كتب إبراهيم موسى النحَّاس:
يحاول القاص فؤاد الدوَّاش في مجموعته القصصية الجديدة ((مصنع الهذيان “ناراجونيا”)) أن يرسم لنا صورة للمدينة الفاضلة, لتصبح ناراجونيا هي الفردوس المنشود، فإليها تطمح إليه الذات القصصية, لتصبح واقعًا موازيًا للواقع المؤلم بسلبياته, فلا تتحول إلى مصنع للهذيان, بل مدينة الجمال المنشود, ذلك الجمال الذي دفع الكاتب لتناول الكثير من قضايانا الاجتماعية والواقعية والفلسفية بل والدينية أيضًا داخل تلك المجموعة.
تبدأ المجموعة بتناول قضية الفهم الخاطئ للدين من بعض الناس, وطبيعة نظرتهم إلى الله وشريعته, ذلك الفهم الخاطئ الذي أدَّى إلى تبدُّل قيم المجتمع كما عالجه في قصة “إله الإيروس” ص 97, وتناولته قصة “العُرْي بالعُرْي…كتاب بوهيميا المُقدَّس”ص96 حيث نجد شخصية “سيِّد” الذي يقوم بتعرية الأم “تريزة” التي أرضعته بعد موت أمِّه بتمزيق ملابسها انتقامًا من تعرية ابنها “يوسف” لامرأة مُسلمة هي زوجة صديقه, لنعرف أنَّ الخطأ ليس في الأديان بل في فَهْم البشر لها, فيقول: ((فحيث فعل ابني الخيانة مع زوجة صديقه..قام الشيطان بالتوقيع.. وحيث قاموا بتعريتي قام الشيطان بالتوقيع والمباركة..يبدو أنَّ كتاب بوهيميا المُقدَّس يضيف كثيرًا من النصوص في عقول وقلوب الناس, فحيثما حلّتْ كتُب الله الحقيقية..زال كتاب بوهيميا…وكلما حلَّتْ كتُب الله حلَّ العدل والسلام في قلوب الخلق)).
وتنحاز المجموعة القصصية للطبقات الكادحة في المجتمع حتى في اختيار أسماء بعض الشخصيات القصصية, فنجد في قصة “رب البسطاء” ص17 ذلك الحوار بين”متواضع” و “عظيم” والذي يعكس مدى معاناة تلك الطبقات في مجتمعها الذي بدا لهم وكأنَّه غابة لا مكان فيها للضعفاء, فيقول على لسان “عظيم”: ((هنعمل إيه, حين يرضى الناس بالقليل لا يطالوه, وحين يرضون بالموت يصبح عزيزًا, الدنيا لا مكان فيها للضعفاء أمثالنا, ومَن يعِش فيها وسط الحُفر من السهل أن تدوسه الأقدام)). نفس المعاناة تناولتها قصة “حي الأعراف” ص 92 التي رصدت المتاعب التي تواجهها الطبقة المتوسطة في مجتمعها.
تعالج المجموعة القصصية على مستوى الرؤية السلبيات في بعض علاقاتنا الاجتماعية مثل التهنئة في المناسبات المختلفة باستخدام كروت معايدة وقوالب ورسائل جاهزة, لتعلن قصة “تهنئة هاند ميد” ص 175 الرفض للنمط السريع الاستهلاكي من خلال تلك المعايدات الجاهزة التي فقدت معناها وقيمتها وتأثيرها فيقول: ((لقد أفرط الناس في الاتصال إلى درجة أنَّه فقد معناه ومحتواه ودفئه بل إنَّ فقْد الاتصال لمعناه يجعل كل الحياة فاقدة لمعناها, فما الحياة السوية إلّا تواصل وإلْفٌ وإيلاف, لقد كرهتُ جدا كل القوالب الجاهزة من صور ومعايدات)).
عالجت أيضًا المجموعة القصصية قضية خطيرة تعاني منها مجتمعاتننا ويذهب عشرات الشباب ضحية لها, هي قضية الهجرة غير الشرعية التي تناولتها قصة “حارة المتروكين” حين يقول في ص 83: ((إلّا أنَّ هؤلاء الشباب والكُهَّل..راكبي سفينة الحمقى في القرن الواحد والعشرين…لم يصنعوا حمقهم الذاتي ولا جنونهم الذي يحتاج لتطهير بالإلقاء في البحر…لقد أغلق سادة الوطن ومُلّاكه كل الأبواب في وجههم)).
تتناول المجموعة في جوهر رؤيتها قيمة الحُب للوطن والانتماء إليه ليختم الكاتب مجموعته القصصية بطبيعة علاقة “حكيم” و “أسيف” بالوطن ناراجونيا في نهاية قصة “اضطراب التشوُّق للوطن..هوم سيكنِس” ص 210 حين يقول: ((خلص حكيم من تعجبه من أسيف..أنَّ حكيم نفسه يعاني من مرض التشوُّق للوطن..وأنَّ أسيف هو أظهر من يعيش خارج ناراجونيا من حيث إصابته بمرض التشوُّق للوطن…وحتى الساخطين على ما حدث في ناراجونيا يختزلون وطنهم في لقطة أو مشهد واحد..متجاهلين تاريخ ناراجونيا…متناسين أنَّ ناراجونيا هي فجر التاريخ وفجر الحضارة …وأنَّك بأي مكان خارجها لن تكون سوى مواطن درجة ثانية..وإن علا أجرك..وزاد مدحك..فأنت لست إلّا أجيرًا)).
وإذا انتقلنا إلى الجانب الفني نجد أنَّ قصص المجموعة تعكس لنا صورة الكاتب المثقف واسع القراءة والاطلاع ويتبدَّى لنا هذا الملمح في أكثر من قصة من قصص تلك المجموعة كما في قصة “كتاب بوهيميا المُقدَّس” ص 95 و96 حيث يقول: ((هُنا تذكّرتْ تريزة الكتاب الذي سمعت عنه في كلية اللاهوت المرسوم على ظهره الشيطان والذي كتب في بوهيميا حمهورية التشيك الآن…إنَّ من أفتى بحلال تعريتي وأنَّ من يمارس العُري بالعُري قد قرأ تلك الفتوى من إنجيل الشيطان أو كتاب بهويميا المُقدَّس والمعروف ب
)). Gigas
وعلى مستوى اللغة نجد اعتماد الكاتب على توظيف لغة الرمز أحيانًا للتعبير عن رؤيته داخل مجموعته القصصية كتعبيره عن معاناة الطبقة المتوسطة في حياتهم بأنَّها ” حي الأعراف” كذلك المحروسة رمز لها بالرمز”ناراجونيا” ص205. وإضافة إلى توظيف اللغة القائمة على الرمز يستعين الكاتب المفارقة في التعبير عن رؤيته لتعكس تلك المفارقة عبثية الواقع والحياة بقدر ما تعكس تمكنه من التعامل مع اللغة, نلمس هذا في نهاية قصة “إله الإيروس” ص 101 حيث يقول: ((يبدو إنَّه ليس من حقي أن أحلم, أن يكون فكري وبحوثي وشخصيتي موضع إعجاب وإغراء بالاستماع والإنصات….في وسط هذا الصراع والرغبات والآمال والإحباطات أيقظني صوت المنبه المجاور لسريري …لقد أيقظني منبهي من حلم ..خاتمته أنَّه لا يجوز لي أن أحلم)). وهناك جانب آخر يرتبط بطبيعة المعجم اللغوي داخل المجموعة وهو تأثّر الكاتب بوظيفته وحياته العملية والعلمية باعتباره طبيبًا وعالمًا في مجال علم النفس, حيث استخدم الكثير من المصطلحات العلمية مثل: ((بيرودوليا- بوهيميا- الهذيان- الهلاوس- لايف كوتش- الشيزلونج- عكس الجاذبية- هوم سيكنِس)).
تعكس المجموعة القصصية أيضًا البُعد الفلسفي لدى الكاتب, ذلك البُعْد الذي حفل به القسم الأوَّل الذي حمل عنوان((بحثًا عن الله)) بعناوينه الفرعية: “الانشطار الكبير..نداءات على رف الكتب- نبي الفيس بوك- الله بين متون الكتب- الله حيث الجماعة- الله في الطرقات- الله والحضارة- الله والدم”. وكلها جاءت في إطار فلسفي اجتماعي لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة حول علاقة الإنسان بخالقه وطبيعة فهمه للدين وشريعته وأحكامه.
يبقى جانب آخر قد يتفق فيه البعض مع الكاتب وقد يختلف البعض الآخر وهو عرض الكاتب أحيانًا لرؤيته بشكل توجيهي مباشر للمجتمع كما في ختام قصة “حرية الهذيان حين يقول في ص110: ((إنَّها حرية المجانين الذين أفقدهم الواقع القواعد التي تقوم عليها أدمغتهم, فتفيض أدمغتهم بالهذيان والهلاوس..نعم..الهذيان..متنفَّس المُحبَطين والمقهورين..سيصبح الهذيان هو الحرية الوحيدة المُتاحة)). ونفْس الأمر كان في ختام قصة “عدَّاد السعادة…حكاية جميل الحلو” ص 156. لكن مَن يقرأ وصْف الكاتب لمجموعته أسفل العنوان على غلافها الأمامي بأنَّها((فانتازيا علاج مجتمع)) يدرك أنَّ الكاتب يفعل هذا عن قصدية ووعي فني إيمانًا منه بالوظيفة الأخلاقية والاجتماعية للأدب في رصد سلبيات الواقع وتنوير القارئ لاستكشاف تلك السلبيات مع مساعدته في وضع الحلول لها إن أمكن.