لآفاق حرة
إضاءة على رواية
“بقايا من خبز وكتاب” للروائي “أكرم النجار”
بقلم. محمد فتحي المقداد
بين الصحو والهذيان، وبين اليقين والإدراك علاقة جدلية اتّسمت بها شخصية البطل الرئيسة “ماجد” في رواية “بقايا من خبز وكتاب”، وهو الأمر الذي انسحب عليه بجميع أحواله، وقد كان يرى في شخصية “سعدية” المرأة العجوز الجارة المُبادرة لمعاونة ومساعدة جوارها بما تستطيع رغم عجزها وضعفها الذي وسم حركتها بالبطء بحركات وتتهادى على عكازها؛ الحياة بعطائها والوطن والإصرار. غرفته عبارة عن كتلة طافحة بالضّوء والظلام يتناوبان عليها، مع أصوات العابرين من الجوار. يجلس ويراقب من النّافذة التي هي منفذًا لماجد، لسماع ورؤية أشكال الحياة وتفاعلاتها. المجتمع حركة دائمة نابضة بلا توقّف.
توصف رواية “بقايا من خبز وكتاب” بأنّها رواية قصيرة (نوفاتيلا)، وهي ضمن لائحة أدب المدينة الفاسدة (الديستوبيا)، التي تمثّل حياة الفقر والظلم والفساد والانحلال والجريمة والطبقيّة والدكتاتوريَّة العسكريّة. ويمثّل الخوف الثيمة الأساسيّة للرواية بالطبع الرواية من جيل التسعينيّات أي أنّها نشرت1990.
الحدثُ الروائيّ تُستشفّ ماهيّته من خلال القراءة، لتتّضح حياة الشابّ “ماجد” المؤدلجٌ حزبيًّا بانتمائه للحزب الشّيوعيّ، وبدا ذلك في ثنايا الرواية بطرحها الشّعاراتي لقضايا الفقر والثورة، والضرب على وتر العدالة الاجتماعيّة في بلد يُعاني من الأحكام العُرفيّة، المكان الروائي بقي مجهولًا بإطلاق العُموم، بعدم التأشير أو تسمية مكان بِعيْنه.
شُخوص الرواية محدودي العدد(ماجد وسعدية). (سعيد البدوي) هذه الشخصيات الثلاث هي مرتكز الرواية. وهناك (سامر وعائشة والجنود) كانوا شخصيات عابرة ودورها ثانوي جاء لاستكمال الحدث الروائي.
وكانت حركة الشخوص بطيئة. لم تحرك الحدث بينما كلنت منفعلة بطبيعة الحدث الآخر، الذي ركزت عليه الرواية، والاتجاه إلى أوجه الفلسفة، بمعنى تأصيل لمفاهيم تشكل جملًا مفتاحية، تصلح أن تكون ساحة للبحث والتأويل. كما لوحظ أن هناك الكثير من الفقرات شكلت وحدها مشهدية صالحة لتشكيل مفهوم قصصي، وتعتبر بحد ذاتها نص قصة قصيرة جدا “ق. ق.ج”.
الحامل الأساسي للرواية كان محمل اللغة الأدبية المنتقاة، التي تتقارب كثيرا مع اللغة الشاعرة، لتشكل مزيجًا مع روح القص والسرد، لتنتج شكلًا أدبيًّا روائيًا كما هذه الرواية “بقايا من خبز وكتاب”. شكل العمل بمجمله حالة أدبية جديرة بتتبع من القارئ المُتذوّق للمعاني والصّور الأدبية والتشابيه، الأمر ااذي فتح آفاقًا إيحائية للتأويل من خلال الإيماءات الترميزية، فهي تسعى لإشعال الذّهن بثبيت جمل مقولات شبه محكمة منها المعروف ومنها المنسوج للمرّة الأولى على طريقة الكاتب “أكرم النجار”.
وما بين الصحو والهذيان النفسي وتجلياتهما في سيرة البطل “ماجد”، الأمر الذي تكرّر في مواضع عديدة، حينما يرى ويسمع ويحلل ثم تأتي كلمة “أدرك”، لتأتي معها حالة الصحو والخروج من قبو الهذيان والاِسْتغراق الذّاتيّ؛ ليحكي أو يكتب الحقيقة التي يراها من وجهة نظره، المُتطابقة مع نظر الكاتب الرّوائي، بل هي رؤاه الخاصّة به، وليس الرّاوي الموازي والبديل الذي هو من صُنع كاتب الرّواية بالذّات، رسمه على طريقته على هواه بما يتوافق مع آرائه ومعتقداته وهو ما يطلق عليه “دكتاتوريّة الكاتب”. أمّا المونولوجات الداخلية اِسْتحوذت على معظم الحدث الروائيِّ ومساحاته السرديّة؛ لتأخذ منحًى واِتّجاهًا أراده الكاتب كي يستجر ويأخذ القارئ معه إلى دائرة عوالمه الفكريّة والأدبيّة.
المعاناة والألم والخوف والفقد (للوالدين) عند البطل “ماجد” والهواجس، كلّ ذلك شكّل الحوارات الداخليّة الصّامتة للرواية، عبر حديث النفس الطويل والمليء بالشكوك والتخمينات والقلق. لوحظ قلّة الحوارات بين البطل وغيره، ومرجع هذا الأمر هو تسيير الحدث الرّوائي وفق مسار زمنيّ واحد مُتقارب جدًّا، بل سيطرت حواراته الداخلية “المونولوجات” على جُلّ لوحات السرديَّة الروائيّة، وقد شكّلت هذه الألفاظ: “الظلّ والفراغ والعتمة والجدار والنّمل والعكّاز” خطًا هارمونيًّا من البداية إلى النّهاية، وتأرجحت السّرديّة حول هذه المفاهيم، ومحاولة قراءتها بأبعادها الثلاثيّة، ممّا ميّز الرّواية وأعطاها بُعدها الفكري بمنحاه الفلسفيّ، لذلك نستطيع إطلاق صفة الرّواية المُثقّفة.
وتُمثّل النّافذة جزءًا لا ييتجّأ في خطّ الرّواية العامّ حالة صحو واعية، تُتيح المجال للرّؤية والتفكير وُصولًا لاستدراك ذلك بالتدوين والتوثيق من أجل التّاريخ، الذي أخذ دورًا واسعًا من مساحة الرّواية، والتي بدورها جاءت كجزء من توثيق تاريخيّ لتجربة الكاتب على ما بدا. المكان والزّمان مُبهمان لم تتضح صورتهما، ولم تفصح عنهما تفاصيل الرّواية، وذلك حسب إرادة الكاتب “أكرم النجار”.