قراءة في مجموعة “درس البيانو” لحسن إغلان
عمر العسري
يمثل متن الكاتب حسن إغلان كتابة مفتوحة بامتياز، لأنه متن متعدد النصوص والأبنية من جهة، ولأنه ما يزال يتحقق على نحو ممتد ومتداخل بين القصة القصيرة والرواية والبحث الفلسفي والمقالة الأدبية. وما دمنا بصدد فرضية الانفتاح والتداخل، فإن مختلف نصوصه القصصية والروائية، وحتى دراساته البحثية تتميز باشتغال على مكون الجسد كسمة بنائية خاصة، وهذا ما يدل على صيرورة النص عنده.
كما نرى إلى الجسد عنده ضمن أوضاع نصية لها القصة بناءً، ولها الكتابة ممكنا سرديا، إذ يختار هذا الممكن أكثر من تجل في مختبره القصصي المفتوح على المجهول. من هنا يمكن القول إن الجسد في كتابة حسن إغلان يتشكل أثناء البناء من خلال عنصر قوي المتمثل في الانفتاح الفكري. ومع هذا المدخل نرى اشتغال دال الجسد وهو ينشئ دلالة النص بلانهائية الكتابة نفسها.
تتحدد الكتابة، في مشروع حسن إغلان، بوصفها موقعا ينطوي على تصور متشعب للجسد، وبذلك فإن بنية الكتابة في بناء النص القصصي عنده هي مسوغة بفرضيات فكرية، ونتائج بحثية التي توج بها إنتاجه السردي.
مجموعة “درس البيانو” مرتبطة بالكتابة في مسار يحتمي بالجسد كمكون مركزي، يغري على اقتفاء وضعياته ووشائجه بالفعل الكتابي، على أن بناء مفهوم الجسد، في هذه المجموعة، لا يتم وفق تحديد محدد، وإنما طبيعة السياق السردي القصصي يتنكر للرؤية الكلاسية للجسد في الكتابة، ويسعى من خلال رؤية لا تبلغنا المنتهى والمآل.
الجسد وبناء الكتابة
تتكون مجموعة “درس البيانو”من قسمين: دفتر الغيمة، ويضم خمس قصص؛ درس البيانو، المرسم، درس المرسم، عورة الصمت، غابة الفيلسوف. أما القسم الثاني الموسوم بحدائق فيتا، فيضم ست قصص؛ وجهان لحكاية واحدة، غيمة Vita، كوابيس باردة، حدائق الحمراء، حدائق الورد، يوم جديد.
بهذا التقسيم تأخذ المجموعة صفتها من وعيها الكتابي، وهو وعي لا ينفصل عن التقنيات الكتابية السردية ولا يعزلها عن مجالها الحكائي الصرف، وإنما يشدد على انتظام في التقسيم والوعي تماما بشروط الاقتصاد الأدائي الدلالي للعنوان.
يستدعي الأمر، إذن، تبين البناء الكتابي للمجموعة، وهو ما تبدى من خلال الاقتصاد في الخطاب وبناء تصور موحد كتبت به المجموعة ككل، إذ لا تتجاوز قصص المجموعة أربع إلى سبع صفحات على الأكثر.
فمجموعة “درس البيانو” تضيء وضعية الجسد بالكتابة، وتُرسي تصورا عن الكتابة في مواجهة ألقها، بعيدة عن اليقين، وعلى نحو يضمن للكتابة الاحتفاء بهذا المكون المسنود بمقتبسات فلسفية صرفة.
أثر هذه المواجهة الخفية استنبته حسن إغلان في مجموعته “كتاب الألسنة”، ونعتر عليه من خلال اقتراب السرد القصصي من مجهول الكتابة. فقد رصد تعدد الألسنة في مسالك مختلفة، وفي وضعيات تتهيأ للنقد وللبحث. فقيمة هذه المواجهة تستدعي تحذيرا يرسمه الفعل القرائي وهو يتهيأ للتحرر من سلطة القراءة، وما وظيفة التضارع المتحقق على مستوى الجسد والكتابة قد يرسم وجهة القراءة ذاتها، وانفتاحها على سفر غير مأمون العواقب.
فالمنجز القصصي لحسن إغلان يستضيف القارئ في الجسد، لذلك على القارئ أن يتخلص من هاجس البحث عن المعنى في عمل يقوم على تعالق الدلالة وهدم المعنى وعلى علاقة الداخل بالخارج. وتعني الكتابة، من خلال هذا الاشتغال، الممارسة النصية التي ارتضاها الكاتب لمنجزه، هذه الممارسة تضمن لذاتها الاستمرار من حيث هي بناء ومعرفة تتأسسان على القطيعة وإعادة النظر في صيغ الخطاب على حد تعبير فيليب سولرس.
الكتابة في السياق القصصي عند حسن إغلان ليست وسيلة، ولا غاية، إنها منطق فكر، وعلاقة استدعائية للطروحات الفكرية التي تقصي الحدث القصصي كحقائق ووقائع ممتدة، وإنما تعيد تشكيله كجسد كتابي اختزالي، وككتابة عن الجسد كبعد تصوري.
ولنا، في البدء، أن نقرأ عناوين المجموعة في علاقتها ليس باستراتيجية الكتابة، وأن نتأولها بوصفها اشتغال تنكري على مساحة السرد القصير. وهي تنبئ عن حصيلة معرفية، وغوص في جدلية فلسفية لا تروم اقتراح رؤية وإنما توظيف مقولات ترهن ذاتها بثنائية الكتابة والجسد. وهي جلها عناوين منكرة ولكن تعرف تعريفا مجهولا غير ذي قصد أو غاية. وأثر الفعل الكتابي يحمي التنكير وينعشه باليقظة المعرفية التي أشرت عليها بعض المقاطع النصية.
يقول السارد على لسان تلميذة وهي تخاطب زميلها في قصة درس البيانو:
«الرقص خشبة الله في الأرض. لم يستوعب التلميذ البدوي كلام زميلته، اعتبر كلامها في الأول مسا شيطانيا….»
يحتفظ المقطع بمفارقة مفادها أن الكلام الموجه من الفتاة إلى زميلها ليس غايته سردية، فالحوار ينأى عن الأجواء التعليمية التربوية، وإنما يتسنى تأويل الاقتضاب المتحقق بوصفه إدماجا للمعرفة والفكر في بناء النص. وإذا ما واصلنا تأمل هذا المقطع، فإننا سنعضد ما تأولناه سابقا في صوغ القاص له. فمن خلال هذا المقطع يتهيأ الفعل المعرفي وسما للكتابة ولوضعية الذات الكاتبة في تمرير المعارف وفتح أفق نصه السردي على معارف قد تجد لذاتها منظورا حياتيا. بل لربما كانت الغاية من هذا الاستدعاء تأمل مصدر المعرفة في الكتابة القصصية، ولعل كفايتها الإجرائية تبدو بعيدة جدا عن التحقق، فلم لا تتبدى على مستوى الحوار بين الشخصيات.
إن مجال الكتابة والفكر يفرضان على السياق السردي إدراك كنه الاتصال بالنشاط الفكري من جانب قوته الذهنية التي يفرضها الكاتب على مسار السرد، وإذا كان هذا الإدراك على اتصال كثيف بالعالم فإن الحواس تفعل فيه على نحو أداء أسلوبي أقرب إلى الشذرة الشعرية أو الحكمية. يقول السارد في قصة مرسم:
«الفنان يصعد الفنان ينزل…الصعود والنزول جسد وجد فيه الفنان الجدل الدياليكتيكي كما قرأه عند ماركس وإنجلز…صورة الشاب اليافع تحاصره في مرسمه العلوي. يحاول رسمه عبثا كي يعطي للقبح جمالا..لكن الصباغة لا تقوى على سد الثغرات والندوب، الصباغة تكذب والصباغة تخون والفنان يصعد وينزل كي يدفن الوجوه التي رسمها في البحر»
تنهض الكتابة عند حسن إغلان، في هذا المستوى من البناء النصي، على جدلية معرفية مع ذات الكاتب قبل أن تشتغل على قرين ملازم لها هو السرد في صوره المتحققة ووضعياته التي أفرد لها المعمار النصي القصصي حظوة خاصة وضيافة مسنودة بمكون الجسد في امتداده الرغبوي.
الجسد واشتعال الرغبة
يحضر الجسد في مجموعة “درس البيانو” وهو محتشد بطاقة الكتابة وبالتفاصيل للوصول إلى نوع من أنواع التوازن من خلال هذا الأداء السردي. فتعبير القاص عن اهتمامه بالجسد هو حماية للكتابة واللذات في آن، وليس الجسد في كتابات حسن إغلان القصصية أوحتى في مجال الاهتمام البحثي عنده موضوعا خارجيا وإنما هو تجربة داخلية لا تستقيم مقاربتها بصرامة العلم فحسب، بل إن العلم أحيانا مهدد بتحويل مرونته إلى صلابة.
ويروم استدعاء هذه الإشارة المكثفة بما تنطوي عليه من تشعب دلالي فتح كوة قرائية في نصوص المجموعة، بغية استدراج هذا العمل السردي لما يسمح ببناء تأويل له. فما تعضده هذه الإشارة هو أن القصة القصيرة وشيجة بالجسد في بعده الإيروسي تسوغ له اتخاذه موضوعا للبناء وتمكنه من الاقتراب من هذا الموضوع، خلافا لخطابات أخرى لا تقوم إلا بحجب الموضوع وهي تتجرأ على الحديث عنه من الخارج.
ليست هذه الوشيجة بالجسد، التي تميز القصة عن خطابات أخرى، هي ما يعنينا في مصاحبة “درس البيانو”، وإنما طريقة بناء نصوص هذا العمل للجسد في تجليه الرغبوي، على نحو يسمح بمساءلة توجه القصة عند حسن إغلان نحو موضوعها بما ينسجم مع هذا الموضوع من جهة، ومع ما يميز الخطاب القصصي عنده من جهة أخرى.
يقول السارد في قصة عورة الصمت:
«…أزال ملابسه كلية، تملته حنان عضوا عضوا، بدأت هي الأخرى تزيل ملابسها، بينما تركت نهديها محتجبين بالصدريتين البنفسجيتين، أدارت وجهها في الاتجاه المعاكس. أشارت له بتحريرهما، انخرطا فيكل شيء حتى تصببا عرقا»
ينطوي هذا المقطع على عناصر يسري أثرها في بناء دلالة شهوانية إيروسية في مجموع القصة، كما يسري أثرها في بنا الخطاب السردي الواصف، بل إن التصريح المباشر الذي اضطلعت به القصة أداء وأسلوبا يقوي الحضور الجسدي ويضيء القصة باستقامة يلمح إليها الجانب الوظيفي للتفاصيل المذكورة في القصة (شقة النزوات، الهاربين من زيجاتهم، تفوح جنسا، السرير…). فهذه العناصر هي ما يعطي للجسد في بعده الشهواني الإيروسي حضورا دلاليا رسخه تكرار مكونات الجسد وأيضا الحركة التي تتقدم الصمت عبر المكان. يصرح القاص بالصمت مكتفيا به كعتبة وهوية علامية للقصة.
تكتفي القصة بوصف أجواء صامتة مسنودة بالرغبة والمتعة، وهي على حد تعبير فرانسيسكو ألبيروني Francesco Alberoni« الأكثر سهولة ومنطقية وعقلانية لأنها تختصر لنا لحظة زمنية يركز فيها الكائن البشري عن الذي يمنحه السرور». فالقصة تعمق هذا التصور الذي نجد فيه الكثير من المبادئ الإنسانية غير المفكر فيها بالشكل اللازم. والقصة تقدم أيضا تحليلا اجتماعيا محضا للعلاقة بين الشخصيتين موسى وحنان، وتحلل الرغبة الإنسانية المختلفة بين الجنسين، وتخضعهما لسياق اجتماعي مهني محض.
ليست صورة الخطاب غريبة عن مفهوم الرغبة. فقد أسعفت هذه الأخيرة الكاتب في رصد العلاقة بين جسد الرجل وجسد المرأة من خلال قصة عورة الصمت، ولِما تتيحه من تداخل وتلاشي أحدهما في الآخر. واللافت أن هذه الصورة تكتسي وظيفة بنائية ودلالية في المجموعة. فالقاص يفصل الجسد عما يشده إلى رغبته ويصله بالمؤسسة الاجتماعية. وبهذا الفصل والوصل يهيئ القاص الأجواء لتحقق هذه الرغبة ولو مؤقتا. لننصت للقصة الأولى درس البيانو:
«…المدرسة تجمع أدواتها ومحفظتها وحاسوبها النقال لتخرج، سألتها دمعة عن رقصتها. قالت المدرسة: هي رقصة جميلة، توقظ النار في العيون. لم تفهم دمعة ماتعنيه المدرسة، لكنها قالت: أريد أن أرقص عارية كما الملائكة تماما. استغربت المدرسة لذلك، ردت عليها: يمكنك ذلك حين تكونين لوحدك، أما هنا فالأمر مختلف، وواقع المدرسة ذكوري حتى السأم، أو بالأحرى حتى الغثيان. شدت دمعة أصابعها دون أن تنبس ببنت شفة. خرجت المدرسة ورغبة دمعة تلف دواخلها كأنها تريد ذلك»
تنطوي هذه القصة على عناصر يسري أثرها في بناء دلالة الرغبة الجسدية، كما يسري أثرها في بناء الخطاب القصصي. الرقص عاريا يقوي هذا الملمح وتضيئه القصة باستقامة يلمح إليها رغبة الطفلة دمعة. فهذه الاستقامة هي ما يعطي للرقص العاري والتموج الجسدي حضورا دلاليا رسخه لا تكرار لفظ الجسد فحسب، وإنما الرغبة المجهضة التي أعقبها الصمت عبر الخروج.
فظلت الرغبة تشتغل بين صمت الفتاة وبين المؤسسة. إنها جسدية تقترن بالنزول إلى الدواخل. ولنا أن ننتبه إلى أن الجسد، الذي به يتحقق الموج في الرقص، تحول في نهايته إلى رغبة. تلك خصيصة أخرى مرتبطة باشتغالها على محو الفروق وخلق الوحدة. ولم تكن هذه الرغبة مكونة، من جسد واحد فحسب، بل التبست بهذا الجسد نفسه، جسد الفتاة دمعة. ولنا أن ننتبه أنه جسد امرأة في نهاية الأمر.
فالقصة تُغلب الطرف الأنثوي في الحدث، كاشفة عن التجربة الداخلية فيها. والرغبة سفر داخلي في الجسد يضيئه تكرار كلمات محددة(الفراغ، اللاممكن، الغرابة، أزالت، شغف…). ولننتبه ثانية إلى أن حركة المضي تتم داخل الجسد. إنه سفر في ألم عميق وخصيب في آن، على نحو ما تبدى من وصل السارد بين الرقص وإزالة الملابس. السفر الداخلي يتحقق دوما بالألم وفيه، ومنه يكون خصيبا. فثمة تنصيص على رغبة التعري من خلال رغبة دمعة المجهضة. فالرغبة لم تكن إلا جسدية، إلا أنها تقود إلى المحظور.
ولكن، لما غدا جسد دمعة موجة واختفى جسد الرجل في القصة إلا من زاوية المراقبة والاستمتاع بالنظر، بدا السرد يقيم تمييزا بين الإثارة الجنسية النسائية والذكورية، وهي إثارة مبحوث عنها سواء في الواقع أو من خلال الكتب. وهذا الالتباس الملمع إليه في القصة هو أسّ الإيروسية بوصفها توجها نحو إلغاء الفروق بين الجسدين.
إذا كان فرانسيسكو ألبيروني قد أرسى الكثير من الأجوبة لأسئلة تستعرض المناطق الأكثر تنوعا في الرغبة الجنسية في الأدب والسينما وغيرها من الأشكال الفنية والأعراف والمعتقدات الغربية والأجنبية، فإن مجموعة “درس البيانو” تنطوي على قدر كبير من الإشكال الخصب للجسد والرغبة، وتصلح، في الآن ذاته، أن تخضع إلى وضعها الطبيعي الذي راهن عليه السرد بروح فلسفية أحيانا، والأهم أن رصد الظواهر والعلامات والإشارات إنما تحقق بروح الكتابة وإعادة الكتابة في مسألة علاقة الجسد بالرؤية التأليفية، فعين السارد ترصد التفاصيل بالنتائج لتثري التجربة في تعدديتها.
التداخل وأسئلته
تتعدد الأسئلة المتولدة من هذا التداخل بين الجسد والكتابة في القصة عند حسن إغلان، وهو تعدد له مسوغه الرؤيوي والكتابي، إذ يفترض السرد في كل قصة خلق إحساس بالقلق الذي به تصوغ الأحداث نسبة من تحققها كما ألمحنا. أسئلة تكشف عن العلاقة المعقدة بين الذكورة والأنوثة.
وسنصاحب بعض هذه الأسئلة، انطلاقا من قصة وجهان لحكاية واحدة، على سبيل التمثيل. يقول السارد على لسان الفتاة سارة وهي تحاور إلياس:
«ما رأيك في أن نرمي أجسادنا في البحر، فأجسادنا تحتاج ملوحة ما. قالت: أنت مجنون، قلت: هذه أوربا يا امرأة فلا تخافي فالعري هنا مباح ولا وجود لكليشهات العقاب وحتى لا وجود للأفاعي والثعابين التي تسترها رمال الصحراء. تعرينا كلية ودخلنا البحر رغم أننا لا نتقن السباحة»
في هذا المقطع، يشتغل العنوان وجهان لحكاية واحدة انطلاقا من دلالتي التطابق بين الواقع والكتابة. الدلالة الأولى لصيقة بالواقع، أما الدلالة الثانية فتبنيها القصة اعتمادا على جوهر الكتابة المقترنة بحمولة التمرد على القيم التي تجعل العري مقرونا بالتحريم. فبلوغ جسدين لحظة التباس هو ما دفعهما للهجرة أو السفر ورمي جسديهما في البحر.
يتسنى التمييز، في قصة وجهان لحكاية واحدة، بين جسدين ينهضان دلاليا على التوافق. يفصل بينهما السارد اعتمادا على تدخلات الكاتب نفسه وأيضا التداخل الذي فرضته القصة بين حياة سارة ووقائع رواية “ذاكرة الماء”. يقول:
«أنا الآخر حاولت أكثرمن مرة دفن شهقة الروح في الحلق. كنت حبيسا بين منزلتين منزلة القارئ المحايد ومنزلة السارد المشاكس للبحر والموت. قلت لها لم هربت حروف الرواية؟ لم ابيض سوادها؟ أجابتني وهي تحمل اسمها بين يديها جثة كانت في زمن من أزمنة الرواية، ربما أنت لا تعرف مجرى في أمكنة الرواية وربما لم تعش عشية الموت بالألوان، وربما لا يوجد أقرباؤك هناك، ربما أنت بعيد في المسافة عن هنا، ربما أنت تتابع ما يقع هناك على صفحات الجرائد وشاشة التلفزيون اليتيمة، قلت قد يكون ذلك صحيحا يا سارة ولكني تابعت عبثية الموت بنوع من التريث بإصدار الحكم»
يمكن اعتبار هذا الخطاب المتداخل فئة من المبادئ المتداخلة، والتي تُكره الوعي والكتابة على حمل الحدث القصصي إرباكا مضاعفا، متمثلا في الانتقالات المتحققة بين العمل الروائي، وزاوية السارد، ووظيفة الشخصية. الأوصاف التي خلعها السرد لم تكن تسمح بتحولها إلى قصة عادية مباشرة، إلا في سياق التمهيد للتداخل الملمع إليه، على نحو ما تبدى من طبيعة المقطع الذي يصور الأحداث بوصفها كيانا قائما في الخطاب. ويمكن اعتبار هذا الأخير فئة كبرى من المبادئ «التحتية المدمجة في شبكة دلالات تؤسس وتنتج وتكرس علاقات بين كل ما يمكن رؤيته وقوله والتفكير فيه»
إن أهمية التداخل بين الكتابة والجسد هو ما وسع الأسئلة المؤطرة لهما، وذلك ضمن مسار حتمي يفتح الخطاب القصصي على الممكن والمستحيل، وكل مزج بين الكتابة والجسد يصبح معه التمييز بين العناصر المؤطرة لهما صعبة التفكيك، وكأنها تقتات بالتجاور داخل العالم القصصي لحسن إغلان. ولقد تجلت هذه الروح الإشكالية العبثية أحيانا في جل قصص الكاتب، وذلك على أكمل وجه في اختياره للمحضور والممنوع موضوعا. وبشكل تمرده على القصة بالكتابة، وعلى المؤسسة الاجتماعيىة بوعيه على حد الفجيعة حجم المأساة الإنسانية، برغم كل ذلك فقد تعمد استخدام كلمات صادمة وقاسية.
على سبيل الختم
وبالجملة فإن هذا البناء القصصي، الذي يغري بمواصلة الإنصات إليه من أكثر من زاوية، خصيصة مميزة لآليات بناء القصة القصيرة. وهو ما يجعلنا نزعم أن الالكتابة في مجموعة “إدرس البيانو” لحسن إغلان كتابة على حدود إعادة الكتابة والجسد. لا تعني هذه الكتابة ملامسة للموضوع من الظاهر، وإنما تعني على العكس، تمثلا لعمق العلاقة وباطنها على نحو يسمح بملامسة الفاصل الدقيق الذي يمنع من تماهيه بتشييء الجسد وابتذاله، وقد اسعفتنا المجموعة في تحديد صعوبة الكتابة عن الجسد وخطورتها في آن. على نحو ما صرحت به النصوص مشيرة للخط الذي يفصلها عن جنس ينتصر للغريزة ويفرغ الجسد من عمقه.