كتب/محمد عبده الشجاع.
ثلاثة أعوام من الوجع
اليوم 26 مارس 2018م ودعنا صنعاء وهي تحتفل بثلاثة أعوام من الصمود (الأسطوري) كما يحلو لإعلام الأمر الواقع تسميته.
لم يعد هذا الصمود حاضراً في الوجدان، لقد أصبح ملصقا في واجهة المحلات، وعلى الجدران واللفتات، ودعناها وهي تعج بالأوجاع، وغلاء الأسعار، واختفاء مادة الغاز دون أي مبرر واضح.
ودعناها والناس على أحر من الجمر ينتظرون فرجاً قريبا.
ثلاثة أعوام حولت صنعاء إلى جسد مشلول، بعد أن كانت كسمكة السلمون، ترحل باستمرار دون توقف.
**نقاط التفتيش نحن هنا.
في نقطة “حمام جارف”، تم إيقافنا مدة ربع ساعة، كانت كفيلة بأن تهدئ من نزقنا إلى بلوغ الهدف، وكانت بمثابة بروفة أو البوصلة التي سنسير عليها.
هكذا يبدأ الاختبار بصورة تدريجية، بعدها تم ايقافنا لأربع دقائق فقط، ثم نصف دقيقة في “يسلح”.
نقطة أخرى خارج ذمار باتجاه رداع عشر دقائق تحقيق مع ثلاثة من ضمنهم (منصور). أحدهم معاتباً:
“يا منصور أنا قلت لك هات 500 مش 250 على شان تتخارج”.
مدخل مدينة البيضاء بدأت رائحة (الغاز) تنبعث، وكان هناك من ينادي غاز غاز للبيع.
نقطة أبو هاشم لا مجال للمساومة.
ساعة إلا ربع صعد المحقق الأول عمره لا يتجاوز العقدين، دخل في نقاش جانبي مع أحد الركاب حول “معاوية وبني هاشم” وحصار المسلمين في شعب مكة، أنزل أربعة للتأكد من سلامة وجهتهم بأنها لن تكون إلى الجبهات المعادية، عاد ثلاثة، استبقى واحد.
جاء معقب آخر، أكد على ضرورة بقاء الجعدي لديهم للتحري، قال المعقب للسواق: “اعبر” رحل الباص وأخذ معه اثنين كانا موقوفين منذ اليوم الأول، تحت ذريعة التحري.
سألت أحدهم من أين أنت؟ اخبرني أنه من “جبل رأس” حيث معركة الساحل، وأراض ملغمة تفاقم معاناة الناس اليومية وتقيد حركتهم.
أقسم أنه ذاهب للبحث عن عمل، وأنه يفتقد لما يسد رمقه، وكعادة اليمنيين قاموا بالواجب معه في الحال.
مر المعقب على الوجوه في الصفوف الأولى ثم قال: ” يبدو أن ركاب هذا الباص كلهم مش حق قتال”، وصل عندي ثم سأل: “وأنت حق قتال”؟ أجبته باسما. طبعا لا. إلا في وقت الواجب.
رد بقوله: “أنت شكلك مش حق قتال خالص أنت حق كمبيوترات”. ثم حرك أطراف أصابعه، كأنه عازف (بيانو) ترى هل يعرف معنى بيانو؟ لا أعتقد ولا أظنه عزف يوماً.
مثل هؤلاء لا يعزفون إلا بالزناد.
معاناة الطريق “سائلة مراد“.
قبل بلوغ الطريق الوعرة، وجدنا طابوراً طويلاً لقاطرات محملة بالغاز على امتداد الطريق، ووجدنا مساحة أخرى كأنها منطقة جمرك، تحوي عدد كبير من القطارات أيضاً، كان المشهد إجابة واضحة لأي سؤال يطرأ. أين هي حصة العاصمة من الغاز؟
طريق طويلة وغير معبدة، قريباً سيأتي الصيف وسوف تتفاقم المعاناة في المناطق التابعة لشرعية مأرب، وسيتحول المطر من نعمة إلى نقمة.
سوف تعجز الشاحنات عن الحركة بسلاسة، وستحضر المعجزات ومعها البطولات، وسيحضر الموت حتماً، فالجبال التي تحيط بالسائلة تتحول كلها إلى مصبات سيول لا ترحم في طريقها أحد.
تطول السائلة ولا بديل إلا خط “صنعاء نهم مأرب” المغلق منذ سنوات، حيث يصبح من الصعب على سائقي الناقلات والسيارات التعامل معها، تتفاقم المعاناة كل عام، وليس من حل سوى الصبر.
على الطريق تتناثر مجموعة خيام متواضعة، يسكنها مجموعة من “المهمشين”، ليس بها أي شيء من الخدمات، سوى بصيص نور ألواح شمسية، يعتمدون في معيشتهم على مساعدة أصحاب الناقلات، وإصلاح أجزاء من الطريق، والمساعدات الأخرى العينية والنقدية.
يقضون حياتهم على أنهم “لاجئين” قدِموا من بعض مناطق الصراع.
العودة إلى أحضان الاسفلت.
بعد السير لمسافة طويلة وكأننا على ظهر “سفينة صحراء” عدنا إلى أحضان الاسفلت. من بعيد لاح ضوء الكهرباء إنها مديرية الجوبة، الكهرباء التي طال انتظارها في صنعاء.
**نقاط الشرعية في الانتظار.
نقطة الشرعية تجبرنا على النزول، نفس الأسئلة، مع الاهتمام قليلاً بتفحص الوجوه، وبعد ساعة نعود الأدراج.
نقطة أخرى، أسئلة أخرى، تجميع الجوازات ومن ثم توزيعهن، هبوط وصعود.
14 عشر ساعة من صنعاء إلى مأرب فقط كفيلة بأن ترسم ذكريات تبدأ من تورم القدمين، وانحناء الظهر، وتنتهي بانهيار الجسد فوق المقعد.
الأطفال والنساء والمرضى معاناة مريرة.
يعتبر إغلاق مطار صنعاء منذ أكثر من عام ونصف العام أمام المسافرين، جريمة بحق الإنسانية، تتحملها أطراف النزاع، والأمم المتحدة، والمجتمع الدولي.
في رحلات الباصات تجد الأطفال المتعبين، والأمهات المسنات، والمصابين بالشلل والجلطات، يقطعون مسافات طويلة تزيد من المخاطر، وتضاعف من معاناتهم ومرضهم.
والسؤال هنا مطروح أمام الريح. إلى متى سيظل الأمر هكذا؟
مذكرات مرهقة.
يصل المسافر مأرب متعباً وقد تبخرت معظم طاقاته، فيبدأ الملل والتعب، يهبط النعاس كالجبال.
بعدها تبدأ الرحلة مختلفة تماماً، نتوقف في منطقة “العبر” قليلاً ثم “الوديعة”، ثم نتجه صوب سيئون.
سيئون مع بزوغ الفجر.
وهنا بدأ الأمان يرف في الاجفان، بعد رحلة مضنية وشاقة استمرت ل23 ساعة.
صافحت عيوننا النخيل، والبيوت الشاهقة، وعشرات المآذن.
لمسنا طيبة السيئوني في وجه سائق التاكسي، واستعلامات الفندق.
ها نحن في الوادي عابرين، نسقي الفؤاد من مآذن شاهقة، ونروي عطش العيون من وهج الأوجه السمراء الممتلئة بالطيبة والبساطة.
سيئون مدينة جذابة ومختلفة تماماً عما هو مألوف، فالقادم لأول مرة يستشعر ذلك بسهولة ويسر.
سجيل الظهيرة.
تجنبا لحرارة النهار، قررنا الطواف ليلاً بالمدينة القديمة والحديثة معاً، كنا عابرين بين صلاتي المغرب والعشاء، وكانوا جالسين القرفصاء أمام المساجد، يتجاذبون الأحاديث.
مساجدهم مميزة، جميلة وأنيقة، يتم ترميمها كلما أصابها الوهن.
وكذلك قصورهم، يتم الاهتمام بها أولاً بأول، وخاصة تلك التي تتبع السادة، من بيت الجفري، والسقاف، والكثيري.
قصر سيئون مغلق باستمرار.
منذ أن تطورت الأحداث وتوقف تدفق السواح، تم إغلاق قصر سيئون، وليس أمام الزائر الى التجول في الفناء الخارجي بالكاد.
القصر مغلق باستمرار كما أن معظم إن لم يكن كل الآثار المهمة تم أخذها إلى منزل أحد المشيخ حتى إشعار آخر، خوفاً عليها من النهب والسرقة.
للشعر والأدب وقفة ساحرة وحضور بهيج.
بدأ العليل يدغدغ الأجفانا
ويلوح فجر العارفين أمانا
وتنام في المقل الحيارى فتنةً
ما استيقظت إلا لكي تنسانا
من ههنا ابتدأ العبور يشدنا
ومن هنا انسكب الضياء حنانا
هي المحابر والجفان وحلمنا
سيئون يا سيئون يا سيئونا.
نثر ووتر.
هي المآذن، والمقابر، والتصوف، والترفع، والازقة، والنشيد العذب.
هي الطين والسجيل في وقت الظهيرة، هي البرود، النخل البهيج، والقصر المسافر في الخواطر، والحصون المرمرمية، والحدائق الخضراء، كهرباء الروح تختزل الجمال، تاريخ النواطح، أضرحة البياض، دهدهات الفجر، أسرار العبور إلى المساء،
تربع الغيمات أعلى من أماكنها، حضور الذات والآيات..
يسكنها خلود العارفين؛ عدد الحصى والموميات، زهو التجلي، وانبلاج الفجر من وتر الغناء…
غَنّاء أنتِ إذ تسكنُ مهجتي الأشياء، لا خوفا ولا وجلا..
تجيئيين
تُحيين الذي مات في النسيان…
تختبرين أقلام السبات الآن..
لا واحد إلا هو
لا أول لا آخر
لا مستعان!!