بقلم : عبد الباري طاهر
بعد مضي ثلاثة أعوام من الحروب المتناسلة والتي عمّت اليمن طولاً وعرضاً، مازال دوي المدافع، وأزيز الرصاص وضجيج الطيران والقصف هو المتكلم والمسموع. جذور حروب اليمن، وعللها، وأسبابها، هي أوهام القوة، وادّعاء التفرّد والتملّك، سواء بالحق الإلهي، «حصر الإمامة في البطنين» في الزيدية، أو «السمع والطاعة» لولي الأمر المتغلب عند السُنّة. فمن قويت شوكته وجبت طاعته – في المذاهب الأربعة – وزاد بعض المالكية في متونهم الفقهية: «من تزوج أمنا فهو عمّنا». التصارع والحروب – عبر التاريخ – لا تدور غالباً أو تشتعل بين الحق والباطل، أو الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، وإنما تشتعل الحروب، وتسفك الدماء من حول السلطان – كما يقول المتكلم الإسلامي أبو الفتح الشهرستاني- وهو أحد معاني الصراع الطبقي لدى كارل ماركس. فامتلاك السلطة والاستيلاء على النصيب الأكثر من عائد الإنتاج هي الغاية التي ينشدها المتحاربون. الرغبة في تملك الثروة والاستئثار بالسلطة في البلدان المتخلفة، «وفي طليعتها اليمن»، هي جذر وعلة وسبب الصراع «المعمد بالدم» منذ أزمنة متطاولة. التفرد الذي لم يبتدعه علي عبد الله صالح، وإنما جَسَّدَ نموذجه الأكثر استفزازاً وتجبراً، هو ما تجني اليمن اليوم حصاده المر. ثلاث سنوات من اشتعال الحرب، لتعم اليمن كلها، ولا يلوح في الأفق بارقة أمل سياسي. دمرت حرب الثلاثة أعوام عشرات القرى والأحياء، ومئات وآلاف المنازل، والمدارس، والمستشفيات، وصالات العزاء والأعراس، والمصانع والمؤسسات، وعشرات الجسور، والمكتبات، وقتلت الآلاف، وأكثرهم من النساء والأطفال والمدنيين، وشردت الملايين، وأسهمت في نشر المجاعة التي طالت غالبية السكان، وحاصرت اليمن كلها براً وبحراً وجواً، إضافة إلى الحصار الداخلي الذي تفرضه المليشيات المتحاربة. ويمثل حصار مدينة تعز أسوأ جرائم الحرب الأهلية. كوارث الحرب في اليمن دمرت الوحدة الوطنية، ومزقت اليمن شر ممزق، وأتت على نسيجه المجتمعي. الأحزاب الكبيرة انخرطت في الحرب، وأصبحت رهينة للمليشيات المسلحة، والتدخل الإقليمي. الأحزاب المدنية، ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي، والشخصيات العامة همشتها الحرب، وأقصتها عن الفعل والتأثير؛ فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. مع تصاعد الحرب واستمرارها يتزايد ويقوى التطرف، والإيغال أكثر فأكثر في المزيد من القتل والتدمير، وتنشأ قوى جديدة خلقتها الحروب لا صلة لها بالحياة السياسية، وترى في الحرب مجدها ونجم صعودها؛ فتعمل على التخلص من قياداتها الأقل مراهنةً وحماساً للحرب؛ وهو ما يطيل أمد الحرب. ونماذج أفغانستان والصومال وسوريا وليبيا بشعة ومفجعة. فوائد الحرب وعوائدها كبيرة. ففي زمان قياسي يصبح قادة المليشيات تجاراً كباراً، وتجار الحروب يصبحون أباطرة يتحكمون في مصائر البلاد والعباد، يطيعهم الجميع، ويكدسون ملايين الدولارات من دماء الشعب. الانفراد، والإقصاء، وعدم القبول بالآخر، وتجريمه، وتخوينه، وتكفيره هي قصة الصراع والحروب في اليمن لآماد متطاولة. ففي عهود الإمامة لا يقبل الأخ أخاه، ويقاتل الابن أباه أحياناً. في الثورة اليمنية – في الجنوب – لم يقبل الاشتراكي الأطراف المختلفة، وفي الأخير لم يقبل بعضهم بعضاً. في الشمال تحققت وحدة طوعية سلمية في الـ22 من مايو 90، لكن الرئيس صالح لم يقبل بشريكه الاشتراكي، وأقصاه بحرب 94، وهي أم الحروب المتواصلة حتى اليوم. ولم يقبل الإصلاح شراكة حلفائه في الائتلاف، هذا على صعيد الحكم، كما لا يقبل الاشتراكي بالإخواني في الحياة السياسية، والعكس صحيح. وداخل هذه الاتجاهات لا يُقبل الرأي المغاير والمختلف. الحرب الدائرة اليوم بين الأطراف المختلفة والمليشيات المتقاتلة تدور كلها من حول التفرد والإقصاء حد الإهلاك. القوى الإقليمية صراعاتها حاضرة منذ البداية، وهي حريصة على إطالة الصراع، وإنهاك الداخل؛ ليتسنى لها اللعب بالحرب، والتحكم بها. كلما طال أمد الحرب، كلما ضعفت قوى الداخل لصالح القوى الإقليمية والدولية، ويصبح الحل بيد هذه القوى التي تهمها مصالحها ونفوذها على حساب اليمن واليمنيين. والقوى الدولية، هي الأخرى، يهمها استمرار الحرب، ليس في اليمن، وإنما في العديد من البلدان المهووسة بالصراعات، وبتكديس السلاح. والمنطقة العربية، والخليجية بخاصة، أكثر بلدان الله قاطبة استيراداً للسلاح حتى لو لم تستخدمه؛ فهي في مواجهة أبدية مع شعوبها، ومع محيطها العربي. ويرتبط تكديس السلاح في جانب منه؛ لكسب المساندة الاستعمارية. وقائع الحرب وحالات المد والجزر تشتعل في أكثر من منطقة أو جبهة لبضعة أيام، وربما أسابيع، ثم تهمد؛ لتتفجر في منطقة أخرى؛ لتبقى مناطق اليمن المختلفة مشدودة للحرب، وأسيرة لها. الجنوب «المحرر»، هو الآخر، أسير صراعات النخب الكاثرة، والشرعية، والأحزمة الأمنية، والقوات الممولة من الإمارات العربية، وهجمات القاعدة والدولة الإسلامية في غير منطقة. الحرب في اليمن معومة. وشيئاً فشيئاً تفقد القوى الداخلية المرتهنة للصراع الإقليمي قدرتها على لعب أي دور، وتتحول إلى مجرد أدوات بيد الأطراف الإقليمية الحريصة على إضعاف كل الأطراف؛ لتتمكن من إعادة الصياغة وفق مصالحها ومشيئتها. التقارير الدولية، وتقارير الخبراء المقدمة لمجلس الأمن، والكتابات الصحفية الموثوقة تؤكد كلها استحالة الحسم العسكري. تجار الحروب يدركون هذه الحقيقة، ولكن الحرب تجارة تدر الملايين، وتكرس الوارطين فيها ليكونوا قادة أبديين فيما لو استمرت الحرب التي حولت اليمن إلى أسوأ بلد على وجه الأرض. يتعثر الحل السياسي في اليمن لعدة أسباب: – ضعف الإرادة الوطنية والمجتمعية في اليمن. ولعل أسوأ ما عملته الحرب الإجرامية هو تدمير البُنَى المجتمعية، وإضعاف الإرادة الوطنية، وارتهان الأحزاب الكبيرة للحرب وللصراع الإقليمي. – ضعف الأحزاب المدنية غير المنخرطة في الحرب، وازدواجية مواقف بعض قياداتها. – ضعف المجتمع المدني والأهلي الرافض للحرب، وخفوت صوت الداعين للسلام، وضعف الحامل المجتمعي، وسطوة العنف والإرهاب، واتهام دعاة السلام، ووصمهم بالخيانة. – سيطرة القوى الإقليمية والدولية على قرار الحرب، والإصرار على استمرارها؛ خدمة لأهدافها ومصالحها. – جنوح القوى الدولية إلى الاهتمام فقط بالحالة الإنسانية، والدعم اللوجستي لبعض أطراف الحرب، بديلاً عن وقف تدفق السلاح. هل الحل السياسي ممكن؟ نهاية الحرب حتمية. ولكن السؤال: متى؟ السلام هو الخيار الوحيد والممكن بعد وصول الحسم العسكري إلى زقاق مسدود، ولكن الرهان على صحوة ضمير تجار الحروب أو المستفيدين منها، أو الرهان على تصالح القوى الإقليمية والشعور بمسئوليتها عما لحق باليمن – رهان خائب. كذلك الرهان على توافق القوى الدولية في الضغط على أطراف الحرب، والقوى الإقليمية لوقف كارثة صنعتها هذه القوى اليمنية والعربية والإقليمية والدولية – رهان خائب هو الآخر، لكنه ممكن في حالة واحدة، هو وجود حراك داخلي يمني يسند هذا التحرك الدولي ويؤازره في مختلف مناطق اليمن، وعموم فئاتها وشرائحها المتنوعة، وبالأخص الشباب والمرأة الذين صنعوا مجد الثورة الشعبية السلمية. والأهم هو النزول إلى الميادين في كافة المدن اليمنية كخطوة أولى لتلجيم قادة مليشيات الحرب، والقوى الإقليمية الوارطة والداعمة لها، وإعلاء كلمة السلام، وإشاعتها كلغة حياة. هذا هو رهاننا وخيارنا الوحيد لإيقاظ الضمائر الميتة، ولتذكير العالم بأن اليمن البلد الجائع والمريض والمحروب قادر أن يضع نهايةً للحرب، وأن يصنع سلاماً وأمناً واستقراراً لبلده وأهله وللمنطقة كلها.