هزمني غيابكِ | بقلم أ_ طارق ميره | (كاتب سوريّ دمشقيّ)

هزمني غيابكِ، فضح هشاشتي التي غشّيتها بستارٍ من المكابرة التي ادعيتُ فيها الجبروت المُصطنع والقوة المزَيّفة التي خدعتني بقدر ما خدعت نيتشه حين ألّف كتاب “هكذا تكلّم زاردشت”.
هذا الستار الواهي الشفّاف الذي نسجته من خيط العنكبوت سرعان ما تقوّض وتمزّق إرباً إرباً، وما عدتُ بقادرٍ على رتقه بأي شيءٍ. فلا الكتب أغنتني عنكِ بل كنتُ وما زلتُ أراكِ مندسّةً بين سطورها تتوسّدين صدري كطفلةٍ صغيرةٍ تنصتُ لحكاية أمها ما قبل النوم. ولا الموسيقى طردتكِ بعيداً بل قرّّبتكِ بألحانها أكثر وجعلتكِ تتجلّين بمختلف فنونها وإيقاعاتها. وحسبتُ الكتابة هروبٌ منكِ ومقبرةٌ لكِ؛ فأخذت أحاول منذ سنتين أن أتخلص منكِ بروايةٍ خلتُ أنني سأنهيها بشهرٍ أو شهرين ولكن أنثى طاغية مثلكِ أقوى من أن تنهيها رواية ولو كان حجمها ألف صفحة، فقد خاب ظنّي؛ فما كتبتُ حرفا إلا واقتربتُ منكِ أكثر وكأن اللقاء لا يتمّ إلا بقلمٍ وحزمة أوراق! وما دفنتكِ بل كتبتُ عليكِ الخلود والديمومة أبداَ في قلبي. ولا العمل أنهكني فشغلني عن الوقوف على أطلال ذكراكِ كلّ ليلةٍ ورأسي على وسادتي استحضر النوم لساعاتٍ ولا يأتيني إلا كصدقةٍ مع منّةٍ وأذى، فلا تغيبين إلا لحظة الانتقال إلى عالم الأحلام ومن ثم تعودين كبثٍ تلفزيونيٍّ مباشرٍ انقطع لجزءٍ من الثانية فحسب. ولا الترفيه جعلني أسلو وأتلّهى عنكِ، بل كان كغصّةٍ تشكو فقدكِ، وابتسامةٍ مريرةٍ لمكلومٍ فُجع بعزيزٍ يزفر آهاً وحسرةً وأسفاً عليه قائلاً: يا ليته كان حاضراً معي الآن؛ فلكم كان يحب هذا المرح أو هذه الأكلة وهذا المشروب.
كلُّ تفصيلٍ أنتِ، تكونين ظلّي في يقظتي وحلمي أثناء منامي، فأين الهروب منكِ وكل الدروب لا تؤدّي إلا إليكِ؟!
أين الهروب منكِ وغيابكِ قهرني ولا يزال يمعن فيَّ قهراً وغلَبة، يقهقه في وجهي ساخراَ متشفيا: (أيها المارق استسلم، عبثاً تحاول الهرب، سأطالكَ أينما ذهبتَ وتوجّهتْ ولو تحصّنتَ في بروجٍ منيفةٍ منيعة، أو اندسستَ في باطن الأرض، فاستسلمْ) فأستسلم له بيأسٍ وقنوط، بذلٍ لذيذٍ وخنوعٍ احسّه كالنشوة، ثم يصفع قلبي بساديّةٍ بقول نزار:
《كلُّ الدروبِ أمامنا مسدودةٌ
وخلاصنا في الرسمِ بالكلماتِ》
أيّ كلماتٍ تلك التي يريدني أن أرسمها؟ أي شقاءٍ وأي كمد؟ إنّه يعرف بأنني أجلد ذاتي بكلماتي وأواعد أحزاني فيها، لذلك فرض علي رسم هذه الكلمات كعقابٍ لي، ها هو يورّطني ببوحٍ أشمئز منه لأنه جليّاً وواضحاً وفاضحاً.
ولكن من أين لي بالكلمات أخطّها وأسطّرها؟ إنها لتعجز عن التمثيل الصادق والمعبّر عن تراجيديا داخلي، حتى هذه الكلمات وفي أيام عيدها – في اليوم العالمي للغة العربية – تضعف عن ذلك وتعجز عنه؛ فالماساة أكبر من كل حرفٍ وكل بيان؛ فكل ما كتبته للحين محض خربشةٍ لا تفِ بالغرض ولا تلبِّ الوطر. الكلمة الوحيدة التي تغني عن كل هذا العبث وهذا الهراء واللغو هو كلمة “اشتقتُ إليكِ”.
نعم… أنا مشتاقٌ أكثر من أي وقتٍ مضى، لا أستطيع إلا الاعتراف بذلك؛ فملامحي المتعبة ومزاجيتي وضياعي واضطرابي وعزلتي، كلها جواسيس تشي بذلك وتفضحني بأشواقي وحنيني إليكِ.
كيف أنتهي منكِ؟ أنتِ التي زلزلت كياني وقلبت عالمي راساً على عقب، حاولت مراراً وتكراراً ولكن جميع تلك المحاولات كانت تزيد المعاناة وتكرّس وجودك أكثر، لأن من يعشق قديسة وأنثى بشرية تدنو من مرتبة الملائكة محال أن يمحوها بألف أنثى عادية لها من الأشباه الملايين؛ وهذا لم ادركه تماماً إلا بعد محاولةٍ بائسةٍ اخجل منها امامكَ وأنا أخطُّ هذا الاعتراف الفاضح، ولكن لستُ أنا الذي يستحق اللوم على ذلك وإنما أنت يا سيدتي، فأنت بخذلانكِ لي وبغيابكِ الذي جرفني إلى الفراغ قد دفعني في لحظة مللٍ وضعفٍ لأن أتلقف أول عابرة أمام قلبي دون وعي وتبصّرٍ وتمحيص، فقبلتُ بها لكي أتناساكِ ولو لفترةٍ من الزمن؛ إذ أنّي كنتُ بحاجةٍ لأن ارتاح من ألم غيابك لفترةٍ قصيرةٍ؛ حتى أقوى على مواجهته من جديد. هذه المحاولة المخجلة التي شوّهت داخلي والتي كنتُ أتشبّث بها بالرغم من كل عيوبها ونواقصها فقط هروباً من الفراغ الكبير الذي خلّفته وراءكِ، هذه المحاولة التعيسة/المعصية هي من رواسب غيابكِ فسامحك الله عليها، ويا ليتك تمضين مع كل رواسب غيابكِ وتدعيني أنهض من جديد.
ولكن إلى أين ستمضين وقد صرتِ دوحةً عشّشت بجذورها في داخلي فامتدت والتفّت على نياط قلبي وأضلعي وتسربت بين تلافيف دماغي؟!
إلى أين ستمضين وأنتِ التي صرتِ في أفق حياتي ضباباً كثيفاً لا بنقشع ولا يتبدد؛ قد استولى على الحاضر وحجب المستقبل؟!
وعن أي حاضرٍ ومستقبلٍ اتحدّث وكل الأزمنة قد اختُزلت فيكِ؟ فأنت الماضي والحاضر والمستقبل، أنتِ التي وجدتُ معها علم الكرنولوجيا (علم الأزمنة) الذي أخذتُ عنه لمحةً أثناء دراستي الجامعية، قد وجدته معكِ مختلفاً عن ما تعلمته عنه؛ أنتِ التي أصبحتِ بعُرف الزمن ماضياً أراكِ قد هيمنتِ على الحاضر ونسفت المستقبل – الذي لا عودة له إلا مع تحقّق أملي العقيم/السراب بوصالكِ المستحيل – وجعلتِ منكِ أنتِ الماضي حاضراً اعيشه ومستقبلاً هو استمرارٌ لمأساة الحاضر وعذاباته. وهكذا غيرت اسم ومصمون علم الكرنولوجيا من علم للأزمنة إلى علم الذكرى والماضي الغائب الحاضر، الغائب بكيانه، الحاضر بأثره.
عندما أحببتكِ كنتُ قد ابتدأتُ معك من جديد، ووُلدتُ من جديد، ولكنكِ عندما فارقتتي ووضعتِ النهاية التي لم أرغب بها أبداً وزعمتِ أنها كانت رغماً عنكِ، حينها كان قد انتهى معكِ كل شيءٍ بالنسبة لي. فكيف النهوض وأنا ما نهضتّ إلا بكِ، أينهض العاجز دون عكازه ويتحرك المعاق دون كرسيه المتحرّك؟ لكم أتمنى ذلك.

طارق ميره

عن سوزان الأجرودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!