خاص لصحيفة آفاق حرة
قراءة نقدية
في رواية “زيف القصاص”
وكشف الضمادة عن عين العدالة.
للروائي (حامد أحمد الشريف)
بقلم/ وداد معروف
“زيف القصاص” من الروايات البوليسية الاجتماعية، جاء الخطاب البوليسي فيها خادماً للبعد الاجتماعي، وهي أيضا من الروايات ذات اللغز، التي تقدم لقارئها قضيتين بدلاً من قضية واحدة، الجريمة وقضية التحقيق.
رواية “زيف القصاص” صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون، تقع في 342 صفحة من القطع المتوسط، تتكون من عشرين فصلاً، جاءت عناوين الفصول تعبيراً عن محتوى كل فصل، مثل جبال من الجليد، أنفاق مشرقة، نجاحك في إيمانك، عتمة مضيئة.
أما الإهداء؛ فكان لوالده رحمه الله، وقد عنونه بهذه الجملة “لن أكون مثله” ثم قال: عندما عجزت أن أكون مثله، اصطفيته مثلا، وآمنت أنه لن يتكرر، ولن يكون أحد مثله، فعدت أحبو وأقف، أسقط ولا أتوقف، يتلعثم سَيْري تارة ويتعثر، وأستعيد ما بذره في روحي من جد…”
الرواية البوليسية تتطلب مهارة كبيرة في الحبك، وعقلاً رياضياً وإخراجاً متقنا لِلُّغز، كل هذا يتطلب تمكناً عالياً من السرد، وقدرة هائلة على ضبط إيقاع الأحداث، دون الإسراف في اللغة.
اختار كاتبنا لمسرح الجريمة مدينة دبي، تلك المدينة الكوسموبلويتان، التي جمعت كل جنسيات العالم، تعايشوا وانصهروا ظاهريا، لكن أبعادهم الاجتماعية والنفسية التي أتوا بها من بلادهم كانت هي الباعثَ لتصرفاتهم الشاذة، اختارها المؤلف، لكونها الأنسب لفضاء هذه الكتابة البوليسية، فهي بيئة عربية مناسبة لأحداث الرواية، لانفتاحها والحرية التي منحتها لمن يعيشون على أرضها.
تقوم فكرة الرواية علي مقتل “جهاد” الكهل الأردني الذي يعمل في شركة محاسبة كمحلل بيانات، وهو أيضا زوج الدكتورة ميسون الطبيبة النفسية. قتل في شقته واتهمت بمقتله فتاة لعوب اسمها إيمان. لقرائن وأدلة وقف عليها الضابط راشد. تم القبض عليها، ولكن ظلت الشبهات تحوم حول كل من كان يتعامل معهم أو بالأحرى معهن، هنا كانت بداية الرواية التي استغرقت حتى نهايتها في التحري حول علاقات القتيل “جهاد” بكل النساء اللاتي عبرن في حياته، فقد كان زيرَ نساءٍ، لا هم له في الحياة إلا الإيقاع بهن وتصويرهن في أوضاع شائنة معه، وتهديدهن بهذه الأفلام. المدهش أن هذه الكاميرات التي وضعها لتصوير ضحاياه من النساء – ربما لو أنصفنا لقلنا إنهم في الإثم سواء – هذه الكاميرات كانت هي مفتاح اللغز وأيضا كانت هي الضمادة التي كشفت عن عين العدالة.
فلسفة الرواية تقوم على أنه أحيانا يكون القصاص نوعاً من الظلم. إذا كان القتيل يستحق القتل. وقد ورد هذا في صفحة 318 ((القصاص من القاتل ليس عدلا في كل أحواله، بل على العكس تماما قد يكون العدل الحقيقي في التجاوز عن القاتل، تمجيد تصرفه، مكافاته عليه كحالة “جهاد”، الذي ينبغي إن أردنا إقامة العدل، التجاوز عمن فعل ذلك، وغض الطرف عن جريمته))
ولهذا جاء العنوان الملغز، الذي استلفت كل من قلَّب الرواية بين يديه ولم يقرأها بعد “زيف القصاص”!
اجتمع في هذه الرواية إيمان الفلسطينية، وميسون الأردنية وفتحية المصرية وسهام السورية، وثامر المصري، ورودينا المغربية، وميشيل اللبناني. كل هؤلاء دارت حولهم دوائر الشك، ولديهم دوافع قوية لقتله، أجرى الكاتب على ألسنتهم حوارات غاية في العمق، طرح من خلال التحقيق معهم عدداً من القضايا، وإن غطت علاقة الرجل بالمرأة على غالب مساحة الرواية. ربما يعود ذلك إلى أن الجريمة كان سببها تلك العلاقة الآثمة، لكن يؤخذ على الكاتب الإسهاب حد الإسراف؛ وربما التكرار أحيانا في وصف تلك العلاقات والإثقال على القارئ بتفاصيل التفاصيل لمطارحات الغرام، فكثير من الصفحات كان يمكن اختصارها لو أنه اكتفى بالوصف دون تكرار. ولعلي وجدت سبب هذه المنهجية في كلمات وضعها على لسان الضابط راشد ص 166 “أحب دائما إعطاء التحريات… جمع المعلومات وقتها، أكره الاستعجال، لا شيء مثله يوقعنا في الأخطاء”
لكنني أقول للأستاذ حامد الشريف: التركيز والعبارات المكتنزة كانت سترتفع بروايتك أكثر من ذلك.
ولأن الباعث النفسي كان خلف الاشتباه في إيمان وسامية ورودينا وميشيل وفتحية وثامر وميسون، فقد وُفّق الكاتب في وصف شخصياتهم من الداخل, مما ينم عن خلفية قراءاته في علم النفس الذي بدا واضحاً جداً في تعرية تصرفات شخصياته جميعاً.
تأتي أحيانا بعض المبالغة في وصفه للشخصيات النسائية وجمالهن وشدة جاذبيتهن، وتنوراتهن، وأنهن جميعا شبقات. من المبالغات أيضاً تصوير الضابط راشد بأنه يمتلك جاذبية تُوقِعُ كلَّ من حقق معهن في الإعجاب به وبعضهن اشتهائه، مع أن ذلك قد يقبل نظراً لنوعية الفتيات اللائي تشاركنا البطولة، فما جمعهن بجهاد هو الغواية وممارسة الرذيلة. أمر يشعرك بغثيان من هذا المجتمع الذي لا مكان فيه لأي قيم؛ فضلا عن أي دين.
هناك أيضا عبارات نحتها الكاتب راقتني كهذه العبارات:
الحياة تقسو أحيانا على مبدعيها.
أو أنه كبعض العباقرة لا تخلو حياته من تناقض.
لا شيء يقتل أحدنا ويحييه مثل الحب.
من المقاطع التي استوقفتني أيضا، وصفه لنفسية الرجل ص246 ((الرجل غالبا لا يحب من ترخِّصُ نفسها أمامه، تسلمه جسدها بسهولة حتى لو أقسم لها على محبتها، وإن تظاهر بذلك، الصحيح أنه يحب تنازلها، يعشق جرأتها، يخلص لغريزته أكثر منها))
صفحة 310 قال على لسان الضابط راشد ((لن أتحيز للرجال, لست بحاجة للوقوف أمامكِ مدافعا عنهم، فكثير منهم يفعلون أكثر مما فعل بعلك، هم مجبولون على الخيانة؛ إلا أن يردعهم وازع من دين أو خلق أو عرف سائد))
الحقيقة أن هذه الرواية أطلعتني على زوايا في شخصية الرجل لم أكن أعرفها، فهي توصيف رجل لخفايا وخبايا الجنس الذي ينتمي إليه.
وقد استعمل التناص مع القرآن كما في صفحة 270 حين قال على لسان فتحية ((كنت أظن كل صيحة عليَّ)) استعمل أيضاً بعضاً من الأمثال التي نتمثل بها في حياتنا.
لغة المؤلف لغة رصينة، أعطى فيها لغة الضاد حقها من الاحترام، فلم يتعاطَ العامية ولم يسلك سبيلها، وهذا لأنه أراد لعمله أن يُقرأ في مختلف الدول العربية، كما أراد لعمله البقاء. رواية “زيف القصاص” دراما اجتماعية، استخدم فيها الكاتب قلمه كمبضع جراح، عمل به في جسد المجتمعات العربية، على اختلافها وعلى نتاجها الذي أفرزته من فساد وظلم واستغلال للمرأة؛ مما ساهم في وجود مثل تلك الشخصيات المهترئة نفسياً وإن لبست قشرة الحضارة، لكن الروح ظلت جاهلية.
أتى على ذكر عدد من الاماكن والمعالم السياحية، ما ينبئ عن أن الكاتب جاب كثيراً من دول العالم وتعرف عليها، كما تواصل مع مختلف الجنسيات وعرف طبائعها، فقد وصف كل شخصية في روايته بما تتصف به من سلوكيات وسمات، فحين يتكلم عن فتحية المصرية فهو يصف ملامحها ببنت البلد “الجدعة” كما يقال في مصر. وحين يأتي على ميشيل اللبناني، يصفه بالمنفتح الذي انطبعت عليه الثقافة الفرنسية. جهاد الأردني يصف ويحلل سبب وقوعه في الرذيلة أنه جاء من مجتمع يفصل بين الرجال والنساء، لذا عندما انتقل إلى دبي ووجد هذا التحرر لم يتوان عن الانغماس فيه.
الحقيقة أن الرواية ثرية جدا بالمشاهد والشخصيات وذلك لتنوع البيئات التي أتت منها وتنوع المشارب، وصدمة التحولات التي تعرضوا لها نتيجة الانتقال للحياة في دبي.
في النهاية أشكر الروائي حامد الشريف على هذه الوجبة الدسمة التي قدمها لنا فالتهمناها ونحن مقرون له بجودة السبك وكمال النضج، وأتمنى له مزيداً من الأعمال الناجحة، ومزيداً من الإبداع المغاير والمنتمي لهذه الامة العربية الملهمة.
_______
الفاهرة /مصر