الصمت كلمني عنك …
وشوش الليل وأيقظ الحنين ..
فكسرت حزن المسافات باستحضار عطرك…
_________________
فكسرت حزن المسافات باستحضار عطرك…
_________________
أحمد دحبور
هذا النص ومضة وجدانية مكثّفة، تتخطى حدود الصمت و تتمرد على الغياب، نص يبتعد كل البعد عن الموروث الشعري التقليدي ليدخل في شكل حداثي يُظهر آليات الشاعر الذهنية، رؤاه ومشاعره في شكل ومضة تختلف تماما عن التقليد .
فهي توثق للحظة شعورية أو لنقل مشهد صوره الشاعر إثر إحساس شعريّ خاطف مرّ بمخيلته، فصاغه بألفاظ قليلة .. وهو لم يتعمد الكتابة بهذه الطريقة بل هي لحظته الشعرية والشعورية حضرت معه هكذا أحسّ بها تتفجر داخله فكتب . ربما بعضهم يكتب بهذه الطريقة بسبب مبدأ مجارات العصر، و قد يكون شاعرنا منهم ، فالقراء الآن يعزفون عن القصائد الطويلة ويبحثون عن كل ما هو وجيز وخفيف وذلك بسبب التحولات الفنية والفكرية، والبحث عن وسيلة للتعبير عن روح العصر وهو عصر السرعة و هذا ما أكده الشاعر والصحفي يوسف الخال بقوله : «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا، فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراعٍ معَ القديم. القافية التقليدية ماتت على صخَبِ الحياة وضَجيجها والوزنُ الخليلي الرتيب ماتَ بفعلِ تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدعَ الشاعرُ الجاهلي شكله الشعريّ للتعيير عن حياته، علينا نحنُ كذلك أن نبدع شكلنا الشعريّ للتعبير عن حياتنا التي تختلفُ عن حياته».
فإذا كانت اللغة هي مادة الشاعر التقليدي ، فإن الحياة هي المادة التي يعتمد عليها شعراؤنا اليوم في الكتابة وهكذا بمفهوم أو بآخر نجد أنفسنا أمام كتابة حداثية تمتاز بالتفرد والخصوصية، والإيحاء وعدم المباشرة كما أنها تتفرد باقتصادها في الفكرة، اللغة والصورة ..
فهي تبتعد كل البعد عن القوانين و القواعد المنطقية الصورية التي تُفرض على النص أو الأثر الأدبي ، و تلج عالم الأحاسيس، الوجدان والمشاعر منطلقة من الذات المبدعة التي تعيد صياغة أحاسيسها و مشاعرها المرتبطة بكل ما حولها بطريقتها الخاصة ومنظروها الخاص و مفاهيمها المستقلة .
يبدأ الشاعر حديثه بقول:
الصمت كلمني عنك …
هو الآن يخبر عن شيء ولا يكمل الحديث بل يضع ثلاث نقط يتخيل فيها القارئ ما شاء، يترك للقارئ اختيار نوع الكلام، كمِّه و الطريقة التي قيل بها، فله أن يوجز ويختصر الكلام أو يطيل ، يعيد ويزيد.. أو أن يكون وشوشة أو بصوت مسموع عال ، و أيضا نوع الكلام ، لربما هو خبَّر عنها فقط يعني هل هي بخير أم العكس .. أم هو رسالة منها للشاعر تبته فيها حبها ، شوقها ومشاعرها ..
“الصمت كلمني” متى كان للصمت صوت ليتكلم؟
ربما ليس له صوت، لكن له ذبذبات تهز القلب و تحدِّث بما لا يُسمع. وربما للصمت صوت، صوت عالٍ جدا قد لا يسمعه كثيرون .. و المدهش في الأمر أن هذه الومضة تتكون من ثلاثة أسطر وهذه الأسطر بدورها تشكل ثلاثة مقاطع منسجمة و مكملة لبعضها البعض و أيضا يمكن لكل مقطع أن يكتب وحده دون أن يحتاج لمقطع قبله أو آخر بعده فكل مقطع يحمل دلالة لا تحتاج في الفهم لما يكملها، كما يمكن أن نستبدل مقطعا مكان الآخر ولا يتوه الفهم و لا يتغير المعنى فيمكن قراءة النص من تحت لفوق أو من الوسط أو كما أراده الشاعر أن يكون فالمعنى ثابت و غير متغير .و أيضا يمكننا قراءة المقطع من اليسار إلى اليمين و لن يختلف المعنى كثيرا بل سيوصل نفس الفكرة بطريقة أخرى كأن نقول مثلا :
“عنك كلمني الصمت …”
“الحنين أيقظ الليل وشوش ..
“هنا يتغير الفاعل فبعدما اسند الشاعر فعل الإيقاظ لليل ، يصبح الحنين هو من يوقظ الليل، يتغير الفاعل لكن المغزى والمعنى يظل نفسه.
“عطرك استحضرالمسافات، حُزنًا كسرتُ …” قد يتغير الشكل لكن المضمون هو هو يشي بنفس الفكرة .
الشاعر من خلال هذه الكتابة يحول لحظته الزمنية الهادئة و الخالية من كل شيء، إلى لحظة شعورية قد نراها صاخبة يتكلم فيها الصمت ويوشوش فيها الليل، بعدها يحضر عطرها ليدعنا الشاعر مع أنفسنا نتصور ذاك الحضور كيف يكون ، ونتخيلها هي بكل أناقتها وجمالها ، نختار لها فستانها ولونه ونوع حذاءها و عطرها … يترك لنا حرية اختيار التفاصيل .
فهو هنا يسعى لجعل الصمت يتكلم و ينوب عنه في التعبير عما بداخله من أفكار و مشاعر تحول الغياب إلى حضور، والسكون الذي يخيم على المكان إلى صخب في إطار كلام صامت أو صمت متكلم .
يستأنف الشاعر قوله :
وشوش الليل وأيقظ الحنين ..
هنا قرن الليل بالحنين، فجعل منهما كائنا حيّا يمكنه الكلام و النوم والإستيقاظ .. فصور لنا الحنين نائم لكن وشوشة الليل أيقظته من نومه .. الشاعر لا يسعى لتعجيز القارئ بقدر ما يحاول تكثيف الإيحاءات للتعبير عما بداخله ، فالشعر ليس سعي نحو الإدهاش بقدر ما هو بحث مكثف عن تحقيق أو الوصول إلى كل ما هو جوهري و دال ، فالنص يتكئ على تحطيم كل توقعات المتلقي ، معتمدا على خلق نوع من الدهشة عند القراءة . فالقارئ يتوقع من الشاعر التحدث بكثافة عن تلك العلاقة التي تجمعه بصاحبة العطر لكن هو يختار الصمت بعد حضورها وينهي الكلام الشيء الذي يصيب القارئ بنوع من الدهشة .
عندما يجتمع عليك الليل بسواده و طوله الذي لا ينتهي و هدوءه و صمته المقرون بوشوشته.. و يوقظ فيك الحنين الغافي أو النائم، هذا الزائر الذي لا يرحم، وربما هو ليس زائرا لأنه قد يسكننا، يتربع داخلنا و لا يرحل.. يأتي بكل ثقله، كل أعبائه فيستحضرها هو “أي الشاعر” بكل هيأتها وشكلها، بكل حضورها الذي دعا الحزن لهذه الجلسة الحميمية، لهذه الليلة التي لا تنتهي، ليلة لا يمكن أن يخفف ثقلها إلا حضور عطرها الذي يبدد الحزن، يكسر المسافات ويأتي بها لتبدد صمته وتشاركه ليلته الصامتة إلا من كلماتها التي أعلن عنها الصمت و وشوش له بها ليكسر الحزن، الألم و الصمت أيضا.
هو لم يستحضرها كلها دفعة واحدة بل استحضرها عبر مراحل .. فكأننا بالشاعر يغمِضُ عينيه يحاول تقريب الرؤيا، فنراه يتحسَّسُ حضورها الذي لا يكتمل عنده إلا عندما يشتم عطرها، رائحتها التي تسبق حضورها، فإن كانت حاسة الشم عند الإنسان هي أنفه فكل الحواس عند الشاعر هنا اجتمعت بقلبه ، ذهنه و ذاكرته ..
هذه المفردات أو الأسطر القليلة لم تمنع الشاعر من التعبير عما بداخله و ما يجول بخاطره بطريقة مكثفة و عميقة ، فهي تحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن فعل هذا التكثيف ضمن إطار ضيق وكلمات أقل وبهذا تصبح وسيلة من وسائل إظهار تمكّن الشاعر وقدرته اللغوية و الثقافية الخارقة والمدهشة .
فهي توثق للحظة شعورية أو لنقل مشهد صوره الشاعر إثر إحساس شعريّ خاطف مرّ بمخيلته، فصاغه بألفاظ قليلة .. وهو لم يتعمد الكتابة بهذه الطريقة بل هي لحظته الشعرية والشعورية حضرت معه هكذا أحسّ بها تتفجر داخله فكتب . ربما بعضهم يكتب بهذه الطريقة بسبب مبدأ مجارات العصر، و قد يكون شاعرنا منهم ، فالقراء الآن يعزفون عن القصائد الطويلة ويبحثون عن كل ما هو وجيز وخفيف وذلك بسبب التحولات الفنية والفكرية، والبحث عن وسيلة للتعبير عن روح العصر وهو عصر السرعة و هذا ما أكده الشاعر والصحفي يوسف الخال بقوله : «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا، فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراعٍ معَ القديم. القافية التقليدية ماتت على صخَبِ الحياة وضَجيجها والوزنُ الخليلي الرتيب ماتَ بفعلِ تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدعَ الشاعرُ الجاهلي شكله الشعريّ للتعيير عن حياته، علينا نحنُ كذلك أن نبدع شكلنا الشعريّ للتعبير عن حياتنا التي تختلفُ عن حياته».
فإذا كانت اللغة هي مادة الشاعر التقليدي ، فإن الحياة هي المادة التي يعتمد عليها شعراؤنا اليوم في الكتابة وهكذا بمفهوم أو بآخر نجد أنفسنا أمام كتابة حداثية تمتاز بالتفرد والخصوصية، والإيحاء وعدم المباشرة كما أنها تتفرد باقتصادها في الفكرة، اللغة والصورة ..
فهي تبتعد كل البعد عن القوانين و القواعد المنطقية الصورية التي تُفرض على النص أو الأثر الأدبي ، و تلج عالم الأحاسيس، الوجدان والمشاعر منطلقة من الذات المبدعة التي تعيد صياغة أحاسيسها و مشاعرها المرتبطة بكل ما حولها بطريقتها الخاصة ومنظروها الخاص و مفاهيمها المستقلة .
يبدأ الشاعر حديثه بقول:
الصمت كلمني عنك …
هو الآن يخبر عن شيء ولا يكمل الحديث بل يضع ثلاث نقط يتخيل فيها القارئ ما شاء، يترك للقارئ اختيار نوع الكلام، كمِّه و الطريقة التي قيل بها، فله أن يوجز ويختصر الكلام أو يطيل ، يعيد ويزيد.. أو أن يكون وشوشة أو بصوت مسموع عال ، و أيضا نوع الكلام ، لربما هو خبَّر عنها فقط يعني هل هي بخير أم العكس .. أم هو رسالة منها للشاعر تبته فيها حبها ، شوقها ومشاعرها ..
“الصمت كلمني” متى كان للصمت صوت ليتكلم؟
ربما ليس له صوت، لكن له ذبذبات تهز القلب و تحدِّث بما لا يُسمع. وربما للصمت صوت، صوت عالٍ جدا قد لا يسمعه كثيرون .. و المدهش في الأمر أن هذه الومضة تتكون من ثلاثة أسطر وهذه الأسطر بدورها تشكل ثلاثة مقاطع منسجمة و مكملة لبعضها البعض و أيضا يمكن لكل مقطع أن يكتب وحده دون أن يحتاج لمقطع قبله أو آخر بعده فكل مقطع يحمل دلالة لا تحتاج في الفهم لما يكملها، كما يمكن أن نستبدل مقطعا مكان الآخر ولا يتوه الفهم و لا يتغير المعنى فيمكن قراءة النص من تحت لفوق أو من الوسط أو كما أراده الشاعر أن يكون فالمعنى ثابت و غير متغير .و أيضا يمكننا قراءة المقطع من اليسار إلى اليمين و لن يختلف المعنى كثيرا بل سيوصل نفس الفكرة بطريقة أخرى كأن نقول مثلا :
“عنك كلمني الصمت …”
“الحنين أيقظ الليل وشوش ..
“هنا يتغير الفاعل فبعدما اسند الشاعر فعل الإيقاظ لليل ، يصبح الحنين هو من يوقظ الليل، يتغير الفاعل لكن المغزى والمعنى يظل نفسه.
“عطرك استحضرالمسافات، حُزنًا كسرتُ …” قد يتغير الشكل لكن المضمون هو هو يشي بنفس الفكرة .
الشاعر من خلال هذه الكتابة يحول لحظته الزمنية الهادئة و الخالية من كل شيء، إلى لحظة شعورية قد نراها صاخبة يتكلم فيها الصمت ويوشوش فيها الليل، بعدها يحضر عطرها ليدعنا الشاعر مع أنفسنا نتصور ذاك الحضور كيف يكون ، ونتخيلها هي بكل أناقتها وجمالها ، نختار لها فستانها ولونه ونوع حذاءها و عطرها … يترك لنا حرية اختيار التفاصيل .
فهو هنا يسعى لجعل الصمت يتكلم و ينوب عنه في التعبير عما بداخله من أفكار و مشاعر تحول الغياب إلى حضور، والسكون الذي يخيم على المكان إلى صخب في إطار كلام صامت أو صمت متكلم .
يستأنف الشاعر قوله :
وشوش الليل وأيقظ الحنين ..
هنا قرن الليل بالحنين، فجعل منهما كائنا حيّا يمكنه الكلام و النوم والإستيقاظ .. فصور لنا الحنين نائم لكن وشوشة الليل أيقظته من نومه .. الشاعر لا يسعى لتعجيز القارئ بقدر ما يحاول تكثيف الإيحاءات للتعبير عما بداخله ، فالشعر ليس سعي نحو الإدهاش بقدر ما هو بحث مكثف عن تحقيق أو الوصول إلى كل ما هو جوهري و دال ، فالنص يتكئ على تحطيم كل توقعات المتلقي ، معتمدا على خلق نوع من الدهشة عند القراءة . فالقارئ يتوقع من الشاعر التحدث بكثافة عن تلك العلاقة التي تجمعه بصاحبة العطر لكن هو يختار الصمت بعد حضورها وينهي الكلام الشيء الذي يصيب القارئ بنوع من الدهشة .
عندما يجتمع عليك الليل بسواده و طوله الذي لا ينتهي و هدوءه و صمته المقرون بوشوشته.. و يوقظ فيك الحنين الغافي أو النائم، هذا الزائر الذي لا يرحم، وربما هو ليس زائرا لأنه قد يسكننا، يتربع داخلنا و لا يرحل.. يأتي بكل ثقله، كل أعبائه فيستحضرها هو “أي الشاعر” بكل هيأتها وشكلها، بكل حضورها الذي دعا الحزن لهذه الجلسة الحميمية، لهذه الليلة التي لا تنتهي، ليلة لا يمكن أن يخفف ثقلها إلا حضور عطرها الذي يبدد الحزن، يكسر المسافات ويأتي بها لتبدد صمته وتشاركه ليلته الصامتة إلا من كلماتها التي أعلن عنها الصمت و وشوش له بها ليكسر الحزن، الألم و الصمت أيضا.
هو لم يستحضرها كلها دفعة واحدة بل استحضرها عبر مراحل .. فكأننا بالشاعر يغمِضُ عينيه يحاول تقريب الرؤيا، فنراه يتحسَّسُ حضورها الذي لا يكتمل عنده إلا عندما يشتم عطرها، رائحتها التي تسبق حضورها، فإن كانت حاسة الشم عند الإنسان هي أنفه فكل الحواس عند الشاعر هنا اجتمعت بقلبه ، ذهنه و ذاكرته ..
هذه المفردات أو الأسطر القليلة لم تمنع الشاعر من التعبير عما بداخله و ما يجول بخاطره بطريقة مكثفة و عميقة ، فهي تحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن فعل هذا التكثيف ضمن إطار ضيق وكلمات أقل وبهذا تصبح وسيلة من وسائل إظهار تمكّن الشاعر وقدرته اللغوية و الثقافية الخارقة والمدهشة .
راق لنا جدا هذه الوقفة على أعتاب الصمت المتكلم أخي Ahmad M Dahbour مدهش جدا عندما تكتب و تعبر ببضع كلمات فقط، تجعلنا فيها نعيش مشهدية رسمتها بصمت و انبثقت كلماتها من داخل صمتك الذي حضره الكلام عندما وجدت نفسك وحيدا.. وكأننا نشتم رائحة عطرها، نحسُّ حضورها ولا نراها.. معك نكسر حاجز الوحدة و نطل من بين الكلمات دخلاء يبحثون عما يحدث داخلك ، داخل الصمت و داخل المكان.. كما لو كنا نحلم و نعيش معك ليلتك نحس هدوءها و وشوشة الصمت بها، بل ونراهن على حضور تلك الغائبة التي تسكنك و تملأ حياتك.. وتختار أن تزورك كلما جنى الليل و ساد الصمت.