصية، وجماليات الأسلوب. وبذلك، بات النص الأدبي وثيقة أو مدونة، تنفتح على المجتمع المعبرة عنه من خلال ما يبثه المتن من أفكار ومعارف واتجاهات، إلى القارئ متلقي النص، بوصفه المستهدف من فعل الكتابة.
فالنقد الثقافي –وفق مفهوم ليتش- هو استراتيجية في التحليل يستخدم المعطيات النظرية والسوسيولوجية والتاريخية والسياسية والمؤسساتية، دون التخلي عن منهجية التحليل الأدبي، ويتسع مجال البحث فيه، ليشمل مختلف النصوص والخطابات، مستفيدا من مناهج التحليل العرفية مثل تأويل النصوص، ودراسة الخلفية التاريخية، على نحو ما نجده في تفكيكية دريدا، وتحليل الخطاب عند فوكو، وما بعد البنيوية عند رولان بارت، حيث تكشف الممارسة الفعلية للتحليل الوظيفي كما يقول ليتش عن أنظمة عقلية ولا عقلية في الخطاب، بعيدا عن التحليلات الإيديولوجية، مع الأخذ في الحسبان أن هذه الأنظمة دائمة التغير والتشكل.
فالنسق محور مركزي في النقد الثقافي، ويتحدد مفهومه حسب وظيفته، حيث تتم الوظيفة النسقية في وضع محدد ومقيّد، عندما يتعارض نسقان من أنساق الخطاب: المضمر مع الظاهر، وقد يكون المضمر ناسخا وناقضا للظاهر في النص الواحد، ويشترط أن يكون جماليا، على أن تقرأ هذه النصوص قراءة تشريحية ثقافية، وليست جمالية فحسب، لتخضع مختلف الدلالات للكشف والتحليل والتأويل، مع الأخذ في الحسبان أن الدلالة النسقية ليست من صنع المؤلف، ولكنها مكتوبة بفعل ثقافي شامل يضخ محمولاته في ثنايا الخطاب( )، والفعل الثقافي يعني التصورات والمفاهيم والقناعات والتحيزات السائدة في المجتمع، والتي تنعكس بشكل تلقائي في النص، وكأنها ميثاق في اللاوعي، بين الكاتب وبين قرائه في مجتمعه.
وتمثل رواية “اليهودي الحالي” لعلي المقري (الكاتب اليمني)، نموذجا يمكن تطبيق منهجية الأنساق عليها، بالنظر إلى طبيعة مضمونها الذي يتناول قضية العلاقة بين اليهود والمسلمين في مجتمع اليمن في القرن السابع عشر، مثيرة إشكالية التعايش بين أقلية دينية متمثلة في اليهود، والذين هم منغلقون بطبيعتهم على أنفسهم، ومتمسكون بديانتهم، بوصفهم شعب الله المختار، في مجتمع مثل اليمن، تدين غالبيته بالإسلام.
وتعودبنا الرواية إلى حقبة سابقة للمجتمع اليمني، كنموذج للمجتمعات الإسلامية، التي حوت أقليات دينية ومذهبية عديدة، في دلالة على أن النسق التاريخي يوحي بأن التعايش المجتمعي كان عنوانا لهذه الحقبة، بل هو عنوان للتاريخ الإسلامي كله، وقلّما قرأنا أن هناك مشكلة مع الأقليات اليهودية أو المسيحية، أو حتى صراعات حربية معها، ربما تكون هناك فورات غضب أو احتجاج، ولكن الثابت في التاريخ الإسلامي الممتد لما يقارب من أربعة عشر قرنا؛ أن أتباع الأقليات الدينية (المسيحية، واليهودية، وغيرهم) تمتعوا بمكانة طيبة، حيث تم تأمينهم على معابدهم، واحترام شعائرهم وشريعتهم، ونالوا مناصب رفيعة في دولة الخلافة وفي الممالك الإسلامية، حافظوا بها على كينونتهم الدينية، التي منعتهم من الذوبان التام في المجتمع المسلم. كما حفظت الدولة المسلمة كيان أهل الذمة بشكل عام.
والمأخذ الأساسي على الرواية أنها لم تقدم لنا تفصيلات تشعرنا بالحقبة التاريخية التي كُتِبت فيها، سواء على صعيد الوصف السردي لليمن في هذه الحقبة، في الشوارع والحارات وتخطيط المدن وشكل البيوت، والأطعمة والأشربة وغير ذلك، لنتعرف على شكل المدينة اليمنية وأحوال أهلها في القرن الحادي عشر الهجري، وكان السبيل للمؤلف في ذلك هو الاطلاع على كتابات المؤرخين في هذه الحقبة، فضلا عن دراسة الآثار المعمارية المتبقية منها، ليكتمل المتخيل التاريخي في ذهنه،
ونرى أن الرسالة الأساسية التي يرومها المؤلف في روايته أن التعايش كان قائما بين اليهود والمجتمع اليمني المسلم خاصة، بوصفه نموذجا لحال اليهود في بقية المجتمعات الإسلامية، وهذا مقصد المؤلف- في رأينا- من اختيار هذه الحقبة التاريخية، قبل العصر الحديث، وبالطبع فإن الوضع في العصر الحديث يختلف عن الماضي.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!