ظلال لا يرسمها الضوء/بقلم:كمال محمود علي اليماني

شرفتني القاصة صوفيا الهدّار بأن أهدتني نسخة من مجموعتها الثانية ( ظلال لا يرسمها الضوء) ، وهي مجموعة حوت 24 قصة قصيرة ، وست قصص قصيرة جدا ، وهي من إصدارات هذا العام ، وجاءت في 93 صفحة من المقاس المتوسط.
أهدت القاصة مجموعتها إلى:
أمي

المرأة …

الاستثنائية

والملاحظ أنها وضعت بعد كلمة المرأة ما يعرف بنقاط الحذف ، وهي ثلاث نقاط تحمل إشارة إلى أوصاف كثيرة تتمتع بها هذه المرأة التي هي أمها.

أول ما يشدك إلى المجموعة عنوانها ، فهو عنوان مراوغ لا يضع دلالته بين يديك إلا بعد أن ترحل خلال متن المجموعة ؛ لتدرك من خلال المتن ماهية تلك الظلال . وهي ظلال لأناس في المجتمع ، يعيشون بين ظهرانينا ، غير أن قسوة المجتمع حرمتهم العيش الكريم تحت سماء أوطانهم ينعمون بضياءات الشمس وبهجة النور . فالظلال هنا ترميز ينضح بالجمالية ، والعنوان مكون من ثلاث كلمات هي ظلال منكّرة لتدل على كثرتها وهي مبتدأ ، وخبرها جملة فعلية منفية لتتأكد سلبية المجتمع إزاء شخوص المجموعة.
وبالرجوع إلى الحقل الدلالي لعناوين قصص المجموعة ، نجد عناوين كثيرة حملت في دلالتها معانٍ سلبية تشير إلى الجو العام الذي تعيّشك فيه لفظة الظلال ، فنجد مثلا: ظل ، وسم، السلّم والثعبان ، عدو جديد ، ظمأ ، مفخخ بالاحتمالات ، شوائب روح ، تهمة ، أقنعة ، بورصة الموت … وهكذا.
خط السرد بالمجمل سار مستقيما دون استرجاعات أو استباقات أو وقفات حوارية تبطّىء حركة السرد، بل على العكس من ذلك ، فلقد عمدت القاصة إلى تسريع السرد باستخدام جمل ذات أفعال متتالية ، مثل قولها في قصة ( السلم والثعبان): ( وهنا رأى شيخه وقد استحال ثعباناً بعمامة ، ارتجف ، لكن الثعبان عصره ، حطّم عظامه، ثم لدغه لدغته المسمومة )).
أو قولها في قصة ( محطات) : (( دماء تنزف ، أجهزة تنذر، همهمات قلقة ، حركة متوترة ، خطوات تسرع ، أوامر هنا وتعليمات هناك)).
وفي ذات القصة : (( تهدأ الأجهزة ، تصدر صوتا رتيبا ، ترسم موجات منتظمة على الشاشة.
يعود الهدوء وتعود الأيادي ذات القفازات الملطخة… )) .
أو قولها في قصة ( على الحافة) : (( ترتعد في مرقدها ، تختنق الصرخات في جوفها ، وتتمزق الحروف في حلقها ؛ فتخرج كالخيوط البالية : من أنت؟ )) .
والملاحظ أن القاصة صوفيا الهدار قد عمدت إلى استخدام الفعل المضارع في 11 قصة من قصص مجموعتها ، ومعلوم أن الفعل المضارع يشير إلى حضور اللحظة الآنية التي تتأتى من خلال تكثيف الشعور بالزمن الحالي ، كما أنه يحمل شحنة حركية وحيوية.
المجموعة تناولت مواضيع حياتية شتى لاتخطئها عين القارىء ، وهي تضم حوادث ومواقف يعيشها أفراد المجتمع هنا وهناك ، غير أن جمالية المجموعة وفنيتها تكمن في تصوير هذا الواقع بعيدا عن النقل التصويري المباشر ، وعن التقريرية والوعظية ، بل إن القاصة قد لجأت إلى تقنيات عدة ، ومنها الترميز في تناول تلك الأحداث والمواقف مما يمنح قصصها شفافية بديعة ، وبعدا جمالياً وفنيا متميزاً ، كما في قصة ( السلم والثعبان)التي أبدعت القاصة في تناول موضوعها المتمثل في هتك براءة طفل ؛ هو واحد من أطفال عدة حدث لهم ماحدث له ، ولقد سردت وقائع ذلك الهتك في خطوات متتالية ، وفي أزمان مختلفة ، وأماكن متعددة ، ومن قِبل أناس متعددين في إشارة واضحة إلى إدانة المجتمع بأكمله من أوله إلى آخره. وكذلك في قصة ( تهمة ) ، وغيرها من القصص ، ومادمنا قد وصلنا إلى قصى ( تهمة ) فيجدر بنا إذن الحديث عن تقنية بديعة استخدمتها القاصة صوفيا الهدار ، وهي تقنية أنسنة أبطال قصصها ؛ إذ تصنع أبطالاً لقصصها من حيوانات، كما في قصة ( شاهد) ، إذ بطلتها قطة ، وتبرز المرآة بطلة في قصة ( مرآة الأسئلة ) ، وتكون حاوية القمامة بطلة في قصة ( تهمة ) ، وهي القصة التي تناولت حادثة موت طفلة صغيرة كانت تبحث عن الطعام في حاوية القمامة ، غير أن الحاوية انقلبت عليها ، وجثت فوق صدرها فأودت بها ، وهي حادثة كان لها وقعها يوم حدوثها ، وهزت ضمير الكاتبة فتناولتها لتكشف الظلم الواقع على أناس في المجتمع يتضورون جوعا ، في حين أن الفساد يتخم أناساً آخرين ، ولعل هذه القصة إلى جانب قصة ( بين يدي نص) التي تتناول قصة واقعية حدثت في إحدى مدن الريف ، حيث قتل رجل طفله بفصل رأسه عن جسده في خلاف مع زوجته أم الطفل ، ثم لايكون عقابه إزهاق روحه ؛ تشيران إلى مدى تأثر القاصة بما يدور في المجتمع ، وما يتعرض له أفراده من حوادث يهتز لها ضميرها فتسكبها أحاسيس ومشاعر موجعة بجمالية وصدق فني يجبرك على أن تقف أمامها ، وتستنكر ما حدث ، في إدانة صريحة للحال الذي وصلنا إليه كمجتمع.
والجميل أن القاصة صوفيا الهدار تلجأ في بعض قصصها إلى الظهور والبروز من خلال القص؛ لتضع رؤيتها في الحوادث والمواقف ، لا كساردة بل كمؤلفة للنص كما في قصة ( بين يدي نص ) ، وقصة ( مفخخ بالاحتمالات ، وكذا قصة ( على الحافة ) .
تعددت شخصيات المجموعة بين رجل، وامرأة، وطفل، وزوج وزوجة ، ونص ، وقطة ، ومرآة ، وحاوية قمامة ، وإعصار وغيرها ، مما يشير إلى تعدد المواضيع المطروقة ، والتي حملت كشفاً لكثير من عورات المجتمع ومظالمه التي تقع على أبطال القصص من هتك عرض ، وجوع ، وعنف زوج ، وقسوة مجتمع ، وموت الشباب في جبهات القتال تحت إلحاح الحاجة والعوز وإغراء الراتب العملة الصعبة ، وتتجلى إدانة القاصة لهذا الأمر بالذات من خلال قولها : (( يطالع صورة ابنه الذي سقط في الجبهة قبل ستة أشهر )) ، فاستخدامها للفعل سقط دون الفعل استشهد يحمل دلالة أكيدة على إدانتها لذهابه للمعركة تحت ضغط الحاجة .
وتلجأ القاصة في بعض قصصها إلى تقنية المناجاة ، حيث يتحدث السارد إلى شخص حاضر أو غائب دون أن يجري حواراً معه ، ويفضي له بمكنونات صدره .
كما في قصة ( ظل) ، وقصة ( مرآة الأسئلة ) ، وكذا قصة ( شوائب روح ) .
أما لغة المجموعة ، فعلى الرغم من أنها تتحدث عن الواقع المعيش ، إلا أن هذا لم يحرم المجموعة من اللغة الشعرية والصور الفنية الجميلة في كثير من الأحيان.
ولعل القارىء الحصيف لن يفوته الانتباه إلى خواتيم كثير من القصص ، حيث عمدت القاصة إلى خواتيم مدهشة ، وغير متوقعة كما في قصة ( الظل) ، أو قصة ( وسم) ، وكانت بعض هذه الخواتيم ساخر كما في قصة ( بورصة الموت ) ، وبعضها موجع كما في قصة ( السلم والثعبان).
في الصفحتين الأخيرتين من المجموعة طالعتنا ست قصص قصيرة جدا ، تحت عنوان حسابات غزاوية ، وهي شكل من أشكال التجريب في الكتابة القصصية لدى القاصة صوفيا الهدار ، تميزت بالإيجاز والتكثيف ، تقول في أخراها :
(( عندما وصل للعدد عشرة في لعبة الغميضة ؛ كانت عائلته قد اختفت تماما.)) ، في أقل من سطرين استطاعت أن تصور مأساة طفل غزاوي تحاصره الحرب من كل مكان.
استمعت كثيرا بقراءة قصص المجموعة ، ورأيت كم تقدمت القاصة صوفيا الهدار في فنية الكتابة القصصية! ، وكيف أنها تسير بخطى دؤوبة واثقة تؤكد موهبتها القصصية ، وترسم لها طريقاً مضيئاً ، ومستقبلاً وضيئاً بظلال حقيقية متأتية من سطوع شمس موهبتها.

****

سلسلة قرأت لكم

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!