كتبت د. عائشة الجمل
صدرت حديثاً رواية (الحرب التي أحرقت تولستوي) للكاتبة زينب السعود عن دار (الآن ناشرون) في عمان, وهي رواية تتناول بشكل رئيسي حياة المراسل الصحفي, إلى جانب الغوص في نفسيات الشخصيات الأخرى التي ارتبطت به من زوجة وأبناء وأصدقاء وزملاء عمل. وتدور معظم أحداث الرواية في أوكرانيا التي تتعرض لهجمات روسية, مما يجعلها مغامرة روائية تستحق الاهتمام لمواكبتها لشأن عالمي ساخن.
ولم تقف الرواية عند وصف حياة المراسل الصحفي في جانبها المهني, بل تناولت بالتحليل والنقد جوانب عديدة إنسانية معقدة ومتشابكة. وقد تميزت الرواية بجديَّة في الطرح وعمق في المعالجة, دون غموض أو استعلاء في لغتها على القارئ.
إلا أن ما لفت نظري بشكل خاص، كمتخصصة في النقد المسرحي، بروز عناصر الدراما عموماً، والمونودراما بشكل خاص فيها، بما يستحق التوقف عندها وتحليلها ومقاربة النص الروائي بأدوات مسرحية في محاولة استكشاف بواعث المونودراما ودلالاتها, لأن هذا يحيلنا إلى رؤية فلسفية مغايرة، وقراءة مختلفة لأثر واقعنا المعاصر على الإنسان وعلى الفن على حدٍّ سواء.
والاسم (مونودراما) مركَّب من مقطعين (مونو) أي واحد و(دراما) التي تعني المفارقة أو التناقض، لكنها تُستخدم اصطلاحاً للدلالة على نوع أدبيّ يشتمل على المؤلَّفات المُعدَّة للتمثيل في السينما أو التلفاز أو على خشبة المسرح. وبهذا تكون المونودراما فنًّا من الفنون الدرامية يقوم على ممثل واحد يسرد الحدث.
وقد اعتنى بعض المسرحيين بالمونودراما ووجدوها أنسب الأشكال المسرحية للتعبير عن العبثية التي تقوم على عزلة الفرد، وعدم الإيمان بجدوى التواصل الاجتماعي. وهذا الاحتفاء بفن المونودراما من قبل كُتَّاب مسرحيين معروفين، فتح الباب لتقبُّل هذا النوع من الفن الذي أعيد بعثه من زمن الإغريق، والاشتغال عليه من قبل كُتَّاب ومخرجين وممثلين. ويتجلى الاهتمام بهذا الفن عالمياً وعربيًّا بتخصيص مهرجانات تلتقي فيها الفرق التي تقدمه.
والمونودراما أسلوب مسرحي قديم ومعروف, له أنصاره الذين يرونه فنًّا مستقلاً, ومعارضوه الذين يرونه عجزًا عن تقديم مسرح حقيقي يخاطب الجماهير ويعبر عن أحلامها وآلامها، وأنه مجرد مخرج مريح لمشاكل الإنتاج المسرحي. وبرأي فإن حديث الشخصية عن نفسها, وعن مشاعرها وآلامها وآرائها يكون في العادة أبلغ تأثيرًا في الجمهور, وهذا ما بدا واضحًا في مقاطع عديدة من الرواية جعلتنا فيها الكاتبة ندخل تفاصيل مشاعر وأفكار الشخصيات ونشاركها حركاتها وسكناتها من خلال كشف الشخصيات عن نفسها بنفسها أمامنا.
ويقال إن المونودراما تتسم عادة بالعزلة, عزلة الممثل وفرديته على خشبة المسرح, ولو سلمنا بذلك فيمكنني القول إنه في هذا العالم الذي صار يميل الناس فيه إلى العزلة, ويفضِّلون التواصل عن بُعد بحكم نمط الحياة المعاصر لاسيما بعد جائحة كورونا, ربما من الحكمة أن نسلط الضوء على الفرد وخصوصيته في عزلته, ونسمع صوته الخارج من قوقعته حتى لو لم يخرج هو منها، ونترك له حرية التعبير؛ فقد اعتاد الحديث مع نفسه أو مع أشخاص لا يعرفهم عبر العالم الافتراضي، وصار يقضي معظم وقته بين تطبيقات وألعاب خيالية، معزولاً عن واقعه الاجتماعي الحقيقي، وقلما يحظى بحوار فكري ناضج، أو تجربة وجدانية واقعية.
ولكن المونودراما في نظري بريئة من اتهامها بالعزلة بصورتها السلبية, لأنها مزيج من العزلة والمشاركة، حيث يكون المتحدث على الخشبة واحداً لكنه يتوجه بحديثه إلى جمهورٍ يتأثر بما يقول ويتفاعل معه بتعليق أو ضحك أو هتاف أو تصفيق. ويتجلى ذلك في رواية (الحرب التي أحرقت تولستوي) من خلال تخيل بعض الشخصيات لحوار مفترض مع الآخرين.
صحيح أن الألق الذي يمكن أن تفقده المونودراما من الغياب، والحديث مع الغائب الذي يعد من أهم المشكلات في مسرحيات المونودراما، يمكن أن يستعيده المشتغلون بمسرح المونودراما من خلال بعض الحلول، فغالباً ما نرى الممثل حين يدخل المحنة وحيدًا على المسرح يبحث لنفسه عمَّن ينقذه من هذه الورطة. فيوجِّه الحديث إلى شخص آخر متخيَّل يساعده على قتل غربته، فيكون هذا المتخيَّل هو النفس حين يوجه لها الحديث، أو الأشباح التي تحيط به وهي كثيرة، وفي بعض الأحوال يكون الحديث موجهاً إلى متخيل عبر المرآة أو عبر الهاتف. ونلمح في الرواية بعض تجلِّيات المونودراما عندما بنى بعض شخصياتها حوارات متخيلة مع آخرين يعجز عن البوح لهم بمشاعره وأفكاره وتمنياته, ويقول لهم في الواقع شيئًا لكنه يتمنى لو يستطيع البوح بغيره, كما في بعض مواقف رشا الطالبة التي كانت معجبة ببطل الرواية، وتعيش صراعًا بين إظهار ذلك الإعجاب السري وكتمانه من جهة، وبين قبول أو رفض اهتمام زميلها بها من جهة أخرى، ذلك الاهتمام الذي صورته الكاتبة في لمسة رومانسية جميلة دون إسفاف.
ومن جانب مونودرامي آخر نستطيع الربط بين حقيقة أن المونودراما يتحدث فيها شخص واحد فقط، وقد يكون هناك شخصيات أخرى على المسرح لكنها تبقى صامتة. وبين الرواية التي سكتت فيها شخصيات ثانوية بطريقة جعلتنا نتساءل عن شعورها أو رد فعلها أو موقفها مما يحدث، وننتظره باهتمام وقلق في السطور أو الصفحات التالية ونحاول التكهن به ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وكأننا ننظر إلى ممثل (كومبارس) ظهر على المسرح ونترقب ما يمكن أن يصدر منه، أو لا يصدر، كوالد رشا الذي لانعرف شيئًا عن علاقته بزميل ابنته، ونكاد نقترب من الفهم، لكن الكاتبة تركته… حاضراً .. ولكن بصمت.
لم تعتمد الكاتبة في الرواية على شخصية واحدة، لكنها قدمت نموذجاً للمونودراما من خلال اكتمال البوح الذي تقدمه كل شخصية عندما ينتقل المشهد إليها وكأنها مجموعة (مونودرامات) متصلة ومتشابكة، ومن الأمثلة على ذلك حوارات زوجة بطل الرواية المراسل الصحفي معه، والتي نشعر فيها بأن هناك صوتاً واحداً يتحدث ويعبِّر بعمق عن مشاعره وأفكاره، بينما يظل الثاني مجرد صدى وظلٍّ للآخر، فنقرأ ما يقول بعيني الطرف الأقوى طرف الزوجة, بينما يظل الثاني/ الزوج الأضعف عاجزًا عن الإقناع وكأنه غائب عن الحضور. وكذلك عند سرد الحوار الذي يدور بين الزوجة و جارتها وهي منزعجة منها، يقع الحوار على مسامعنا وكأن الزوجة هي من ترويه لنا، إذ تؤدي سيطرتها على الحوار إلى أن نرى المشهد من ناحيتها ونتعاطف معها وننزعج من الجارة، وكأن الأخيرة غائبة صامتة فعلاً.
ومن الملامح غير المباشرة للفردية في مونودراما المسرح أن الشخصية عندما تتحدث عن الآخرين فإنها قد تنحاز لهم ضد الذات في مشهد ندم أو اعتذار، أو وصف لتضحيتها من أجلهم أو عطائها لهم، ولكن لماذا تتحدث عنه للآخرين؟ هي خدمة تقدمها لنفسها، خدمة التطهير والنجاة من الشعور بالذنب؛ فالمرء بعد الاعتذار أسعد منه قبله؛ ومن يتحدث عن عطائه للآخرين يهدي نفسه مكافأة الشعور بالفخر والرضا عن الذات. ومن الملامح غير المباشرة للفردية في الرواية الاهتمام فوق الطبيعي من أحد الطلبة بسلامة زملائه وسعيه لإنقاذهم ونقلهم إلى الحدود بأمان، وفي حين يشير هذا الأمر لأول وهلة إلى ملمح جماعي وهو التعاون والتكافل والتضامن الإنساني، إلا أنه قد يعدُّ في جوهره عزف منفرد على أوتار الذات. فوفقاً لبعض دراسات علم النفس يكون دفاع المرء عن غيره من زملائه المهددين بالخطر دفاعًا عن نفسه وحرصًا على حياته، كما في دفاع الجندي عن زملائه في الحرب، فهو بشكل ما دفاع عن نفسه، لأن موت زملائه يعني عدم وجود من يدافع عنه، يعني استفراد العدو به، يعني تحقق الهزيمة ومعها موته هو أو وقوعه في الأسر.
ومن زاوية أخرى تميزت الرواية بسمات درامية عديدة من حيث تشابك الأحداث، وسرعة إيقاعها، وانتقالات السرد في لقطات سينمائية متنوعة في المكان بين عمان والكويت وكرواتيا، وبين البيت والفندق والمدرسة والسكن الجامعي والمطعم, وفي انتقالات زمانية متسارعة تشيع الحيوية في النص بين الماضي بمحطاته المختلفة, والحاضر والرؤى المستقبلية التي يلتقطها القارئ من بين السطور. كما تجلت عناصر الدراما في آليات السرد المتنوعة وتصوير الانفعالات النفسية بصورة احترافية لتظهر جليَّة في ملامح الوجه وحركات الجسد بشكل يكاد يكون مرئياً حقاً للقارئ.
كما تجلَّت الدراما في استمرارية وجلاء وتصاعد الصراع بنوعيه الداخلي والخارجي منذ البداية وحتى النهاية، بصورة تشد القارئ وتحبس أنفاسه بحثاً عن مخرج محتمل لكل عقدة درامية جديدة, وتتركه حائراً قلقاً بشأن مصائر الشخصيات، محاولاً المشاركة بفكره وخبراته لإيجاد مخرج ممكن لكل أزمة.
وينبع تفاعله هذا من العناصر ( الميلودرامية) التي تعمَّدت إظهار العواطف والمخاوف بشكل كبير، في بعض أحداث الرواية وحواراتها مع الذات، بما ينتزع تعاطف القارئ مع بعض الشخصيات وتمنِّياته لها بنهاية سعيدة، على الرغم من التناقضات التي تعيشها واللامنطقية أو اللاواقعية التي تحيط بها وتضعها أمام تحديات داخلية أو خارجية تشكل معادلاً موضوعياً للتهديد التقليدي في الميلودراما الذي يتمثل في الشخص الوغد، أو المغري أو الشرير.
وقد قدمت الرواية لعقل القارئ وجبة غنية من المعارف والثقافة العامة بوصفها للأماكن بأسمائها ومحتوياتها وطابعها العام وتفاصيلها الدقيقة, ووصف الشخصيات بهيئاتها الداخلية والخارجية دون إسراف أو ابتذال , كما قدمت لخياله مسرحاً واسعاً ليجول فيه بحرية كبيرة بين محطات مكتنزة بالكثير من الدهشة, وكأن هناك كاميرا تنقل لبصره وسمعه بدقة وأمانة كل ما يدور في رقعة أرض روائية بعيدة، بما يشي باجتهاد الكاتبة في البحث والتقصي الطويل والدقيق.
ولكن ما علاقة كل عناصر الدراما تلك بالمونودراما؟ لقد استطاعت الكاتبة بذلك إقناعنا بمرافقتها عبر الرواية إلى أماكن لم تذهب هي إليها ولكنها بدت وكأنها زارتها فعلاً.. وأطعمة لم تذقها لكنها جعلتنا نتوهم أنها فعلت، ولغة أجنبية لم تتعلمها، لكننا أوشكنا أن نصدق أنها تتحدث بها حقًا.. لقد جعلتنا نعيش تلك التجارب عبر قناة واحدة.. فردية .. صنعتها لنا باعتلائها خشبة المسرح في سرد غنيٍّ بتجليات المونودراما.