حسن لمين(المغرب)
يُعد الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري (1946 – 2024) من الأصوات الشعرية التي أثرت في المشهد الأدبي المغربي والعربي، حيث امتدت تجربته على مدى عقود، حملت خلالها قصائده هواجس العصر والإنسان، متخذًا من اللغة والموسيقى فضاءً للبوح والتأمل. في هذا المقال، سنحاول استكشاف ملامح تجربته الشعرية وتحليل عناصرها الجمالية والدلالية.
1– القلق الوجودي في شعر الحمري
تميزت قصائد محمد عنيبة الحمري بعمقها الفلسفي والوجودي، حيث عكست هواجس الإنسان في علاقته بالحياة والموت، بالحب والفقدان، وبالوطن والمنفى الداخلي. منذ ديوانه الأول “الحب مهزلة القرون“ (1968)، يظهر هذا القلق في نظرته الساخرة إلى مفاهيم الحب والرومانسية، إذ حاول تفكيك الصورة التقليدية للعاشق على طريقة نزار قباني، ليقدم رؤيته الخاصة التي تتقاطع مع النقد الاجتماعي والسياسي.
في ديوانه “مرثية للمصلوبين“ (1977)، يتجلى هذا البعد الوجودي بشكل أكثر وضوحًا، حيث يعبّر عن معاناة الإنسان المسحوق، متقمصًا دور الشاعر النبي الذي يصرخ في وجه الظلم، لكنه يدرك في النهاية عبثية الصراخ في عالم لا يصغي. هذا المزج بين الوعي الحاد بالواقع والإحساس بعدم جدوى التغيير يضعه في سياق الحداثة الشعرية التي تبناها شعراء السبعينيات في المغرب.
2– التجريب الفني والتحديث في قصيدته
لم يكن الحمري شاعرًا تقليديًا، بل كان مجددًا في بنيته الإيقاعية ولغته الشعرية. لقد حافظ على موسيقى الشعر العربي لكنه طوّعها وفق إيقاع داخلي يعكس نبض تجربته الخاصة. في “رعشات المكان“ (1996)، نجد تنوعًا إيقاعيًا، حيث يستخدم التفعيلة تارة والنثرية تارة أخرى، مع توظيف الجملة الشعرية المتقطعة التي تعكس اضطراب الذات وقلقها.
كما أن صوره الشعرية تميزت بانحيازها إلى التجريد أحيانًا، وإلى الواقعية الحسية أحيانًا أخرى، مما يجعل قصائده أشبه بلوحات مشهدية تتغير زوايا النظر فيها بشكل مستمر. هذا التوتر بين المجرد والحسي يتجلى في ديوانه “تكتبك المحن“ (2013)، حيث تتقاطع اليوميات الشخصية مع الرؤى الرمزية، فتتحول الأشياء البسيطة إلى دلالات كونية عميقة.
3– اللغة الشعرية عند الحمري: بين الصفاء والغموض
اعتمد الحمري على لغة كثيفة ومشحونة بالدلالات، وهو ما يجعل قصيدته تنفتح على أكثر من قراءة. في ديوانه “سمّ هذا البياض“ (2000)، نجد أن البياض يتحول إلى رمز للفراغ، وللغياب، وللبحث عن معنى في عالم يغرق في العتمة. هذه الدلالات الرمزية تجعل من شعره تجربة تحتاج إلى تأمل عميق، حيث تتداخل اليومي بالمجرد، والخاص بالكوني.
4– الموضوعات المركزية في شعره
يمكن تلخيص أهم موضوعات شعر الحمري في المحاور التالية:
أ– الإنسان في مواجهة الزمن: حيث يظهر الشعور بالفناء كعنصر أساسي في قصائده.
ب– الحب والتلاشي: لكنه حب لا يأتي في صورة رومانسية صافية، بل هو مشوب بالخيبة والتساؤل.
ج– النقد الاجتماعي والسياسي: خاصة في مراحل شبابه، حيث كانت قصائده تمثل موقفًا احتجاجيًا ضد الظلم.
د– اللغة والكتابة: إذ كان واعيًا بدور الشعر نفسه، وأثر الكلمة في تشكيل الوعي.
5– إرث الحمري الشعري
برحيل محمد عنيبة الحمري، يفقد الشعر المغربي أحد رواده الذين استطاعوا المزج بين القلق الوجودي والتجديد الفني. لقد كان شاعرًا متفردًا، لا يشبه أحدًا سوى صوته الخاص، وهذا ما يجعل إرثه الأدبي حيًا في الذاكرة الشعرية المغربية والعربية.
يبقى السؤال مفتوحًا: إلى أي مدى استطاع شعر الحمري تجاوز جيله ليصل إلى الأجيال الجديدة؟ وهل سيظل صوته حاضرًا في المشهد الأدبي المستقبلي؟