التاريخ والعاطفة في مذكرات مجنون في مدن مجنونة /

 

اطلالة نقدية

بقلم :  الشاعر أحمد طناش الشطناوي

وقوفا على سؤال طرح في حفل إشهار هذا المؤلف، والذي تناول عنوان الكتاب ” مذكرات مجنون في مدن مجنونة”

كيف للمجنون أن يكون شاهدا وهو الذي لا تقبل شهادته وكيف للمدن المجنونة أن يشهد لها مجنون؟

وهنا لا بد لنا من تعريف الجنون اصطلاحا وعلميا حتى يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال

فالجنون من المسائل الخلافية في عالم الطب والطب النفسي، وقد وصف الباحثون الجنون بأنه طيف طويل ممتد في إحدى قطبيه العبقرية المفرطة، والتي يتمتع بها الفلاسفة والمفكرون، وفي القطب الآخر أنواع الجنون المختلفة بتدرجاتها من عته وبلوى وبله وجنون العظمة والعجب والخرف والحمق والرعونة والغفلة والسفه والدهش والجذب والجنون دون الجنون أو داء العشق، وكل هذه الأنواع تسمى جنونا مع اختلاف درجات الجنون فيها، وهناك من يجلس في منتصف الطيف تارة يميل نحو العبقرية وتارة يميل إلى الجانب الآخر.

ولو نظرنا إلى تعريف الجنون ضمن المفهوم الدارج والذي يقول: هو كل نمط تفكير أو سلوك يتعارض مع أنماط التفكير أو السلوك السائدة في مجتمع معين، في زمان ومكان معينين وهو مفهوم ذاتي نسبي لا يستند إلى أي معيار موضوعي.

أما التعريف العلمي للجنون: فهو اضطراب في بنية أو وظائف الدماغ، يؤدي إلى اختلال كلي أو جزئي، دائم أو مؤقت في الوظائف والمقدرات العقليةنتيجة لعوامل مسيولوجية أو وراثية.

فاستنادا الى هذين التعريفين نجيب عن السؤال بشقه الأول فأن الصوالحة صاحب مذكرات مجنون في مدن مجنونة ما هو إلا عاشق وصل حد الجنون دون الجنون في عشقه لبيئته وللأماكن التي قام بزيارتها، وهذا ما سأتناوله في إطلالتي هذه مستندا على شواهد العاطفة النفسية الإنسانية والعاطفة التاريخية التي أبرزها صاحبنا في مذكراته هذه.

وأما الشق الثاني من السؤال والذي يتحدث عن المدن، فكيف للمدن أن تكون مجنونة وكيف يشهد على جنونها مجنون؟

وهنا سأقف عند إجابتين، أولاهما أن يكون جنون المدن انعكاسا للسلوك الإنساني الذي يمارسه سكان هذه المدن مما يشكل حالة حسية مرتبطة بالسلوك المجتمعي في المدينة وهذا أمر مألوف في مجتمعاتنا، وقد يكون الجنون في نظر كاتبنا هو جنون الطبيعة في هذه المدن من حيث التضاريس والمناخ والتغير التاريخي الذي طرأ عليها بالمقارنة مع تاريخ هذه المدن وحضاراتها ، وهذا ايضا مألوف نعيشه في مدننا، فالثورة العمرانية شكلت تغيرا سريعا ومفاجئا في معالم المدن وهذا ايضا انعكاس آخر على السلوك التاريخي لهذه المدن

ولكنني أرجح الإجابة الأولى وهي انعكاس السلوك المجتمعي على تلك المدن.

التاريخ بين العاطفة والواقع.

يتمتع الكاتب محمد الصوالحة بثقافة تاريخية مكانية واسعة، فتجده يصف المدينة تاريخيا متجاهلا واقعها الحالي مستندا على ما يحمل من ثقافة ومعرفة، وقد وظف هذه الثقافة في مذكرات رحلاته وسفره بشكل واضح وجلي،فمثلا تجده في رحلته الى دمشق يقول «سوريا يا نداء القلب، يا ارض جلجامش وزنوبيا، سوريا يا معشوقة التاريخ وابنته، سوريا تنادي فيك تدمر، وتناجي أرواد، ها هو أبو الطيب المتنبي يتألق بثوب القصيدة وهو يمدح سيف الدولة، وهاهو سيف الدولة يجهز الجند لرد الروم عن أطراف بلاده، هاهو أبو فراس الحمداني الأمير الشاعر يرسل بقصائده إليك وهو هناك في سجن أنطاكيا، هاهو الملك العادل يوعز لقادته بالتجهز لصد العدوان عن أرض الاسلام، وصلاح الدين ينطلق منها إلى الكرك ومن ثم إلى مصر لتبقى راية الإسلام خفاقة وكلمة الله هي العليا»

ونلاحظ في هذه الفقرة امتزاج العاطفة المكانية مع العاطفة التاريخية عند الكاتب، ونرى تجلي مثل هذه العواطف بوضوح في جميع فصول هذا الكتاب، فكان التاريخ المكاني مرتكزا أساسيا في بناء نص المذكرة وهذا يعبر عن ثقافة واسعة عند الكاتب استطاع أن يوظفها في نصه بشكل جمالي ماتع ليكسر حاجز السرد ويخلق جوا ملحميا تاريخيا يقوي بنية النص ويضيف إليه نوعا من التشويق والعاطفة الصادقة.

ومن الشواهد الواضحة أيضا في مذكرة رحلة إلى الله إذ يقول الصوالحة « معان، نحن الآن في معان وهنا لا بد للذاكرة أن تقف لا بل أن تعود الى الوراء كثيرا إلى تاريخ زاهر ما زالت ملاحمه واضحة جلية تسقط الأقنعة عمن يدعون أن هذه الأرض ما كانت إلا مع تأسيس الإمارة، كيف؟ وهنا كانت الدولة الأقوى في تاريخ المنطقة هنا المكان الآمن لكل الخائفين منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا هنا عاصمة الصحراء هنا تأسست دولة العرب الأولى هنا كان النظام الذي يسير عليه كل أفراد المجتمع هنا كانت دولة الأنباط التي أهدت العالم الفن الحقيقي والدائم» إلى آخر ما قال.

العاطفة الانسانية

 ومن الملاحظ أيضا اتكاء النص في مذكرات مجنون في مدن مجنونة على العاطفة الإنسانية والإجتماعية التي لم تغب أبدا فكانت ركيزة أساسية أيضا اتكئ عليها الصوالحة في جميع مذكراته، حيث يقول قي مذكرة رحلة الى الله « يا بني كفى من العمر ما مضى كفاك ما قضيته من عمرك طيشا وعبثا» ويقول « كانت تعزف على الوتر الذي تعرفه جيدا، كانت تضربني دوما على خاصرة العاطفة، كانت كلماتها المتحدية تخترق ضعفي وتسقط آخر قلاعي» وفي القاهرةيقول « شيء يهمس بداخلي إنها مشاعر الوهلة الأولى والنظرة الأولى بعد قليل سيكون كل شيء طبيعي وستضحك كثيرا من هذه الحماقات» وأيضا « لمَ لم أكن شاعرا لأكتب بهذا الجمال الإلهي قصائدي وماذا سيقول الشعر في حضرتهن؟ هل ستصمد الكلمة أمام روعتهن؟»

ومما لا شك فيه أن النص الأدبي الذي يخلو من العاطفة هو نص ميت، فتحسبه كما جسد بلا روح، فالعاطفة روح النص وأنفاس الكلمة، ونحن هنا بين نصوص تتنفس العاطفة الصادقة، وتثير عواطف القارئ وتشده ليعيش حالة عاطفية متفاعلة مع النص.

هل كان للبعد النفسي عند الكاتب دور في كتابة هذه المذكرات؟

لعل القارئ لمذكرات الصوالحة قراءة متأملة سيجد نفسه أمام دهشة نفسية قلقة، وهذا يؤكد الحالة النفسية التي كان يمر بها في كل رحلة، فهذه الدهشة القلقة تفسر ادعاء الصوالحة بأن المدن التي تجول بها مدن مجنونة، فالقلق واضطراب الحس المجتمعي الذي لمسه الصوالحة ما هو إلا انعكاس واضح أراد به توضيح مايجول بخاطره من دهشة يفسرها البعد العاطفي المقارن بين بيئة الكاتب والبيئة التي يصفها.


ومما لاشك فيه أيضا أن الصوالحة قد نجح في إشراك القارئ في العملية الإبداعية من خلال الدلالات العاطفية والتاريخية التي استخدمها في بنائه النصي، ويتأتى ذلك من خلال انسياب السرد ومراوحته بين العاطفة الإنسانية والعاطفة التاريخية المنغمسة بين السردية والوصف.

 

ومن جهة أخرى فإن النص الأدبي ما هو إلا انعكاس حالات نفسية إنسانية أو تجربة يمر بها الكاتب أو يراها في المجتمع، وهذا ما قدمه لنا محمد الصوالحة في مذكرات مجنون في مدن مجنونة.

 

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!