عـــــودة/ بقلم:شوقي دوشن( اليمن)

تهيأت كما ينبغي لحضور حفل زواج صديقي الرائع ،الأيام الماضية حملت بشارات عديدة كان من ضمنها أن هذا العازب قرر القرار الصائب أخيرا .

في المحطة تراصت باصات صغيرة وحافلات، فيما كنت شارد الذهن ولست أدري لم؟ وكأن هناك أمر ما غير سار على وشك الحدوث!! كما رفت عيني أيضا وسرى إحساس بالتنمل في أطرافي، شعرت بيد  تحط على كتفي،كانت تلك اليد الباردة  لعامل  المحطة  وبرغم حرارة الجو، إلتفت إلى صاحبها إلتفاتة لا إرادية لا تخلو من خوف وعدم طمأنينة. أشار ذلك الرجل الطويل، نحيف  الرجلين ،ضامر الوجه والمتعب كحال أولئك المغلوب على أمرهم في الأرض،يممت ناحية إحدى الحافلات الصغيرة المنتظرة ركابها  فصعدت وفي يدي أحمل كيسا بلاستيكيا فيه هدية لصديقي.

ثمة ركاب آخرون يستقلون الحافلة التي بدأت تتحرك وتخطو أولى خطواتها على الطريق الأسفلتي. شخصان اقتعدا الكرسي خلف السائق  مباشرة ،أحدهما يبدو في الأربعين من عمره،  يتصفح جريدة يتلاعب بصفحاتها الهواء المندفع من النافذة المفتوحة على إثر تسارع الحافلة،  أما الآخر  فشاب في العشرينات من عمره،يضع هاتفه الجوال على أذنه اليسرى مستغرقا في مكالمة طويلة.

وفي المقعد الذي يليه جلست إمرأتان ، يبدو أن إحداهما هي الأم والأخرى الإبنة، صامتتان لا تنبسان بحرف كأنهما تمثالين من حجر،

وتمضي الحافلة في طريقها،لكن صوت بكاء متواصل لطفل صغير قابع في حجر أمه الشابة، لفت نظري،  لم تفلح رجرجات   الحافلة في تهدئتة ولا  في إسكاته أيضا، وبالرغم من كل ذلك ،إلا أن المرأتين الصامتتين لم تحركا ساكنا،ظننتهما في الحقيقة ميتتان  ،لكنهما كانتا تتنفسان.

في المقعد خلف الأم وطفلها كنت أنا وشخصين  آخرين

نستقل آخر المقاعد . فوددت أن أفعل شيئا ،  فبكاء  الطفل لم يهدئ دقيقة ولم يتوقف،فوجدت نفسي أسأل الأم:

– ما باله؟ أهو جائع ؟ لا بأس ،أرضعيه،لا تخجلي ،خبئيه في جلبابك وارضعيه،

قلت مكررا،

: إلتفتت الأم النحيلة نحوي وقد  رأيت في عينيها  دمعا وحسرة و حزنا:

– دماغه مصابة بشحنات كهربائية زائدة،عرضته على الأطباء ورحلة العلاج لا تزال في بدايتها.

بعد تردد، طلبت  منها  أن تناولني إياه،قرأت عليه شيئا من القرآن ،أرقيته ثم أعدته إليها.

عطل مفاجئ أصاب المركبة وصوت مدو نتيجة انفجار أحد أطاراتها..عقب ذلك لا أعلم كم مضى من الوقت  قبل أن أكتشف أنني ربما غطست في نوم عميق .فتحت عيني مذهولا. حاولت أن أتذكر شيئا وما أسعفتني ذاكرتي بشئ.

وكأن هناك فاصل ما قد حدث.فقط ما أعرفه الآن أن  الحافلة تمضي في رحلتها ؛ الرجلان  خلف السائق ما زالا، أحدهما ممسك هاتفه ويتحدث والآخر يقرأ الجريدة. المرأتان صامتتان كما ألفتهما، وطفل الأم الشابة عاد للصراخ من جديد..الرجلان اللذين بجانبي يتحدثان بصوت خفيض.بعد تعب ومشقة، أخيرا وصلت بغيتي.

أردت استخدام الهاتف ،غير أني لم أجده. بحثت عنه ولكن دون طائل. رفعت رأسي من تحت المقعد ،إنتبهت مصدوما من عدم مشاهدتي لأي من الركاب على مقاعدهم في الحافلة حتى السائق نفسه لم يكن موجودا.

ترجلت عن الحافلة،لفت انتباهي شدة الظلمة في المكان وقد غطت كل التفاصيل:

– أين أنا؟!

سألت نفسي سؤالا لم أجد له إجابة قط.

قررت أن لا أبقى هكذا،ومضيت أتحسس طريقي بمجرد أن لامست قدماي الأرض. تلفت يمنة ويسرة لربما أجد من أسأله أو يرشدني لمنزل الصديق الذي بت لا أعرف السبيل إليه الآن.

هناك شئ غير مفهوم ؛ تلك طريق غير الطريق والناس مختفون! لا أعتقد أن الوقت قد تأخر لكي تنام القرية بأكملها؟!

لم أتوقف عن المضي للأمام واتخذت مسارا لا أعرفه. بعد عدة دقائق،فوجئت بالمرأتين الصامتتين  تسيران أمامي. تتجهان صوب أحد الأزقة، بلهفة أسرعت الخطى تجاههما حتى لا تغيبا عن ناظري، ناديت عليهما كالغريق المتعلق بقشة:

– مرحبا،عن إذنكما، هل…

لم أتمكن من إكمال كلماتي حتى وجدتهما تقاطعانني وتقولان لي بصوت واحد دون أن تلتفتا نحوي وقد كسرتا حاجز صمتهما :

– عد من حيث أتيت.

قبل أن تغيبا في ظلمة الزقاق الذي دخلتاه.

عدت أدراجي وقد بدأ الخوف يتسلل إلى أعماقي.أحسست بجسدي يؤلمني ويرتجف.

بعد مسافة قصيرة قطعتها بحذر،سمعت صوتا يناديني، إنه هو، وإلى جانبه تقف أمه .

– أرجوك عد ولا تتبعنا.

قالها الطفل الصغير ذو العامين .دهشت لهدوئه ودهشت أكثر أنه يتكلم ،وكأنها قد فهمت سر استغرابي:

– لم يعد يشعر بالألم الآن .

ابتسمت واستطردت:

– يخبرك ولدي بالحقيقة، حاول أن لا تتبعنا. رافقتك السلامة.

ثم أمسكت بيد طفلها وغاصا في العتمة.

ما يحدث لي من رعب يجعل تساؤلاتي تتواصل والرهبة تسكنني أكثر.  آه.. لا أريد في هذه اللحظة سوى العودة للبيت ،لم أعد أريد مواجهة المزيد.

فيما كنت مطرقا ،إذا  بحفيف أوراق جريدة يقلبها صاحبها. إستبشرت خيرا، هاهو صاحب الجريدة وإلى جانبه ذلك الشاب المنهمك في اتصال هاتفي لا ينقطع.ما عدت أحتمل أكثر. وهرعت نحوهما بفرح غامر.أردت أن أقص عليهما ما حدث ويحدث  لي ،فباغتني صاحب الجريدة  محذرا :

– سر إلى هناك ، في هذا الاتجاه!

نظرت إلى حيث أشار. ثمة  ضوء يسطع في آخر الشارع. إنطلقت نحوه دونما تأخير غير مكترث لشئ. إتسعت دائرة الضوء وازدادت سطوعا. السائق الذي كان يقف على مبعدة ،لوح لذات الاتجاه.

ركضت وركضت…

– إنطلق ، لا تتوقف.

قالاها الشخصان اللذان كانا يجلسان بجانبي في المقعد الخلفي للحافلة. بعدها كان هنالك شخص قريب جدا مني يتحدث و يكاد يلامس أذني:

– (الحمد لله عيناه ترمشان.)

كانت تلك والدتي.

أصوات أخرى مختلطة؛

( الحمد لله لقد أفاق).

– (سأذهب لأستدعي الطبيب)

هذا الصوت مألوفا لدي ،إنه صديقي الذي أردت حضور حفلته.

حاولت رفع رأسي أو التحرك قليلا فأحسست نفسي كالمقيد، وبآلام  لاتحتمل تسري في جسدي كله. شعرت بأحدهم يضع أصابعه على إحدى عيني محاولا فتحها برفق،عندئذ تمكنت من فتح كلتا عيني ببطئ  بدأ الضؤ يتسرب إليهما. أول من  رأيته كان شخصا يضع سماعة طبية، أظنه الطبيب ،ولكن لم؟! وأغمضت عيني.

بعد عدة أيام كنت قد بدأت أتماثل للشفاء،قيل لي أني كنت أهذي في غيبوبتي وأذكر أشخاصا أسعفوا معي في يوم  الحادث المروع الذي كنت فيه

الناجي الوحيد .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!