لصحيفة آفاق حرة
______________
البناءُ المشهديِّ
في رواية “مار خدر – للروائي السوداني عمر الصايم”
بقلم – الروائي محمد فتحي المقداد
المقدمة:
بما أنّ الرّواية عمومًا هي هروب من واقع المأساة، إلى تكوين العالَم المُوازي المُتخيّل في ذهن الكاتب، هو ذهاب لبناء جديد، قائم على بناء مشهديٍّ، يؤثّثه الكاتب وفق رؤيته دراميًّا، لغايات وأهداف ربّما لا تتكشّف عند القارئ عُمومًا.
عندما تتضّح الرُّؤية لدى الكاتب، ينطلق من فوره للتدوين، لإفراغ حمولته الفكريّة والنفسيّة، وفق رُؤاه مُنطلقًا من ذاته الواعية الحاملة للأفكار، والحالمة بالأمثل على جميع الأصعدة؛ هذه الرّؤى مُتخمة بالرّسائل الهادفة قطعًا، التي يروم إيصالها بهدوء في محاولة التغيير الإيجابيّ في مجتمعه، أيضًا ربّما تتوافق رُؤاه، أو تتقاطع في كثيرٍ أو قليلٍ مع رُؤى مُحيطه الاجتماعيّ، وهو ما لمسناه في نهاية الرواية: (سنمضي سَويًّا، أنا وأنتِ، تاسي، مار خدر، وكابلا، ..و… سنمضي في أرض واحدة بزمن مُتَّصلٍ، ومحبَّةٍ أبديَّةٍ)
ونحن اليوم أمام رواية جديدة بلغتها العالية الواضحة بسهولة تناولها للقارئ، قادرة على رسم لوحة الفكرة باقتدار. تنوّعت طُرُقها ووسائلها على محمل التداعيات المُنهالة على الرّاوي، العميقة بمراميها ذات الإشارات الرمزيّة والأسطوريّة، نهلت من واقع مليء بالمتناقضات، رواية نشأت القاع الاجتماعيّ، وحاولت كشف المساوئ، والتنبيه للخطر المُستكنِّ المسكوتِ عنه عُمومًا؛ لأسباب كثيرة منها:
– تفاوت الأفهام، والمدارك لطبيعة الحياة.
– عوامل الخوف السّاكنة دواخل البشر.
– تحديّات الفقر والتهميش.
– الصّراعات الاجتماعيّة عامّة، كالتفاوت الطبقيّ، الاختلاف الطائفيّ والدينيّ والمذهبيّ والعشائريّ والقبليّ.
الكاتب حالة مُتفرّدة في محيطه، لا يعدو أن يكون شجرة وحيدة في صحراء قاحلة، بشجاعة حدّ التهوّر يقترب كثيرًا من التّابوهات الاجتماعيّة والسيّاسية، المحروسة بأسوار منيعة، الاقتراب منها ممنوع، والابتعاد عنها مرغوب، لكنّ الكاتب (عمر الصّايم) اقتحم المعمعة، وحاول تصوير المشهديّات التي يراها من خلال بنائه الروائيّ (مار خِدِر) ببراعة، رغم أنّه عمله الإبداعيّ الأوّل. استطاع من طرحي الواقعيّ ناشدًا التغيير، ولم يجد أفضل وأشمل من خيار مشروعه الروائيّ الذي نحن في رحابه هذا المساء.
***
1-مشهدية العنوان:
العنوان لا بدّ أن يكون مُعبّرًا عن روح النصّ، وهو محور النصّ الأساسيّ بإيجازه الشّديد المُقتصر على كلمة أو اثنتيْ أو ثلاثة أو أكثر، وذلك لاستكمال الدلالة التي يطمح لها الكاتب، وكثيرًا ما يُقال أن العنوان هو عتبة النصّ المُفضية إلى رحاب النصّ ودواخله.
غرابة عنوان الرواية التي بين أيدينا “مار خِدِر” بعدم إِلْفَتِه للقارئ، مثير للذهاب بعيدًا في دهشة التساؤلات عن ماهيّته، فلا يوجد كلمة في العربيّة بهذا المصطلح، خُيّل لي وأنا أتأمّل: أنّها كلمة منحوتة لا وجود لها إلّا في ذهن الكاتب “عمر الصايم”، وللتدليل على صحّة ما استطعت تأويله، وأتمنّى أن أوفّق فيما ذهبتُ إليه.
وللمُتتبّع لهذا المنحى؛ ليتبيّن ذلك فيما ورد من خلال المشهد الخفيّ مونولوجيًّا في نفس الصّديقين، و في ص14: “قال لي من هما الرّجلان:” -………. قال: ربّما الأبيض هو مَارْجِرْجِس. قلتُ: والأسود هو الخدِرْ”. مارجرجس والخضر، لكنّ الضّاد أُبدلتُ بالدّال باللّهجة السّودانيّة الدّارجة.
ليس من السّهل نحت مُصطلح للتعبير عن حالة ذهنيّة في محاولة ترسيخها في الأذهان بداية، ولتثبيته كمعلم يُصار إلى تداوله بني الحين والآخر في دنيا الواقع.
فهذه المزاوجة في العنوان ما بين اسمين ورَمْزَيْن (مارجرجس- الخضر)، يبدو أنّهما رمز للتضحية وللتسامح فيما بين أبناء الإنسانيّة، والتّسامي على الخلافات. ولفتح آفاق العيش المُشترك للجميع. وفي بعض الآراء يقال بأنّ مارجرجس و الخضر ما هما إلّا ذات الشّخص مارجرجس: هو قِدِّيس حسب معظم الكنائس الشرقيّة والغربيّة، وهو واحد من المساعدين المقدسين الأربعة عشر حسب التقاليد الكاثوليكية. يحتفل به يوم 23 أبريل نيسان من كل عام. ومعنى اسمه الزارع أو الفلاّح. وكم في هذه اللحظات التاريخيّة التّعيسة، وما تمرّ به منطقتنا عمومًا، وبيروت خاصّة، حيث يُعتبر مارجرجس الرمز الوطني لمدينة بيروت ، وقد تغلّب على التنين وقتله، وبيروت تُصارع محنة غائلة التنّين لابتلاعها. ومن أسمائه (جرجس، مارجرجس، جاورجيوس، جورج)، القدِّيس مار جرجس مارجرجس الفلسطينيّ: لأنه ولد سنة 280م في مدينة اللُّدّ في ولاية فلسطين السوريّة لأبويْن مسيحيّين من النبلاء. كما أنّ والدته كانت من مدينة اللُدّ بفلسطين، وهو “أمير الشهداء” في الديانة المسيحيّة، اكتسب شهرة ومحبّة وتبجيلاً لم يحظ بها أقرانه من القدِّيسين والشهداء، ثبت على مبدئه وعُذّب ولم يتراجع، ومات شهيدًا بعدما قتله الإمبراطور الروماني)دقلديانوس) عام 303م، حينها كان الرّومان يضطهدون المسيحيّين في تلك الفترة.
***
2- مشهدية الأنسنة
“الأرض تحتفي بالوجوه المحروقة، الأحجار تخبئ الذهب والعشب، وترتسم خطواتي على صفحة النهر، ضوء ابتسامتي يشع في محفَّة الريح، من أكون غير مار خدر الواواتي! سليل الفجيعة القديمة، والأهرامات المترنحة” ص9
من اللّافت للنظر: أنّ هذه الفقرة تكون منسوجة بدقّة وحذاقة، وقد حيكت بأيدي ماهرة بطراز أدبيّ فريد، توقّفتُ .. وتوقّفتُ أتأمل هذا الفيض الرّوحيّ للكاتب عمر الصايم. ومحاولات أنسنة الأشياء المألوفة بحكم عوامل الزّمن، والتعايش معها أذهب كثيرًا من مؤثّراتها في النّفوس، بينما لا أرى هذا الكاتب؛ إلّا مثل امْرِئ القيس حينما: وقف واستوقف.. وبكى واستبكى.
يقول الروائيّ “عمر الصّايم” :
-“الأرض تحتفي بالوجوه المحروقة”:
تشبيه الأرض بالإنسان، حذف كلمة الإنسان وأبقى شيئًا من لوازمه، والاحتفاء مثلًا في أوّل ما يتبادر إلى الذّهن هو للضيّف القادم والمسافر، والاحتفاء كذلك يكون بشيء معنويّ، كما الاحتفاء بنجاح أو فصل من فصول السنة. أمّا أنّ الأرض تحتفي، وبأيّ شيء تحتفي بالوجوه المحروقة، وكأنّها إشارة من الكاتب إلى أفريقية المُحتفية بإنسانها الذي لوّحت الشّمس وجهه، فكأنّها حرقته، والإنسان الأسمر هو ابنها الحقيقيّ.
-” الأحجار تخبئ الذهب والعشب”:
الأحجار تُخبّئُ وكأنّها حريصةٌ مؤتمنة على ثرواتها بأمانة، تُخبّئها من أجل أبنائها لإسعادهم بها، خوفًا عليها من أن تُنهبَ بيد غادر أفّاق، وهنا إشارة مهمة للخيرات المكنونة في أفريقية عمومًا.
-” وترتسم خطواتي على صفحة النهر”:
لله درّكَ يا عمر، وأنت ترسم لوحة مُجسّدة قائمة بحقيقتها أمام عينيّ، ما هذه المهارة والتلاعب بالكلمات، وكأنّك تهيّئ قارئك بتخديره في لجّة عندما ينسجم، لتأخذه معك بعيدًا، وأينما تُريد.
الخطواتُ ترتسم بثقلها وآثرها، والخطوات لزوم المشي والانتقال. وأين مسرح تحرّكها..!! على صفحة الماء؟. وكأنّك ترسم قوانينك الجديدة من خلال مشهديّة اِستأنستها، لتُقنعني بأنّ صفحة الماء صالحة لممارسة فعاليّات عليها، لأذهب بنفسي ومن تلقاء نفسي.
-“ضوء ابتسامتي يشع في محفَّة الريح”:
ضوء.. وابتسامة.. ويشعّ.. كلمات جمعها لرسم لوحة جديدة، لفتح مخيال القارئ على آفاق التأويل، الذي ربّما يتطابق أو يتقاطع مع غرض الروائيّ من إيرادها خاصّة مع الرّيح التي لا تُبقي ولا تذر. فكيف توافقت كلمة “ضوء ويُشع” الضوء كثير.. نزل إلى مستوى شعاع، وهو عبارة عن خيط من ضوء، وكأنّي به يريد أن يثبت لي قدرات الإنسان غير العاديّة، إذا ما ترجّل قائمًا ناهضًا بإرادة وعزيمة قويّة، بأنّه سيصنع المُعجزات، التي ستقلب الموازين على رؤوس حاسبيها.
-“من أكون غير مار خدر الواواتي! سليل الفجيعة القديمة، والأهرامات المترنحة”: كلّ اللّوحات هذه التي رسمها عمر الصّايم بحروفه، لم يطب له إغراقنا في متعة عوالم لوحاته، فاستجلب لنا صورة أخرى من التساؤل التّاريخيّ، رغم أنّه لم يأت بكلمة تاريخ بتاتًا، بل بدلالة كلمة “القديمة” و”الأهرامات”، هذا الاستحضار منذ أوّل كلمات الرواية “مار خدر”، ما هو إلّا إبراز هويّة الرّواية، وإعلان انحيازها التّاريخيّ، الذي ستستقي منه بعضًا مما يتوافق مع خطّها في سرد الحدث، من خلال تقاطعات وإسقاطات كثيرًا ما يلجأ إليها الكاتب هروبًا من سطوة الرّقابة، ومن عدم تسمية الأشياء بمسميّاتها الحقيقيّة، ابتعادًا عن الشّخصنة بتعالقاتها من الواقع المشحون المأزوم حدّ التُخمة، ولاستلهام دروس التّاريخ، للاستفادة من دروسها، ولتكون جسر عبور للمستقبل المنشود.
***
3- مشهديّة ثنائيّة السّلطة والكهنوت:
منذ فجر التّاريخ مع قيام أوّل سلطة تُحقّق أغراض الأقوياء، بفرض سيطرتهم وإخضاع شعوبهم، والشعوب المجاورة من خلال الحروب والاحتلال، لفتح آفاق الاستحواذ على الثروات.
وهناك زواج غير معلن بين رجال السّلطة، ورجال الكهنوت الدينيّ والمُشعوذين بما لهم من سيطرة على عموم فئات الشعب، بتدبير من سلطتهم المُستمدّة من الآلهة. لابدّ من امتداد سلطتهم لتبارك الحاكم بداية، لتحقيق سلطتها، والحاكم بحاجة توطيد سلطته من خلالهم.
ومن خلال تضارب المصالح بين قُطبيْ السّلطة: الحاكم ورجال الدّين، يحدث الصّراع الخفيّ والمُعلن، وتكثر الدّسائس والمؤامرات، وتُسفكُ الدّماء، ومنذ الصّفحة الأولى، بعد إجبارنا لاجتياز بوابة التّاريخ بهذا الزّخم النّشِط؛ لدخول رحاب الرّواية؛ مُحمّلين بالهواجس والمخاوف، في محاولة لاستكشاف المسار والمصائر.
يقول أيضًا عمر الصايم:
(“في البدء لم أنتبه لرفضِ الكهنةِ لما يفعله الكُور الأعظم، قمّ بدا الهمسُ يتحوّلُ إلى جهرٍ. ناداني الكاهنُ الأكبرُ، وسألني: “ما رأيكَ في جلالتهِ؟”. بدهشة أجبتُه: “هو من أفضلِ ملوكِنا”. قال: “الإله غاضبٌ عليه، ولا بُدّ أن نقتله حتّى يتقدّم شعب مَدَوي”.
بعد هذه الحوارية، ننتقل إلى مجاز المونولوج الدّاخليّ، على لسان البطل بانفعال دواخله:
“أنا الغاضبُ عليكَ، وكلُّ شعبُ مَدَوي، لو أنّك الأفّاق، سألتُ اشجار الهَشَابِ، وقرون الأبقار الميّتة عن سِرِّ غضبها؛ لقالتْ: أنتَ، أنتَ من مُغْضبُها الرّجيمُ من ظِلّها ودُعاشِها”.
قلت: “اقتلوني قبل أن تُلامسوا جلالته”. ملأ أنفَه بالهواء كَتيْسٍ نَتِنٍ، وقال: “نعم يجب قتلَكَ قبلَهُ؛ فأنا أشْتَمُّ في جسدِكَ روحَ أُنثى داعرةٍ، تعالَ لنُطهِّركَ منها”.) ص10
لم تنته الصّفحة الأولى، حتى يتتابع الحدث التاريخيّ، بتصوير بارع الصّراع على السّلطة، بممارسات الأقوى، بوضوح ووقاحة بالكذب والإيهام والتوهيم للعامّة. حواريّة عبر لوحة مشهديّة أخرى تُحتسب في رصيد الرّواية المكتنزة بوفرة الحدث التّاريخيّ حدّ الإتخام.
***
4- مشهديّة العنصرية:
التمايز سمة الكون والإنسان، ولما تنحرف الفطرة الإنسانيّة باتجاهات غامضة بانحرافات، لتحقيق أهداف ومطامع، تُجرّد الإنسان من إنسانيّته، فبدل أن يكون الإنسان أخا الإنسان، ويبذل له أسباب السعادة والرحمة. جعلت أطماعه منه وحشًا كاسرًا يأكل الحقوق وينتهكها، ويقمع بشدّة وقلب كالحجر لا يلين، بمجيء الديانات السماويّة على مبادئ ربانيّة مُشتركة، لما فيه خير الإنسانية. لكن الأتباع بطريقة ممارستهم الخاطئة لمعتقدات ديانتهم، انحدروا إلى الحضيض، بتحقير المختلفين دينيًّا عنهم، وإيذائهم قولًا وعملًا. وهذا مخالف لروح عدالة الأديان التي هجروها إلى دائرة الأطماع والمكاسب بشتّى أنواعها.
جاءت رواية “مار خدر” على معالجة هذا الموضوع، من خلال الصديقين، وتحكي قصة العنصرية البغيضة: التي تفرق الناس وتزرع في قلوبهم وأرواحهم الغصة مدى الحياة “استيفان” عاني من العنصرية لكونه أبيض في مجتمع من أصحاب البشرة السمراء، كما أنّه مسيحيّ، ويعتبر من الأقليّة بينهم، مما جعله عرضة للعنف من قبل زملائه في المدرسة، والاعتداء الجنسيّ من قبل أحد المُدَّرِّسين، لكنّه قاوم استسلامه وضعفه، وأصبح قويًّا، لكنّه لم يجد الحُبّ، بسبب لونه المختلف أيضًا ووضعه في المجتمع، فاضطَّر إلى الهروب من ذلك المجتمع القاسي؛ ليذهب بعيدًا في بلاد ظنّ فيها أنّه سيجد إنسانيّته المهجورة في بلده، ويذهب إلى ألمانيا على أمل أن يجد مُجتمعًا أكثر تحضّرًا؛ ليتفاجأ بوجود عنصريّة مقيتة بغيضة هناك، تتسببّت في مقتل الملونين، ومقتل حبيبته الألمانيّة، وينتقم لقتلها، ثم يصبح قاتلًا مُحترفًا.
***
ختامًا:
الرواية “مار خدر” مليئة وطافحة بالمواضيع بالكثير من المشهديّات، وبحاجة للكثير من الدراسات النقديّة، لما تحتويه من جوانب جاءت على معالجتها بطريقة ذكية، حكت التاريخ بحيثيات إسقاطيّة ذكيّة، والفقر، والمنظومة الاجتماعية المُنهارة، من أسباب السياسة الفاسدة، والاقتصاد المنهار يسوء إدارته، وتحديات العولمة بنهجها الرأسماليّ السّاعي لنهب مقدّرات العالم، وتجميع الثروات بأيدٍ قليلة.
عمّان – الأردنّ
12/ 3/ 2021