مقدّمة لديوان “بلّوريات” للشّاعر التّونسي محمد بن جماعة
“بلّوريات”، الدّيوان الجامع لرؤى الشّاعر محمد بن جماعة. السّهل الممتنع المتأرجح بين الواقعيّة والسّرياليّة. المتمازج بالجسد والرّوح ليعبّر عن كينونة الشّاعر وكنه العلاقة بينه وبين ذاته ومحيطه، والعلاقة بين إنسانيّته وشاعريّته. تستفزّ الفلسفة الخاصّة بالشّاعر المتقطّرة من كلّ نصّ عقل القارئ ومشاعره، فعليه وهو يطالع هذا الدّيوان، أن ينسى كلّ ما اختزنه من ثقافة وينغمس مع الشّاعر في حياته الدّاخليّة. فيجول معه في عالمه الخاص الّذي ابتناه، فتجلّى ديواناً أقرب إلى السّرياليّة. مع العلم أنّ الشّاعر يعبّر عن واقع يستخدم به صوراً ماديّة طامحاً إلى أبعاد أخرى تتخطّى اللّغة والإنسان والشّاعر.
“سأبحث عن ألفاظ أخرى
ما بعد اللّغة،
لي حدسٌ أنّي سألمسها ذات يومٍ
لغتي الجديدة ستضيءُ رخامَ معناك
ولي عبارات سأنحتها لكِ لأصل..
يا امرأة !..”
لعلّ هذا النّص هو اليد الجامعة لكلّ النّصوص. يكشف فيه محمد بن جماعة عن تخطّيه الفعليّ للّغة وعبوره إلى القارئ من خلال الحدس. فيكتب به الجمال ليتجلّى كلّ نصّ بلّوريّة مختلفة عن الأخرى، تجتمع لتكوّن اللّغة الجديدة. في كنف هذا النّصّ تجتمع كلّ النّصوص، كأنّي به ينبوع يغرف منه ليروي ظمأ الشّعر. (اللّغة الجديدة/ العبارات المنحوتة) سبيلان للوصول إلى الحبيبة (المرأة). “يا امرأة”، العبارة الأمّ الجامعة لنصوص الدّيوان، الحاضنة لقلق الشّاعر وحركته الرّؤيويّة والفلسفيّة في الدّيوان والمانحة له سرّ وجوده وغايته. (“أنا لم أكن أنا../ وإنّما الآن أصبحتُ أنا!.. “).
تتبيّن السّرياليّة للقارئ في “بلّوريّات” من خلال تقاطع الصّور والمشاعر واستخدام الشّاعر لمنهج خاصّ يعتمد فيه دمج الصّور الحسّيّة الجافّة بالمشاعر اللّيّنة اللّطيفة كقوله:
” أخيرًا..
طوّرتُ جهازَ التّحكّم فيكَ عن بعد،
فهلاّ عرفتَ برامجي المفضّلة
للسّنة القادمة؟..
أعشقُ لقطات ما قبلَ العرض..
الشّتاءُ يملأُ عينيّ
وخجلي برائحةِ رضيع!..”
بالمقابل يفيض إحساساً خاصّاً فتأتي النّصوص متجرّدة إلّا من العواطف الجيّاشة المختزنة في أعماق الشّاعر. إلّا أنّه تجرّد عشقيّ واعٍ ناتج عن نضج واختبار شخصيّ. دلالة على عشق متأصّل فيه يتوق إلى الانفجار في سماء الجمال الأسمى، فيكون عشقاً ينطلق من الأرض إلى ما بعد الكون:
“إن رسمتُكِ بقلمي
أحتلُّ كيانَكِ..
أنشئ بخيالي حدودَكِ المغلقة
لذا..
فكّرتُ أن أقولَكِ بلغتي العاقلة
حيث ُجمالكِ المطلق!..”
الشّعر في “بلّوريّات” نسيج عقلانيّ عاطفيّ. منهج خاصّ بالشّاعر محمد بن جماعة. يحاكي به الحبّ ويناجي المرأة الحبيبة بل يتحاور معها في داخله بتفاصيل دقيقة، وكأنّها تسكنه ويسكنها. لحظات وامضة أنجبت قصائد فلسفيّة عشقيّة. طاولت السّماء بمزج الواقع بالخيال، وانسحبت إلى سطور يُقرأ بين ثناياها محمد بن جماعة الإنسان والشّاعر. فيكون الدّيوان بمجمله مرآة شفّافة صافية، تبرز أعماق الشّاعر. لكنّها بمثابة بحر عميق يلزم القارئ أن يغوصه حتّى يتلمّس الجمال.
مادونا عسكر/ لبنان