هنا عودة إلى الوراء، عودة للتاريخ “تاريخ معان و حضارتها” تاريخ يؤكد الكاتب محمد صوالحة أن ملامحه مازالت عالقة بالذاكرة، هو لم يعاصر كل الحقب التاريخية لكنه يعرف تاريخ “معان” كما يعرف نفسه. يسرد الأحداث بدقة و يُبين الدور الذي لعبته هذه الأخيرة منذ فجر التاريخ. فنجده يقدم لنا منظومة أدبية في إطار تاريخي محض، إذ يخوض في تاريخ “معان” و أمجادها و يمتعض من يشكِّكُون في إرثها التاريخي و في دورها الحضاري، و الإجتماعي و الديني و العسكري الذي لعبته عبر سنين مضت، و هو الآن يفاخر انتسابه للجيش العربي الذي كانت بذرته الأولى من “معان”.
بهذا التصريح يؤكد على هويته العربية و انتمائه للجيوش العربية.. في سرد ممتع و بأسلوب جميل كما عوّدنا دائما يصوغ الأحداث في قالب فني راقٍ يترك في نفوس القرّاء أثرا بليغا و يبلوِرُ أفكارًا كثيرة تفجّرُ في ذهن المتلقي تساؤلاتٍ كثيرة و تجعله يعيد التفكير فيما يجري حوله من أمور. بهذا يساهم هذا السرد في إثراء الثقافة العربية و بناء هوية القومية العربية الفردية و الجماعية .
سردٌ ركَّز فيه محمد صوالحة على أحداث تاريخية له علمٌ و معرفة بها لكنه صاغها ضمن متخيّله الشخصي و مفهومه الخاص المستند على سعة الخيال و المبني على وقائع تاريخية حقيقية و معلومة. فهو لم يكن في رحلته هذه مضطرا إلى هذا النوع من السرد “السرد التاريخي”، كان اكتفى بذكر وصول الرحلة لـ “معان” و اقتصر على وصف المسافرين و المحطة التي نزلوا بها و المكان و الناس أي ساكنوا المنطقة، لكنه آثر ذكر تاريخ “معان” من باب التعريف بها و بقيمتها التاريخية و الدينية و الإعتراف بأمجادها و ذكر مكانتها كعاصمة للصحراء و أقوى دولة مرت بهذه المنطقة عبر التاريخ… ((هنا كانت الدولة الأقوى في تاريخ المنطقة … هنا المكان الآمن لكل الخائفين منذ فجر التاريخ حتى يومنا … هنا عاصمة الصحراء … هنا تأسست وقامت دولة العرب الأولى … هنا كان النظام الذي يسير عليه كل أفراد المجتمع هنا كانت دولة الأنباط التي أهدت العالم الفن الحقيقي والدائم .
من هنا خرجت الجيوش التي طهرت الأرض من عسكر روما … هنا توحدت قبائل المنطقة في نظام شامل … هنا ولد الحارث الأول والثاني والثالث والرابع …)) و جاء أيضا في ذكره أنها كانت ملجأ للخائفين ((إلى هنا لجأت ابنة الفرعون لتحتمي من خوفها وأُسس لها قصر ما زال يسمى باسمها “قصر البنت ” )).. كثيرة هي الأحداث التاريخية التي ذكرها ليس من باب الحشو أو ملأ فراغ، أو من باب الثرثرة بل بالنسبة له كانت عودته للماضي ضرورية و واجبة يفرضه عليه حبُّه لـ “معان” خاصة و لبلده الأردن عامة أي من باب رد الجميل و الإعتراف بـ “معان” و بحضارتها و تاريخها و أمجادها التي حققتها.
هكذا نفهم أن اشتغال محمد صوالحة على التاريخ و اتكاؤه في سرده على الجانب التاريخي كان من ورائه غاية يقصد منها ليس الهروب من الواقع “واقع معان المرفوض بالنسبة للكاتب” بل هو محاولة منه مقارنة حالة “معان” الراهنة بوضعها في الماضي و مكانتها المرموقة التي حضيت بها و وصلت إليها و إهمالها الآن ربما من جميع النواحي سواء التاريخية و الإقتصادية و الثقافية. فهو بهذا يلفت انتباه المسؤولين و يأسف على حال “معان” بطريقة مضمرة و غير مباشرة تارة حين يسرد تاريخ “معان” و بطريقة مباشرة تارة أخرى حين يوجه أصابع الإتهام إلى الحكومة “أحلام ورؤى تكثفت أمام ناظري وسؤال فاجأني أين حكومتنا من هذه الأرض ؟ كيف نسيتها ؟ وبإمكانها أن تحولها إلى جنة غناء” بهذا هو يحرك مشاعر القارئ و تفكيره و يحاول إيصال رسائل ايديولوجية بطريقة فنية و ذلك بتحشيد أفكاره و صياغتها بطريقة تضفي على السرد جمالية استثمر فيها محمد صوالحة طاقة المتخيل عنده و كل إمكاناته الإبداعية الشيء الذي يساعد المتلقي على معرفة تاريخ المنطقة دون جهد أو بحث أو تعب داخل منظومة أدبية لا تخلو من متعة القراءة و داخل إطار يسمح باتساع حجم الفضاء السردي في حدود أطّرها الكاتب بدقة متناهية.