تسللت شمس الشتاء بهدوء عبر نوافذ القطار فائق السرعة المتجه من الدار البيضاء إلى طنجة، وانعكست أشعتها الذهبية على المقاعد الجلدية اللامعة. كان علي قد اتخذ مكانه قرب النافذة في العربة الثالثة، يمسك بكوب قهوة ساخن بين يديه بينما يتأمل الحقول الممتدة التي تمر بسرعة البرق.
علي، طبيب جراحة القلب المعروف، كان في طريقه لحضور مؤتمر طبي بطنجة، حيث سيلقي محاضرة حول آخر تقنيات جراحة القلب المفتوح. بزيه الرسمي الأنيق ونظارته الطبية المستطيلة، كان يبدو غارقًا في أفكاره المهنية، حتى لفت انتباهه رجل جلس بجانبه بعد توقف القطار في إحدى المحطات.
الرجل كان يحمل حقيبة جلدية متوسطة الحجم ويضع قبعة رمادية تغطي شعره الأشيب. ابتسم ابتسامة دافئة عندما التقت عيناه بعلي وقال: “السلام عليكم، يبدو أن مقعدي بجانبك.”
“وعليكم السلام، تفضل بالجلوس،” رد علي بابتسامة خفيفة.
بمجرد أن جلس الرجل، بادر بتقديم نفسه: “اسمي سعيد، كاتب روائي. ذاهب إلى طنجة لحضور مؤتمر اتحاد كتاب المغرب.”
اهتز قلب علي بشيء من الحماسة. “تشرفت بمعرفتك، أنا علي، طبيب جراحة قلب. أنا أيضًا متجه إلى طنجة لحضور مؤتمر طبي.”
تلاقت نظراتهما بنوع من الفضول المشترك، وبدأ الحوار يتدفق بانسيابية طبيعية. تحدث سعيد عن رحلته مع الكتابة، كيف أن شغفه بدأ منذ الصغر حين كان يملأ دفاتره بقصص عن الأبطال المغامرين والعوالم الغامضة. “لكنني الآن أكتب عن الهجرة والاغتراب، مواضيع تلامس وجدان الكثيرين في مغربنا الحديث.”
هز علي رأسه بتفهم. “الهجرة موضوع شائك. في الطب، نقابل مرضى هاجروا بحثًا عن حياة أفضل أو رعاية صحية متقدمة. أحيانًا أجد نفسي أفكر في التغيرات النفسية التي يمر بها هؤلاء.”
ضحك سعيد وقال: “يبدو أن بين الأدب والطب نقاط التقاء كثيرة. كلاهما يحاول فهم الروح البشرية ومعاناتها.”
لم يلبث الوقت طويلًا حتى دخل موظف القطار لتفقد التذاكر. بعد التأكد من كل شيء، غادر ليتركا الحوار يتواصل دون مقاطعة.
سأل سعيد: “ما الذي يشغل بالك اليوم؟ تبدو قلقًا رغم هدوئك.”
تنهد علي بعمق. “لدي مريض شاب حالته حرجة. العملية التي سأناقشها في المؤتمر قد تكون أمله الأخير. لا أستطيع التوقف عن التفكير فيه.”
ربت سعيد على كتفه وقال بلطف: “ثِق بأنك ستجد الحل. يبدو أنك شخص يضع قلبه في كل ما يفعله.”
شعر علي بالامتنان لهذه الكلمات البسيطة التي حملت قوة تهدئ القلق. بالمقابل، سأل علي: “وماذا عنك؟ هل تجد الكتابة مفرًا أم ملاذًا؟”
“كلاهما،” أجاب سعيد بعد تفكير قصير. “أكتب لأهرب من واقعي أحيانًا، لكنني أجد نفسي أعود إلى الورقة كمن يعود إلى بيته. الكتابة تمنحني مساحة للتأمل والتفكير.”
تابع القطار طريقه، مخترقًا التلال والمروج التي تزين الطريق إلى طنجة. ازدادت حرارة الحديث بين الرجلين، ووجدا نفسيهما يتحدثان عن كل شيء: ذكريات الطفولة، تحديات العمل، وحتى أحلام المستقبل.
روى سعيد قصة أول كتاب نشره، والذي استغرق منه سنوات من العمل المضني قبل أن يرى النور. “كان ذلك بمثابة ولادة جديدة لي،” قال وهو ينظر عبر النافذة. “لكنني أدركت أن النجاح ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لمسيرة أطول مليئة بالتحديات.”
تذكر علي كيف قضى سنواته الأولى في دراسة الطب، وكيف كان عليه أن يتغلب على الشكوك الذاتية والمخاوف من الفشل. “كان الأمر أشبه برحلة جبلية شاقة، لكن كل خطوة جعلتني أقوى.”
عندما اقترب القطار من طنجة، خيمت لحظة من الصمت الهادئ على مقعديهما. كان كل منهما يعيد ترتيب أفكاره بعدما تلاقى عالمهما لفترة وجيزة ولكن مؤثرة.
عند الوصول إلى المحطة، وقفا جنبًا إلى جنب على الرصيف. مد سعيد يده إلى علي قائلاً: “سعيد بلقائك. أتمنى أن نلتقي مجددًا.”
أمسك علي يده بقوة وقال: “وأنا أيضًا. لعل القطار جمعنا اليوم ليذكرنا بأن الطريق ليس مجرد وجهة، بل رحلة تستحق أن تُعاش.”
تبادلا الابتسامات الأخيرة، ثم انطلق كل منهما نحو مؤتمره. ولكن في قلب كل منهما، كانت هناك ذكرى حديث عابر، زرع بذور الأمل والإلهام.
وفي اليوم التالي، وبينما كان علي يلقي محاضرته أمام جمع من الأطباء، تذكر كلمات سعيد وشعر بثقة متجددة. وفي قاعة أخرى بطنجة، كان سعيد يقرأ مقتطفات من روايته الجديدة بحماسة ملحوظة، وقد أضاء عينيه بريق جديد من الإلهام.