كان متوقعا أن تخرج القصة القصيرة من القالب الكلاسيكي. وهي كأيّ بناء فنّي تخضع في صيرورتها لقوانين التطور بحيث صارت لها خصوصيتها وهويّتها في كل بلد وهي بالتأكيد تعبر عن واقع كل مجتمع. حتى أننا صرنا نلاحظ فرقا كبيرا بين القصة القصيرة في تونس و مثيلاتها في بقية الدول .
فالقصة القصيرة في تونس أصبحت قادرة على التعبير عن حياتنا بما فيها من تعقيدات على المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية والبيئية. وهذا ما لامسته في كل القصص الصادرة حديثا . كما لامست فرقا بيّنا بين ما تكتبه المرأة و ما يكتبه الرجل. و لعل ما شدني أكثر لكتابات المرأة تلك الواقعية السحرية أو العجائبية وهذه الأحداث الغير واقعية في إطار واقعي بهدف تعميق فهم الواقع.
والقاصة التونسية ( هناء حسن ) واحدة من الكاتبات التي تميزت بالقصص العجيبة و النهايات الغريبة في مجموعتها القصصية الجديدة ( في مقهى عروس البحر ) الصادرة عن دار رسلان للطباعة و النشر.
صدر الكتاب في أكثر من 160 صفحة من الحجم المتوسط ويضم ثمانية قصص قصيرة تكاد تشكل نصا واحدا أو ربما رواية بأكملها لأنها تتسع لتتناول مجتمعا كاملاً ، أو شريحة واسعة من المجتمع بحيث تعددت فيها الشخوص والأماكن وغرقت في الجزئيات و التفاصيل .. وقد قدّم لها الدكتور ( منصف الوهايبي ) الذي كتب في تقديمه : (… هناء حسن كاتبة قديرة متمكنة من أدوات فنها لها براعة أدبية في الصياغة و في العناية بالتفاصيل و بالجزئيات التي لا تجيء مجانا و انما توظف لغاية تخدم فن القص بطريقة لا يتقنها الا كبار الكتاب الذين لهم باع في هذا المجال.)
( في مقهى عروس البحر ) هو عنوان المجموعة و عنوان القصة الأولى شأنها شأن ( فايسبوكي حزين ) وبقية القصص تتكثف فيها وتتراكم قدراتُ كاتبة متمرسة في كتابة القصة القصيرة وهي تلقى الضوء على رؤيتها لجانب من الحياة يقوم على إدراك العلاقات بين الأشياء المتباعدة . رؤية لا تخلو من مفاجأة تبعث الإحساس بالإثارة .
( فرح) المحامية تلتقي صدفة مع ( نبيل ) عالم الإجتماع في (مقهى عروس البحر) و تولد علاقة عجيبة بين الإثنين تنتهي عكس ما يتصوره القارئ منذ البداية .
( فرح) كانت بصدد إعداد ملف حول موضوع وجب أن يشتمل على شهادة رجل لا علاقة لها به و لا تعرفه من قبل. (… قد يتطلب مني الأمر أن أكون جريئة و أنا ما كنت هكذا قط و لكن وجب أن أفعل و قد أهجم على أول قادم لهذا المقهى…)
و ( نبيل ) بصدد انجاز بحث في مجال اختصاصه يستدعي انتقاء نماذج من مختلف الشرائح الإجتماعية دون سابق معرفة وقد يتعرض الى العديد من المواقف المحرجة .
تعددت المواعيد و اللقاءات بين الطرفين في نفس المكان و كان كل واحد يسعى الى انجاز ما عليه لتنتهي القصة بجملة قالها نبيل ضاحكا (… كنت أعتقد أني أنا من اصطادك فإذا بك أنت من اصطادني يا هادئة …)
وفي قصة ( فايسبوكي حزين ) (سامي) شاب أنهى كل مراحل دراسته بتفوق و طرق كل أبواب العمل حتى أصابه اليأس فقبع في البيت و أصبحت النت وسيلته الوحيدة في تمضية الوقت بالليل و النهار . و عبر الفايسبوك تعلق قلبه بواحدة من هذا العالم الإفتراضي و أغرم بها حد الجنون و أطلق عليها لقب أجمل النساء (قمر ) ثم ألح في طلب مقابلتها حتى قبلت الإقتراح . في اليوم الموعود غابت (قمر ) و حضرت (سمر ) تتأبط ذراعي طفلين رائعين و قالت له بأنها ( سمر) توأم ( قمر) وأنه حدث في آخر لحظة ما منع أختها عن الحضور و وعدته بلقاء آخر في قادم الأيام .
إلى حد الآن كل شيء عادي في هذه القصة العجيبة و لكن النهاية جاءت أغرب من الخيال ( سامي ) في غياب (قمره) التي لم يرها فقد كل شيء و تملك به اليأس فاتجه نحو الجبل و غاب عن الآنظار و شاعت حكاية في المدينة : ( …صيادوا النواحي طالما شاهدوا رجلا ذئبا ضمن قطيع الذئاب الجبلية …)
أما في قصة ( نادر و نهى ) التقيا في مصعد بناية شاهقة و كانت (نهى) في منتهى الرقة بحيث ألقى التحية فأجابت بأحسن منها و توقف المصعد بالطابق الثالث و خرج الإثنان و اتجها نحو نفس الباب . هو مدير المؤسسة و هي طالبة للشغل كمحاسبة مختصة في هذه الإدارة .
( نادر) أعجب بها و تمنى أن تحظى بالقبول حتى يتسنى له التقرب منها أكثر و لم لا الإرتباط بها و تكون فتاة أحلامه . وبالفعل تم قبولها و شرعت في العمل غير مدركة لما كان يعانيه نادر من ألم الوجد المفاجئ الذي استبد به و أربك أيامه . وفي نفس اللحظة التي قرر فيها بأن يبوح لها بحبه فوجئ بقولها بأنها مضطرة للمغادرة من المؤسسة لأنها ستذهب لليابان لإتمام دراستها .
إن قدرة القاصة على التخييل والحفر في أعماق الحكايات والأحداث، هي التي تستقدم العجائبي. و قد عملت (هناء حسن ) على تنويع شخوصها وتحويل افعالها الى حالات متوهجة . تدهش المتلقي و تأخذه إلى عالم سحري عجيب .
تقريبا كل قصص هناء حسن ارتبطت بالكثافة التخييلية و قد نتجت عنها انزياحات مغايرة زمانية ومكانية. وخروج عن الواقعي والمألوف إلى واقعية سحرية و عجائبية لها لغة خاصة مؤثرة في العملية السردية. و قد يصعب على القارئ التفرقة بين الواقع والخيال.
بقلم عمر دغرير / تونس