قراءة كاشفة لرواية (سماء صالحة للرقص) للشاعر والروائي (ناصر قواسمي)- بقلم الروائي محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة :
_____________

كثيرًا ما يتوقّف القارئ متأمّلا شخصيّة ثريّة بمكنونات معارفها المتنوّعة بثقافتها النّاهلة اغترافًا من ينابيع لا تنضب، كما هو الحال عند الشاعر (ناصر قواسمي)، قبل قلاث سنوات عايشت لحظات إعداد وتدقيق مجموعته الشعرية (أحرس ذاكرتي بالعشب)، قصائد ببيّارات البرتقال اليافاوي، تستند إلى جدار الأقصى الحزين، بنكهة الزعتر والزيتون تحمل في طياتها فلسطين.
وفي غفوة من الزمان حدث تحوّل مفاجئ للمحيط الأدبيّ، طبيعيّ في مثل حالة (ناصر قواسمي) حينما أعلن عن إنجاز روايته الجديدة (سماء صالحة للرقص)، والتي ستصدر قريبًا عن دار نشر (يوتوبيا – الجزائر). تجلّت فيها ثقافة ناصر العميقة بتجلياتها الإبداعية على كافة مستوياتها.
رواية (سماء صالحة للرقص) رواية ملآى بالثقافة، والرّؤى العميقة النظريّة منها، والعمليّة للأديب ناصر قواسمي الذي يغترف من معين نبع لا ينضب من الخبرات المختزنة، بتجليّاتها المُتبدّية بظواهرها في ثنايا هذه الرواية التي نحن بصدد الكتابة عنها.
وبالتوقف أمام بعض عبارات وردت في ثنايا الرواية، وعلى سبيل المثال لا الحصر نتوقف عند بعضها، كما ورد بقوله: (فالنوافذ حبال ممدودة بين مَدى الرؤية واللانهائي الممك، إذا ما لم تقف الجدران له بالمرصاد؛ فتمنعه من التوغل في الأبدي). النوافذ وأهميّتها في الحياة عمومًا، خاصة إن كانت بنظرة أديب عميق برؤية بعيدة المرامي والتوجّهات.
ولعلّ تجربة الحياة بقساوتها وطراوتها خلق رؤيويّة بسمة عقلانيّة، عقلانية الشيوخ الهادئة المنطلقة بعد تروّ وتفكير مديد. ومحاولة الهروب خصلة بشريّة للنجاة بأقلّ الخسائر، وفي المثل الشعبيّ عبّروا عن ذلك بقولهم: (الهزيمة ثُلُثيْ المراجل)، ولا يمكننا تطبيق هذا المثل الشائع على نطاق واسع بالتعميم، لأن الهزيمة في المحصلة تبقى هروبًا من الاستحقاقات، وتنثّل من التبعات، وفي وقفة مع هذه الفقرة من الرواية، نتوقف على فهم جديد ضمن ما ذهبت إليه في هذا المنحى: (سنفتعل الهرب لندّعي أننا لم نفشل، أننا نحاول جدلًا أن نجد أرضًا أقلّ خسارة نقيم عليها عواصمنا التي سنبني بعد حين قليلًا أو كثيرًا، وكي نتمكن من تجميع ما تكسّر أو تهشم في دواخلنا؛ فنعيد تدويره وتكريره من جديد؛ لنضعه في خزانة المحتمل إلى حين، أو لعلّنا نفعل لنبدأ البحث عن معنى جديد لمعنانا الذي فقدنا أثناء الذهاب في المحاولة). والعرب هوّنت من شأن ذلك، فالهزبمة تحوّلت إلى نكبة زمرة نكسة. ولكن عند ناصر قواسمي، فهي محاولة لتقليل الخسائر، ونقطة انطلاق جديدة تتّسم بالقوة، لمتابعة المسيرة الحياتية بتفاؤل مستقبلي.
التفكير الأهم في الحياة على الإطلاق حينما يكون مع الذات، في لحظة فارقة في محطات العمر، بهذه العبارة اختصر ناصر مأساة أرض مغتصبة وشعوب مشرّدة مطاردة. بقوله: (ونواصل الركض من جديد كي نبني حياةً؛ تليق بالغرباء الذين جاؤوا من البعيد يؤثثون الغياب، لعلّ يفلحوا بالحصول على حيّزٍ قابل للعيشِ قليلًا، لحين الاستعداد للصراع الذي سيكون بعد نسيان ودهر مع الشيء العظيم الذي دفعنا للهرب اللعين دفعة واحدة، مرّة واحدة، كقطيع من السنونو فرَّ من فخاخِ الصغار). بقليل من القراءة التأملية. تتضح بجلاء الدفقة الإنسانية الحزينة متجليّة بمخرجاتها المؤسية على مدار الساعة.
الساعة الآن تمام العزلة.. ماهذا الوجع كلّه يا ناصر؟.. لقد أسرتني إرباكًا، وأنت تداعب دواخلي محاكاة اللاجئ المُشرّد، الأجدر بك أن لا توقظ مواجعي. بما ذهبت إليه: (تنزع النظارة عن عينيك وتنظر إلى الأفق ليس لأن في الأفق شيئًا يستدعي النظر الآن، ولكنك تستنجد بالسماء أن تنقذك من هذا، وهذا التشتت المرهق الذي يحيط بك دون جدوى.
الساعة الآن تمام العزلةِ …
وحدك في وحدك تقرأ الأخبار، وتصغي للأصوات المربكة من حول، ولا تملك حق التذمر من شيء أو أحد أو على شيء وأحد).
ما أجمله من تعبير: (يصعد المسافرون إلى أوقاتهم بلا وقتٍ محددٍ، يختارون مقاعدهم دون عناية فائقة، ودونما تركيز، كأنهم فرغوا من الخيارا، وما عاد يستثيرهم شكل المقعد أو لونه، فجميع المقاعد في القطار متشابه، والفارق البسيط أن ثمة مقاعد على النوافذ مباشرة تطلّ على المدى المفتوح، وأخرى تجاورها بمسافةٍ قليلةٍ جدً؛ لتنفرد هي الأخرى بالإطلالة على الممر الطويل بين الجميع). فالوقت متاح للجميع ربما يجيدون استثماره، وكثيرًا ما يفشلون، والعودة هنا إلى النافذة ومداياتها المُستكنّة في نفوسنا، بدون التفكير إلا باستنشاق الهواء الرّطب، وتلطيف حرارة الحيّز المكاني.
بالانتقال إلى عنوان الرواية، مثير بجدليّة تستدعينا لملامسة بعضًا من مراميه البعيدة والقريبة، محاولة تقريبية، لعلّ الحظ يحالفني في مهمّتي الصعبة.
(سماء صالحة للرقص) كلمات ثلاث شكّلت وحدة دلاليّة ببعد ورؤى فلسفيّة، وحصيلة تجربة حياتيّة للكاتب، ومن طريق آخر ربّما تكون مسار حياته الذي شكّل سيرته التي جاءت على شكل روائي، والرواية وعاء يستوعب مثل هذا التذويت للذات أدبيّا.
ولما ضاقت الدروب، وتشعبّت ضياعًا بأهلها، ورسوم المعاناة المستطيلة على مساحات عمر، تهميش وضيق، أظلم الأفق، بانطفاء شمعة الأمل، كان الهروب من أجل الخروج من المأزق المأزوم، إلى متاهة الاغتراب والانطواء على الذات. لا أدري إن كان الهروب هو الحلّ؟.
فالغربة مواتَ داخليّ وخارجيّ، والهروب موت، والأرض ضاقت، ولم تعد تتّسع لطموحات وأحلام إنسان، فلم يبق أمامه إلا أمنية مفارقة الحياة، ولقاء ربه في رحابة السّماء الواسعة؛ لتكون مسرحًا واسعًا، لا يضيق برقصة الحياة.
سماء صالحة للرقص فضاء روائي غنيٌّ بمشاهده المتتالية المتتابعة، بانتقالاتها بين منحنيات عديدة في الكون، ومحطات ما بين السياسة والاقتصاد، والتاريخ والجغرافيا، والدين وعالم الأرواح، بين الشكّ والإيمان، بين الحبّ والمصلحة، أفصحت الرواية عن نفسها تمامًا، بما كشفت من عمق ثقافة الشاعر والروائي ناصر قواسمي.
عمّان – إربد
٢١/٨/٢٠٢٠

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!