” ذاك المنحدر الذي حطّم فيك كلّ شيء ستشكره يوماً ما” فريدريك نيتشه.
المستباحات التي كنا نعتقد بأنها محصنة من إرث الصراعات ما بين التناقضات في سيرورة حركة التاريخ وعلى مرمى من قراءتنا التراكمية في سعينا الدؤوب لفهم مُنغصات الحياة على امتداد ذاكرتنا العميقة فحتى عمق المفاهيم فقدتْ حصانتها نتيجة الجانب المظلم للحداثة.
فثمة جغرافيات واسعة في الكون غير مأهولة ثقافياً وفقاً للمنظور الغربي، لذا تعد مناخاً لتعثر أي نداء كما يتعثر الحجر.
فما هي معوقات وصول النداء؟
الشخصية نتاج الخطاب السائد، فهي هشة وصنيعة الإعلام، وفقدت حصانتها في ظل سيطرة الرقمنة على مفاصل الحياة، حيث ارتدادات النظام الرأسمالي، فالجسد أداة وسلعة يصل في أماكن متعددة إلى سلعة مبتذلة، إضافة إلى الفردانية الغارقة في الأنا التي تدّعي قبول الآخر، ولكنها تقصيه في عمقها الاستراتيجي.
ثمة شريحة تشكلت من أبناء المهمشين الذين نجحوا في الانخراط ضمن فئات المجتمع الناجحة والمتطورة، فمنهم من بلغ أعلى سلالم النجاح سواء النمطي أو الإبداعي، هؤلاء باتوا مدافعين شرسين عن مظلوميتهم التاريخية وقد يشكلون عثرة أو حاجزاً ما بين النداء والمنادى.
هشاشة الشخصية منظومة ترتكز على تراكمات ذاتية وموضوعية لسنا هنا بصدد الانغماس بتفاصيلها، فثمة قطيعة محصنة ما بين النداء والمُنادى في سياق مجازي عنيف الأثر، ففي منظومة الغائب يحضر المنادى بلا روح وبجسد هزيل، ووجود مرتبك في طريقه إلى العدم بعد أن فقد حاسة الذوق..
في حضور عنيف لمومياء منكسرة متشعبة الدلالة.
نداء يتعثر.. ولكن أين يمضي صدى النداء؟.. أي النسيج الزمكاني لطاقة فعل النداء الذي يصطدم فيتعثر، ويندثر وقد يتلاشى في ممرات متباينة الأثر، ليحلق بفضاءات الدهشة والذهول، فيغدو جزءاً من التراث في بقع متنوعة من ذاكرتنا العميقة، فثمة تضافر جملة من الآلام في هذه الشذرة.. نداء يتعثر كحجر هو ذاته عنوان ديوان شعري للناقد والشاعر السوري خالد حسين صدر مؤخراً عن دار راميتا في لندن.
نداء يتعثر.. هنا تبدو الفضاءات مفتوحة على امتداد المدى للدلالة، حيث يتوهج السهل الممتنع، فلم يحدد الشاعر أسباب النداء ولا أهدافه، ووفقاً لتفكيكية جاك دريدا لجملة معان غير منتهية، وتتمة الجملة كحجر تشبيه بليغ الأثر..
النداء فعل حسي يصدر على الأرجح من خلال أمر يصدر من الدماغ إلى اللسان الذي يقوم بفعل النداء، وقد يكون لمعظم الحواس دور في تكوينه وتفعيله، وثراء المشهد الإبداعي يتمثل في تشبيهه بالحجر الذي قد يتعثر لجملة من الأسباب: منها الطبيعية.. كعوامل المناخ.. الرياح والجاذبية.. ومنها ماهو مصطنع.. فقد يعترض مسار الحجر حائط أو شجرة أو…
هنا استطاع الشاعر خالد حسين خلق فضاء لشبكة علاقات منطقية وغير منطقية في ذات السياق، فالنداء فعل حسي قوامه الصوت ومداه يتوقف على قوة الصوت والعوامل الجوية، وقد يكون النداء عبر الكتابة أو أي مجال إبداعي آخر كالرسم أوالموسيقى كأدوات تواصلية تختلف باختلاف آليات التعبير ويختلف صداها وتأثيرها باختلاف المتلقين وفق منسوب الوعي والثقافة والانتماء عند كل منهم.
والحجر متعارف عليه على سطح المعمورة منذ نشأة الكون وله أحجام متعددة الاستعمالات وأجدرها بالذكر صخرة سيزيف وعبثية الفعل في نطاق وجودي عبثي حتمي.
وفي سياق الشذرة نداء يتعثر كحجر.. تنادينا مساحات وارفة الظل لنغوص في ما وراء الماورائيات التي انبثقت منها رغبة تكوين الجملة.
هنا يمكننا أن نرسم ملامح الديوان من خلال اللغة الرفيعة المواكبة للّغة الشعرية الحديثة والرائجة على مستوى الكتابة الإبداعية بكل ما فيها من انزياحات ورموز، قد تفضي بنا لمنشود أجمل وأوضح وأسمى.
الشاعر خالد حسين هنا يحثُنا على المقاومة، والمواظبة على النداء حتى تتلاشى العثرات ولتغدو الحياة ممكنة.