قصة قصيرة ب
خلال تفقّده لضيعته المتواجدة بضواحي العاصمة نهاية الأسبوع. إكتشف الحاج الصنهاجي بحسرة أن محصول كرمات العنب لهذا الموسم قد تمت سرقته. إستفسر حارس الضيعة، فأكد له هذا الأخير أنه لا يُصدّق ما حصل، فهو يبيت كل ليلة على مقربة من الكرمات منذ أن نضج العنب. وأنه لا يجد تفسيرا لما جرى، حيث لم يستسغ كيف تمكن السارق من القيام بغعلته دون إثارة ٱنتباهه، بل بدون إثارة نباح كلبه الذي يبيت بجانبه.
تفحص الحاج مليا ساحة الجريمة، فلاحظ أول ما لاحظ أن السارق قد أمعن في ٱنتقاء مسروقه. لقد إختار، ودون غيره، أجود صنف من أصناف العنب، وأطعمه نكهة وأحلاه مذاقا. وبدل قطف العناقيد، إكتفى بنزع حباتها حبة حبة، وترك العناقيد مُصوَّحَةً معلقةً دون أن يُكسّر غصنا واحدا، أو يترك آثار أقدام حتى….
تفقد السياج العالي المحيط بالضيعة ولم يجد به ٱثار ٱختراق، وراقب بوّابة المدخل الرئيسي فوجدها بحالة جيدة. مُوصدةٌ بإٍحكام، ويحرسها أضخم وأشرس كلب يملكه، كان قد إقتناه منذ فترة بثمن ليس بالزهيد، خصِّيصا لإثناء الغُرباء عن مجرد التفكير في الإقتراب من الضيعة.
.
طلب من الحارس تحضير برّاد شاي ثقيل، مُعطّر بالنعناع البلدي ريثما يحط أمتعته القليلة ويصلي الظهر، لكي يتفرغ بعد ذلك لدراسة المسألة عن كثب، ويقرر الخطوة التالية.
بعد الظهيرة، وأمام صينيته، أمضى الحاج الصنهاجي ساعات طِوال يفكر بالأمر تحت شجرة التين العملاقة التي ترخي بضلالها على الجانب الغربي من بيته.
بعد تأمل طويل في تفاصيل الواقعة وتحليلها ، خلُص إلى ٱستنتاج لا يقبل الشك: لابد أن السارق مُحترف مُتمرّس. فقد إستطاع ٱختراق منظومة الحراسة المتكاملة دون عناء، وحمَل معه ما قَلّ وزْنُه وغلا ثمنُه، ولم يترك وراءه أدنى أثر وكأنه شبح. وعلى ضوء استنتاجاته، صار مُقتنعا بأن التعامل مع الحادث يجب أن يكون بالجِدّية اللاّزمة، والمهنية المطلوبة. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. وعلى قدر العٍدا تُعدُّ العُدّة …
تحت وطأة القيض، و على سمفونية الزيز، سرحت بالحاج الصنهاج ذاكرته المتقاعسة إلى السنين الخوالي. إلى أيام الشباب وغِوايته .أيام الجهاد ضد الغزاة….
كانت نباهته سجيةً تفتَّقت مُبكّرا في صباه. إلتحق بجيش التحرير قبل أن يدرك ربيعه السادس عشر ، ولكن ذكاءه المتَّقد وشجاعته الملحوظة كانا يُميزانه عن المجاهدين من رفاقه، رفاق لا يتحرّجون من إبداء إنبهارهم بمناقبه الكثيرة رغم بَكارَة سِنه: وطنيةٌ مثالية، شجاعةٌ بطولية وبراعةٌ فِطرية في نصْب الكمائن لجُند العدو والتنبأ بخططه وتحركاته .
عندما ٱستقلّ الوطن، كان المجاهد الصنهاجي يشارف على الثلاثين من عمره. لم يسعى كما فعل غيره للحصول على بطاقة المقاومة ولا التعويضات التي تتيحها، بل توارى في صمت عن أنظار معارفه، وسافر الى العاصمة حيث إمتهن التجارة وٱنقطعت أخباره، ثم عاش ردحاً هنِيّا من العُمر بِرُفقة زوجةٍ طيبة أنجَبَت له ولدا صالحا ورِث عنه ذكاءه. حصل على دبلوم الهندسة في سن مبكرة وهاجر الى الديار الكندية للعمل بأحد مراكز الأبحاث الفضائية هناك.
عندما بلغ السبعين، إشترى الحاج الصنهاجي أرضا فلاحية بضواحي العاصمة. حفر بها بئرا، زرع أشجار تينٍ وزيتون، و بنا بها بيتا تقليديا من حجر وطين، و غرس شتلة كرمة تين بجانبه الغربي، لتكون بعد مدة مكان ٱسترخائه أيام الحر, وملجأه للتّدبُّر وأخذِ القرارات الحاسمة.
بعد تفكير عميق، قرر إقامة مركز حراسة على مقربة من كرمات العنب . يتناوب فيها مع حارس ضيعته على مراقبة عودة السارق.
دامت مدة المراقبة أسبوعا كاملا دون نتيجة تُذكر . فبدأ اليأس من الإطاحة بالجاني يدِبّ إلى قلب الحاج… إلا أنه في صبيحة يوم الأحد الموالي، إستفاق على أولى خيوط الشمس التي تسللت الى مرقده عبر ثنايا الستار. فتح عينيه، أخرج من جيب عباءتِه منديلَهُ المطروز ليُجفف قطرات العرق المنسابةِ على جبهته البارزة وعنقه المتجعد. وضع نظارته الغليظة الزجاج ومدّ يده ليأخذ هاتفه الذكي فيتمكن من قراءة الساعة على شاشته.
كانت الساعة تشير الى السادسة صباحا، فأرجع هاتفه مكانه وٱستدار على جَنبه الأيسر وأغمض جفنيه محاولا تدارك النوم قبل أن يطير. …. إلا أن أمراً ما منعه من ذلك. لا يدري كيف، ولكن ساورَه إحساس غريب بأن السارق متواجد في الضيعة في تلك اللّحظة، فقال محدثا نفسه…..لعله أتى مبكّرا ليُنهي ما بدأ. أو ربما تُراهُ رجع مدفوعا بقوة إلاهية خَفِيّة، فقط ليُفتضحَ سرُّه ويَنالَ عِقابه. فالمجرم غالبا ما يعود دون سبب منطقي لمكان جريمته.
لن يفلت هذه المرة قال بعدما ٱنفتحت عيناه الجاحضتان عن ٱخرهما وٱلتمَعتا أيّما ٱلتماع.
قام من مرقده، توضئ وصلى ركعتين كما كان يفعل في شبابه قبل ملاقاة العدو أيام حرب التحرير.
أخرج من الدولاب زيّهُ العسكري المُموّه القديم . لبس أولاً بنطاله وربطه عند خصره بحزام عتيق، ملأ جيوبه الجانبية بالخراطيش، ثم وضع حذاءه الجلدي الطويل الرقبة، والمطّاطي النّعل فأحكم ربط رِباطه. بعدها، إستقام ولبس السُّترة وركّب أزراها بعناية، علّق في عنقه مِنظار تقريب الرؤية الذي جلبه من بلاد الحجاز إبان حجه قبل بضع سنين، ثم ثبّت القُبعة على رأسه. وقبل أخذ بندقيه العتيدة، نظر إليها وخاطبها قائلا…. يبدو أننا ٱظطُرِرنا للعودة للخدمة بعد كل هذا العمر. سندافع عن أرضنا بنفس البسالة، بالحديد والنار، ونُنزل أقسى العقاب بمن ٱستباحها وحاول سرقة خيراتها…..
خرج من بيته بهدوء وترك بابه موارَبا تفاديا لصريره المزعج. مشى بخطىً متأنية. وعندما أدرك مركز المراقبة، مَكَثَ به لِبُرهةٍ، لكنه لم يرصُد أي حركة مُريبة، فتقدّم يختلِسُ الخَطْو كمفترس برِّي يسعى لمباغتَةِ فريستِه، وعندما أصبح على مرمى حجر من كرمات العنب، أخذ منظاره المتوأم ومشّط المكان طولا وعرضا فكانت المفاجأة…..
لم يكن السارق ٱدميا، ولم يكن فردا. بل كان سِربا من طائر السقساق الأسود، ذى المنقار البرتقالي … ينقر ثم يلتهم بشهية كبيرة ما نَضَجَ من حبّات العنب دون أدنى ٱكتراث.
تأفّف الحاج ضَجِراً ممّا أفضتْ إليه خُطّته المُحكمة للإمساك باللّص واستاء من فشلها الذريع . وبقدر ما كانت دهشته أمام هذا الموقف السخيف كبيرة، كان غيضُه و حنقُه أكبر. لقد أدرك بمرارة أنه هرِم ، وأنه فقد الكثير من نباهته، وأضاع حِنكتَه القديمة في الإيقاع بالعدوّ.
ّبعد الصدمة، قال مخاطبا نفسه: ولْيكُنْ!!!…لِكُل جريمة عقاب!!!….ثم أصدر على عجَلٍ حُكمه النهائي على المغتصبين، ونفَّذ فيهم حكم الإعدام رميا بالرصاص ، ثم علق جُثثهه بواسطة خيط رفيع في أحد فروع الكرمة ليُنكّل بهم، ويجعلهم عِبرة تُثني غيرهم عن محاولة سرقة محاصيل الضيعة بعد اليوم .