الشاعرة : فتحية الدبش تكتب : ثلاثيّة الصّمت
1-
نَزْفٌ يستعيد حضوره الذّهني ويهذّب ما تبقّى من الحكاية و شخوصها، لم يكن ذلك عسيرا فحَوْله ملايينٌ من الشّخوص التي تصلح لممارسة اللّعبة، يجهّز المكان و يطفئ كلّ نقطة ضوء عدا شاشة اللاّب توب، و يبدأ النقر.. طق..طق..طق… تخترقه الرّصاصة القادمة من هناااااك…
2-
الشّاهد الأخير يلتقيان في الممرّ الطّويل الفاصل بين ال هنا و ال هناك، يسأله كيف جئت إلى هنا؟ وَجِلاً، ينصت إليه، يهمّ بالكلام، ثم يصمت.. عينه البصيرة تستقرّ على ذراعه القصيرة… من سينهي المهمّة، فيكفكف الدّم و الدّمع بعد موته غدرا .
3-
الهارب من الحياة بسبّابتك تنهش الشّاشة، تبحث عن آخر الأخبار السّريعة التي لم تتلوّن بعد بالدماء، ..، ..، ما عاد هناك شيء يستفزّك! تضع سمّاعاتك على أذنيك و ترحل إلى البعيد البعيد متشرنقا بخيوط الموسيقى.. مات البطل، و الحكاية و الكاتب… و أنت.
قديما قالوا : الصمت لغة العظماء ، والآن نستطيع أن نقول : الصمت بوابة الشعراء . لأنهم الأقدر على مجابهته ومحاورته ، بل وتشكيله كيفما يشاءوا ، لأنهم الأكثر دراية بحيله وألاعيبه ، وتجلياته وخفوته ، وسطوعه وأفوله . والشاعرة في قصيدتها تقسم المشهد الكلي إلى عناصر ثلاث تبدأها بالفعل المضارع ( يستعيد ) في محاولة منها لاستدعاء الحالة بمكوناتها ، ثم تتلاحق الأفعال المضارعة (يجهز ، يبدأ ، يطفئ ، تخترق ) وهى الأفعال التى تحرك المشهد وتنقله نقلات سريعة لتضع نهاية المشهد باختراق الرصاصة القادمة من البعيد ( هناااك ) الغائب الذي يستحضره ضميره المستتر ( هو ) في اختزال واضح لمسكوت عنه يفوق حجم المكتوب مرات ومرات فما من أسباب لتذكر، ولا من دوافع ليشار إليها ، بل تركت لتأويل المتلقي للنص كشريك فيه . يتجلى بناء المشهد في التهيئة بأن هناك حكاية سوف تحدث ، وما عليك إلا الاستعداد للتفاعل معها ، ثم تتدفق الحركة إلى أن تصل إلى ذروتها في الرصاصة التى تخترق الصمت وال هو في الحركة الأولى واضعة شكلا آخر للصمت الذي يلي النزف . يستمر تدفق الفعل المضارع في اللوحة الثانية ( يلتقيان ) مستكملا بقية الحكاية ، من اللذان يلتقيان ؟ وبضمير الغائب ! الإحالات هنا شتى وان كان أقربها انه يقابل ذاته التى ابتعد عنها كثيرا ليدور بينهما هذا الحوار ، والأسئلة العارمة المسكوت عنها ، والتي تتبدى جلية فيما بين السطور ، ويبرزها احتدام الموقف وتصاعده ، وحالة الترقب لمن سينهي هذه المأساة ، وعبثية الحياة المعاشة وتكرارها ونمطيتها ، من الذي سيقضى على هذا العبث وانسحاق الذات ، والفرار الدائم والخشية من ملاقاتها ، لابد من تغييب ما ، وصمت ما لتستقيم الأمور . ثمة انتصار أو ركون إلى شيء يتبدى من الوهلة الأولى من المقطع الثالث ، حيث المخاطب ( انت ) : بسبابتك تنهش الشاشة . باحثا عن أي شيء لم يتلطخ بعد بالدم ، أو تذهب حياته دون جدوى ، …. ، … ، بهذا الشكل يطول البحث والاختزال والاقتصاد في المكتوب مفسحا الطريق للتعدد وانفتاح الدلالة على مصرعيها ، إلا أن ثمة تقييد ارتضته الشاعرة وهو حالة الاستسلام للموسيقى ، والغياب في البعيد العيد ، والركون إليه ، ليفضي المشهد الكلي ّ إلى موت الحكاية والبطل والجميع ،في تجسد مأساوي للصمت الذي لم تثنه كل حركات النص عن الحضور بقوة والتشكل بصرامة أغبط الشاعرة عليها . محمد أمين صالح