تَبسَّمَ وليدُ وقال: .. لا عليكِ يا صغيرتي .. انهضي معي؛ لنشتريَ ما هو مطلوب منك؛ لتعودي لبيتكِ مُطْمئنة, فانشرحَ صدرُها، وتَبسَّمتْ، وعادتْ لها الحياةُ ثانيةً، ذهبتْ معه، واشترتْ الأغراض، ودفع عنها وليد، وأعطاها الباقي، وكأنّ شيئاً لم يكن، قَفَل راجعاً إلى شقتهِ ثانيةً، لاحَظَ بعد قليل أنّ الفتاةَ تسيرُ خلفَهُ خطوةً بخطوة،. فسألَها:
– أين تقطنينَ؟.
– فأجابته: ببناية رقم6.
– فَتَبَسّم وقال: يعني نحن جيران في نفس البنايةِ. فَصَعدَا بالمصْعَدْ.
– فسألها أيُّ طابق؟.
– فقالت له: الرابع، لكنْ أرجوكَ أنْ تُفَسّرْ لوالدي سببَ طول غيابي،. ففعل وليد، طُرقَ البابُ، فَفُتح، وإذا برجلٍ ضخمٍ يِقفُ أمامَه.
– ويقول: مستفسراً (أيه في حاجه)؟. فتدخّلت الطفلةُ مِنْ خَلْف وليد، وسَردتْ القصةَ لوالدِها، عندها شعر والدُها بفظاظة الاستقبالِ مع شخصٍ قام بخدمةِ ابنته, بوازع أخلاقيّ، فتمسّكَ بهِ بكلّ إصرار لاستضافتهِ في البيت، دَخلَ وليدُ بضيافةِ هذا الرجلِ المخيفِ بشكله والطيب بقلبِه، وبعد شرب القهوة، تداولا أطراف الحديث والتعارفِ. طَلبَ من وليد النزولَ بضيافتِه، وأَسَرَّ له بأنّ هناكَ فتاة تَخُصُّه من الأردنّ, تَقْطُنُ مقابلَ شُقتِهم اسمُها هيام, فهي فتاةٌ لطيفةٌ وطيبةُ المِعْشَرْ، لا بُدَ من أنْ أُعرِفكُم على بعض.
فجأةً سكَتَ صوت أم كلثوم من التلفاز. “أيها المواطنون جاءنا الآن ما يلي”.
هيام..! شعرتُ بضيقٍ في روحي، ووقفتُ على شُرْفِة شقتي في الدورِ الرابع أُرقبُ الطريقَ والمارّة من الأعلى، وكأنّي أمتطي السحابَ، وأحلّقَ مع روحي، وأنظرُ إلى الناسِ من فوق, وكأنّهم عالمٌ غريبٌ عن عالمي..، أنا فوقَ السحاب، وهم على رصيف الحيّ سعداءُ بما يَوَفّرُ لهُم من لهوٍ، ولعِبٍ، وحكاياتِ أهل الحيّ، وأحلامِهم التي تَكْبُرُ مَعَهُم كوطنٍ يتسعُ، ويَكْبرُ معهم، كلّما كَبُرَتْ أعمارُهم، كنتُ أراقبُهم وأبتسِمُ؛ لأعود بذاكرتي إلى طفولتي التي تمتلئُ بشقاوةِ طفلةٍ تحبُّ الحياةَ وكَبُرت، وما زالت تلك الطفلة في روحها العَفْويةِ التي تَسكُنُها. وأنا أنظر للطريقِ لَمَحْتُ سيارةَ أجرة، تَوَقَفتْ أمامِ البنايةِ المقابلةِ للبنايةِ التي أسكنُ فيها، .. رأيتُ شاباً طويلَ القامةِ ذا شعرٍ أسودَ مسترسَل، رفع شَعْرهُ عن عينيهِ، ودفعَ أجرةَ التاكسي.
وقَفَ قليلاً أمامَ بابِ البنايةِ، نَظرَ بعينيهِ للسماءِ كأنّهُ يبحثُ عن شيءٍ ما، تجوّل بنظرهِ بين البناياتِ الموجودةِ في الحيّ، أثناء تجواله توقّف لحظة، وهوَ ينظُرُ إليَّ وأنا أراقِبُه، فَكرتُ للحظة, أنْ أُشيحَ بنظري عنُه، لكنّهُ الفضولُ دفعني لمتابعةِ هذا الشابِ الغريبِ عن الحيِّ، لم أرَهُ من قبل، ابتعد بنظره عني نحو فِتْيةٍ يجلسون على الرصيفِ، يتحدثون، ويَضْحكونْ، تحدّث معهم، وأشاروا إليه إلى نفس البنايةِ التي أسكُنُ فيها؛ فتركهم واتّجَهَ نَحو البناية, فعرفت أنّه يبحث عن عنوانِ شخصٍ ما هنا في الحيّ.
جَلَستُ أَحتَسي فنجانَ قَهْوتي، وأستمعُ إلى صوتِ أم كلثوم, وهي تشدو بصوتها العذب، وأُدندِنُ مَعَها برقةِ تلكَ الأنثى، التي بدأَتْ تَشُقُ طريقَ مستقبلها هنا في مصر، بعيدةً عن الأهلِ، وذلكَ الحي البسيطُ الّذي كَبُرْتُ فيه مع أصدقائي وجيراني الطيبين،. كانوا جزءاً من أيامي هناك، كنتُ ولا زلت أرى فيهم أحلام بنت الأشرفيّة، معهم أنتظر العودةَ إلى هناك لأُكمِلَ الحُلُمَ معَ أحلامِهم البسيطةِ، وأُخْبِرهُم: كَمْ كُنْتُ وحيدةً بدونِهم. مع غُربةِ الدراسة في بلادٍ رَحَبَّت بي؛ لتعطيني دفءَ ذلكَ الحيّ، شاركوني وَحدَتي، وكانوا نِعمَ الحُضنِ الدافئ، فجأةً.. انقطعَ صوتُ أمّ كلثوم, لأصحو على صوتِ المذيع: “أيها المواطنون جاءنا الآن مايلي”.
فيقولُ وليد: كانت الفرحةُ منذُ عقودٍ طويلةٍ قدْ غادرت قلوبَنا، كنا نَحْسَبُها إلى غيرِ رجعة، أو أنّها ستكونُ متأخّرةً جدّاً، لكنّها جاءت في وقتِ لم نتوقَعَهُ، ولم يكن مُدْرَجاً على جَدْوَلِ تفكيرنا،. جاءت عمليةُ القائدةِ دلال المُغربي ومجموعتُها من الأبطال.تصدح بصوتِ المذيعِ، كأنَّها زغاريدُ فرحٍ مدويةٌ على أسماعِنا بقوله: “عمليةٌ فدائيةٌ نوعيةٌ، تَخَطَّتْ كلَّ خطوطِ الَوهْمِ التي كان قد رسمها العدوّ الصهيونيّ, ظنّاً منه أنه لن يتخطاها أحد مُوهِماً شعبه، بأنّه بأمانٍ مع وجودِ تلكَ الاحتياطات الأمنيّةِ المشدّدةِ، وإذْ بهذهِ المجموعةُ البطلة تُسَفّه كلّ احتياطات العدوِّ الأمنيّة بحريّة كانت أم بريّة”.
قَدِمَتْ هذه المجموعةُ، التي لم يَتَجاوزْ عددُها التسعةَ عَشَرَ مقاتلاً عن طريق البحرِ بقواربَ مطاطيّة، حيثُ نَزلَتْ على شاطئِ فلسطينَ المحتلّه، واحتجزت إحدى حافلات العدوّ بركابها، لتسيطرَ سيطرةً كاملةً على جزءٍ كبير من الساحلِ الفِلسطيني المحتل تجاوز (80 )كم رافعينَ علمَ فلسطين من نوافذِ الحافلةِ، ومُعلنين قيامَ أول دولةٍ فلسطينيّة،. كانت معركةً شرسةً، ضارية, لم يَخُضْ جيشُ العدوِّ مثلَها فيما مضى، اشتركت فيها كلُّ فئاتِ قوّاته في هذه المعركةِ غير المتكافئة أبداً عدداً وعدةً إلا من سلاح واحد, هو إيمانُ أولئك الفتيةِ الأبطال، يحقّ لهم ضَربَ العدوِّ في العُمْق, وإرباكَهُ، وزعزعةَ أركانِ استقرارهِ، الّذي ظل يَتَبَجَحُ بِهِ طويلاً، لم يسقط الشهداءُ ولم تنتهِ المعركةُ إلّا معَ نفاذِ آخرِ رصاصةٍ من بنادق هؤلاء الأبطال.
*
خرجت هيامُ من شُقّتها مسرعةً للشقّةِ المقابلةِ لها، فَطَرقت البابَ بشدةٍ، وهي تَصْرخُ: خَالَة أمَّ سندس، عَمُّ عَطيّةُ، انتوا موجودين؟ وهي تطرُق بكلّ قوتِها.
فتحَ العَمُّ عطيّةُ البابَ, وهو يعرف لماذا أتت, فقالَ لها:، ونبراتُ فرحٍ ممزوجة بحزنِ وفخرٍ: “تعالي عمّي هيام اُدخلي، وافتخري بدلالَ ورفاقِها”.
أم سندس تبكي وتحتسب لله وتقول: “ربّنا ما ينساش فلسطينَ وشهداءَها”، نظرتْ هيام لشاب في ركنِ الصالةِ أدار وجَهَهُ للحائطِ، وأقفل التلفاز، وانضمّ للجلسةِ، ليشارِكَهُم التعليق على الحدث الجلل, الّذي حَصلَ في تلّ الربيع (تل أبيب) بفلسطين. قال بصوتٍ خافتٍ فيه نبرةُ حزن: “مساء الخير”، تقدّم نحوَ هيام يصافِحُها فقالت لهُ: أهلاً وسهلاً، وإذ بصوتِ العم عطيّه يعلو من الخلفِ”أدي الآنسة هيام التي كلمتُكَ عنها، والتي تسكن في الشقة المُقابلةِ لنا، وقلتلك لازم أُعرفك عليها؛ لأنها بلدياتك من الأردن”.
تقدم وليد للمرةِ الثانيةِ، .. صافَحَها من جديد .. كأنّه وجدَ شيئاً من رائحةِ الأهلِ، والأحبابِ, .. قال بصوت ونبرة تختلف عن الأولى كأنّها نبرة فرحٍ: “أهلاً وسهلاً آنسه هيام تَشرّفنا” .. قالت هيام بدلال الأنثى العفوي : أهلاً وسهلاً ياااا….توقفتْ عن الكلامِ, نَظرتْ إليهِ، وكأنّها تسألُهُ عن اسمِه .. وليد من إربد .. أهلاً وليد. واندفعتْ بكلامِها عن العملية الفدائية في تلّ الربيع، واستشهادِ المناضلة دلال المغربي ورفاقِها، شيء بَشِعٌ ما يَحصَلُ من عدوّنا الحقود, الذي يحاول أن يقتل فينا روحَ النِضالِ وحبَّ الحرية, لكنّها عمليةٌ جريئةٌ، لا يقومُ بِها إلّا مَنْ كانَ مراهِناً على حياته…، إمَّا النصرُ وإمّا الشهادةُ, فكانت أمنياتُها الرجوع هناك خلفَ جسْرِ العودةِ…، نظرت لوليد وهو مبتسم، وعيناهُ يملؤها الفخر بهيام. فقالت: أنا أعتذر فالحدث أكبر من السكوت، أنا لا أملِكُ إلّا الكلمةَ الحرّةَ، ووفائي لوطني.
دخلت أم سندس تحمل صينيّةَ الشاي، وهي تَترَنحُ يمنةً ويسرةً وبخطىً بطيئةٍ كونَها تعمل في مصنعٍ للأغذيةِ طيلة اليوم:”أدي الشاي بالنِّعناع، حيروّءَ دَمُّكُمْ، ويرَيَّحْ أعصابْكمْ.. يا رب”. خلالَ احتساءِ الشايْ، كانَ وليدُ يوجهُ الحديثَ لهيام، مُبتعداً بنظراتِه نحو أبي سندس، كأنّه يخشى أنْ يَلْمَحهُ أحد،. فيحلّل نظراتِه إليها، بعد حديث طويل عن العمليةِ والقضية الفلسطينيّةِ، ومعاناةِ الشعبِ الفلسطيني، وانعكاسِ ذلك على الشعوبِ العربيةِ، والمسلمينَ بشكلٍ عام، وعن غطرسةِ الاحتلالِ تِجاهَ شعبِ فلسطين..، وإذا بالعمّ عطيّه يقطع الحديث ويقول: “إيه يا ولاد حنفضل نتكلم كده عن ولاد…الْـ..، وننسى روحْنا الكَلامْ عنهم مِشْ حَيِخْلَصْ أبداً”.
نَظرَ وليدُ لهيامِ، .. لفتَ انتباهَهُ تَقاسيمَها, هي بلمحةٍ خاطفةٍ بانت على مُحَيَّاها الخجل, تَوارَدت الأفكارُ بينَهما، وتَسَلَلوا بعد الاستئذان من أبي سندسٍ إلى مكانٍ رَحْبٍ. سار بهما الزمنُ صامتا حتى بانَ نسيمُ النيلِ، يروي حكاياتِ السَلفِ، وقفا جانباً، كلّ منهما يبحث عن مفردةٍ فاتحةٍ للحديث، فقال لها: أنا لاجىءٌ يهيم على وجههِ طالباً للعلمِ في بلادِ الغُرْبة، فهو طريقُ الحياةِ إلى شعبِ فلسطينَ، الّذي انطلق شامخاً من مُخيماتِ اللجوءِ، جريمةَ العصر الحاضر.
تمايَلتْ هيامُ بهمس لتقولَ لهُ: نحن على نفسِ الدربِ نسير، ونلتقي، سلاحُنا أفكارُنا، وثقافتُنا هي البندقيةُ، الكلمةُ التي تُعيدُ حقوقَنا، فتهافتت قلوبُهم وأعينُهم إلى بعيدٍ قريب ليكونا .. هو وهو .. هي وهي .. في مَرْكَبِ النجاةِ، الّذي ينقلُهم على صَدْرِ العطاءِ، والوفاءِ، والمحبةِ .. حملهم خيالُهم بعيداً على نَسَماتِ الريحِ إلى حضارةِ كنعانَ وطائرِ الفينيقِ المتجددِ البعث.
فأيقنوا أنَّ نضالَهم متجددٌ وأيديِهم دائمةُ العطاء .
– أين تقطنينَ؟.
– فأجابته: ببناية رقم6.
– فَتَبَسّم وقال: يعني نحن جيران في نفس البنايةِ. فَصَعدَا بالمصْعَدْ.
– فسألها أيُّ طابق؟.
– فقالت له: الرابع، لكنْ أرجوكَ أنْ تُفَسّرْ لوالدي سببَ طول غيابي،. ففعل وليد، طُرقَ البابُ، فَفُتح، وإذا برجلٍ ضخمٍ يِقفُ أمامَه.
– ويقول: مستفسراً (أيه في حاجه)؟. فتدخّلت الطفلةُ مِنْ خَلْف وليد، وسَردتْ القصةَ لوالدِها، عندها شعر والدُها بفظاظة الاستقبالِ مع شخصٍ قام بخدمةِ ابنته, بوازع أخلاقيّ، فتمسّكَ بهِ بكلّ إصرار لاستضافتهِ في البيت، دَخلَ وليدُ بضيافةِ هذا الرجلِ المخيفِ بشكله والطيب بقلبِه، وبعد شرب القهوة، تداولا أطراف الحديث والتعارفِ. طَلبَ من وليد النزولَ بضيافتِه، وأَسَرَّ له بأنّ هناكَ فتاة تَخُصُّه من الأردنّ, تَقْطُنُ مقابلَ شُقتِهم اسمُها هيام, فهي فتاةٌ لطيفةٌ وطيبةُ المِعْشَرْ، لا بُدَ من أنْ أُعرِفكُم على بعض.
فجأةً سكَتَ صوت أم كلثوم من التلفاز. “أيها المواطنون جاءنا الآن ما يلي”.
هيام..! شعرتُ بضيقٍ في روحي، ووقفتُ على شُرْفِة شقتي في الدورِ الرابع أُرقبُ الطريقَ والمارّة من الأعلى، وكأنّي أمتطي السحابَ، وأحلّقَ مع روحي، وأنظرُ إلى الناسِ من فوق, وكأنّهم عالمٌ غريبٌ عن عالمي..، أنا فوقَ السحاب، وهم على رصيف الحيّ سعداءُ بما يَوَفّرُ لهُم من لهوٍ، ولعِبٍ، وحكاياتِ أهل الحيّ، وأحلامِهم التي تَكْبُرُ مَعَهُم كوطنٍ يتسعُ، ويَكْبرُ معهم، كلّما كَبُرَتْ أعمارُهم، كنتُ أراقبُهم وأبتسِمُ؛ لأعود بذاكرتي إلى طفولتي التي تمتلئُ بشقاوةِ طفلةٍ تحبُّ الحياةَ وكَبُرت، وما زالت تلك الطفلة في روحها العَفْويةِ التي تَسكُنُها. وأنا أنظر للطريقِ لَمَحْتُ سيارةَ أجرة، تَوَقَفتْ أمامِ البنايةِ المقابلةِ للبنايةِ التي أسكنُ فيها، .. رأيتُ شاباً طويلَ القامةِ ذا شعرٍ أسودَ مسترسَل، رفع شَعْرهُ عن عينيهِ، ودفعَ أجرةَ التاكسي.
وقَفَ قليلاً أمامَ بابِ البنايةِ، نَظرَ بعينيهِ للسماءِ كأنّهُ يبحثُ عن شيءٍ ما، تجوّل بنظرهِ بين البناياتِ الموجودةِ في الحيّ، أثناء تجواله توقّف لحظة، وهوَ ينظُرُ إليَّ وأنا أراقِبُه، فَكرتُ للحظة, أنْ أُشيحَ بنظري عنُه، لكنّهُ الفضولُ دفعني لمتابعةِ هذا الشابِ الغريبِ عن الحيِّ، لم أرَهُ من قبل، ابتعد بنظره عني نحو فِتْيةٍ يجلسون على الرصيفِ، يتحدثون، ويَضْحكونْ، تحدّث معهم، وأشاروا إليه إلى نفس البنايةِ التي أسكُنُ فيها؛ فتركهم واتّجَهَ نَحو البناية, فعرفت أنّه يبحث عن عنوانِ شخصٍ ما هنا في الحيّ.
جَلَستُ أَحتَسي فنجانَ قَهْوتي، وأستمعُ إلى صوتِ أم كلثوم, وهي تشدو بصوتها العذب، وأُدندِنُ مَعَها برقةِ تلكَ الأنثى، التي بدأَتْ تَشُقُ طريقَ مستقبلها هنا في مصر، بعيدةً عن الأهلِ، وذلكَ الحي البسيطُ الّذي كَبُرْتُ فيه مع أصدقائي وجيراني الطيبين،. كانوا جزءاً من أيامي هناك، كنتُ ولا زلت أرى فيهم أحلام بنت الأشرفيّة، معهم أنتظر العودةَ إلى هناك لأُكمِلَ الحُلُمَ معَ أحلامِهم البسيطةِ، وأُخْبِرهُم: كَمْ كُنْتُ وحيدةً بدونِهم. مع غُربةِ الدراسة في بلادٍ رَحَبَّت بي؛ لتعطيني دفءَ ذلكَ الحيّ، شاركوني وَحدَتي، وكانوا نِعمَ الحُضنِ الدافئ، فجأةً.. انقطعَ صوتُ أمّ كلثوم, لأصحو على صوتِ المذيع: “أيها المواطنون جاءنا الآن مايلي”.
فيقولُ وليد: كانت الفرحةُ منذُ عقودٍ طويلةٍ قدْ غادرت قلوبَنا، كنا نَحْسَبُها إلى غيرِ رجعة، أو أنّها ستكونُ متأخّرةً جدّاً، لكنّها جاءت في وقتِ لم نتوقَعَهُ، ولم يكن مُدْرَجاً على جَدْوَلِ تفكيرنا،. جاءت عمليةُ القائدةِ دلال المُغربي ومجموعتُها من الأبطال.تصدح بصوتِ المذيعِ، كأنَّها زغاريدُ فرحٍ مدويةٌ على أسماعِنا بقوله: “عمليةٌ فدائيةٌ نوعيةٌ، تَخَطَّتْ كلَّ خطوطِ الَوهْمِ التي كان قد رسمها العدوّ الصهيونيّ, ظنّاً منه أنه لن يتخطاها أحد مُوهِماً شعبه، بأنّه بأمانٍ مع وجودِ تلكَ الاحتياطات الأمنيّةِ المشدّدةِ، وإذْ بهذهِ المجموعةُ البطلة تُسَفّه كلّ احتياطات العدوِّ الأمنيّة بحريّة كانت أم بريّة”.
قَدِمَتْ هذه المجموعةُ، التي لم يَتَجاوزْ عددُها التسعةَ عَشَرَ مقاتلاً عن طريق البحرِ بقواربَ مطاطيّة، حيثُ نَزلَتْ على شاطئِ فلسطينَ المحتلّه، واحتجزت إحدى حافلات العدوّ بركابها، لتسيطرَ سيطرةً كاملةً على جزءٍ كبير من الساحلِ الفِلسطيني المحتل تجاوز (80 )كم رافعينَ علمَ فلسطين من نوافذِ الحافلةِ، ومُعلنين قيامَ أول دولةٍ فلسطينيّة،. كانت معركةً شرسةً، ضارية, لم يَخُضْ جيشُ العدوِّ مثلَها فيما مضى، اشتركت فيها كلُّ فئاتِ قوّاته في هذه المعركةِ غير المتكافئة أبداً عدداً وعدةً إلا من سلاح واحد, هو إيمانُ أولئك الفتيةِ الأبطال، يحقّ لهم ضَربَ العدوِّ في العُمْق, وإرباكَهُ، وزعزعةَ أركانِ استقرارهِ، الّذي ظل يَتَبَجَحُ بِهِ طويلاً، لم يسقط الشهداءُ ولم تنتهِ المعركةُ إلّا معَ نفاذِ آخرِ رصاصةٍ من بنادق هؤلاء الأبطال.
*
خرجت هيامُ من شُقّتها مسرعةً للشقّةِ المقابلةِ لها، فَطَرقت البابَ بشدةٍ، وهي تَصْرخُ: خَالَة أمَّ سندس، عَمُّ عَطيّةُ، انتوا موجودين؟ وهي تطرُق بكلّ قوتِها.
فتحَ العَمُّ عطيّةُ البابَ, وهو يعرف لماذا أتت, فقالَ لها:، ونبراتُ فرحٍ ممزوجة بحزنِ وفخرٍ: “تعالي عمّي هيام اُدخلي، وافتخري بدلالَ ورفاقِها”.
أم سندس تبكي وتحتسب لله وتقول: “ربّنا ما ينساش فلسطينَ وشهداءَها”، نظرتْ هيام لشاب في ركنِ الصالةِ أدار وجَهَهُ للحائطِ، وأقفل التلفاز، وانضمّ للجلسةِ، ليشارِكَهُم التعليق على الحدث الجلل, الّذي حَصلَ في تلّ الربيع (تل أبيب) بفلسطين. قال بصوتٍ خافتٍ فيه نبرةُ حزن: “مساء الخير”، تقدّم نحوَ هيام يصافِحُها فقالت لهُ: أهلاً وسهلاً، وإذ بصوتِ العم عطيّه يعلو من الخلفِ”أدي الآنسة هيام التي كلمتُكَ عنها، والتي تسكن في الشقة المُقابلةِ لنا، وقلتلك لازم أُعرفك عليها؛ لأنها بلدياتك من الأردن”.
تقدم وليد للمرةِ الثانيةِ، .. صافَحَها من جديد .. كأنّه وجدَ شيئاً من رائحةِ الأهلِ، والأحبابِ, .. قال بصوت ونبرة تختلف عن الأولى كأنّها نبرة فرحٍ: “أهلاً وسهلاً آنسه هيام تَشرّفنا” .. قالت هيام بدلال الأنثى العفوي : أهلاً وسهلاً ياااا….توقفتْ عن الكلامِ, نَظرتْ إليهِ، وكأنّها تسألُهُ عن اسمِه .. وليد من إربد .. أهلاً وليد. واندفعتْ بكلامِها عن العملية الفدائية في تلّ الربيع، واستشهادِ المناضلة دلال المغربي ورفاقِها، شيء بَشِعٌ ما يَحصَلُ من عدوّنا الحقود, الذي يحاول أن يقتل فينا روحَ النِضالِ وحبَّ الحرية, لكنّها عمليةٌ جريئةٌ، لا يقومُ بِها إلّا مَنْ كانَ مراهِناً على حياته…، إمَّا النصرُ وإمّا الشهادةُ, فكانت أمنياتُها الرجوع هناك خلفَ جسْرِ العودةِ…، نظرت لوليد وهو مبتسم، وعيناهُ يملؤها الفخر بهيام. فقالت: أنا أعتذر فالحدث أكبر من السكوت، أنا لا أملِكُ إلّا الكلمةَ الحرّةَ، ووفائي لوطني.
دخلت أم سندس تحمل صينيّةَ الشاي، وهي تَترَنحُ يمنةً ويسرةً وبخطىً بطيئةٍ كونَها تعمل في مصنعٍ للأغذيةِ طيلة اليوم:”أدي الشاي بالنِّعناع، حيروّءَ دَمُّكُمْ، ويرَيَّحْ أعصابْكمْ.. يا رب”. خلالَ احتساءِ الشايْ، كانَ وليدُ يوجهُ الحديثَ لهيام، مُبتعداً بنظراتِه نحو أبي سندس، كأنّه يخشى أنْ يَلْمَحهُ أحد،. فيحلّل نظراتِه إليها، بعد حديث طويل عن العمليةِ والقضية الفلسطينيّةِ، ومعاناةِ الشعبِ الفلسطيني، وانعكاسِ ذلك على الشعوبِ العربيةِ، والمسلمينَ بشكلٍ عام، وعن غطرسةِ الاحتلالِ تِجاهَ شعبِ فلسطين..، وإذا بالعمّ عطيّه يقطع الحديث ويقول: “إيه يا ولاد حنفضل نتكلم كده عن ولاد…الْـ..، وننسى روحْنا الكَلامْ عنهم مِشْ حَيِخْلَصْ أبداً”.
نَظرَ وليدُ لهيامِ، .. لفتَ انتباهَهُ تَقاسيمَها, هي بلمحةٍ خاطفةٍ بانت على مُحَيَّاها الخجل, تَوارَدت الأفكارُ بينَهما، وتَسَلَلوا بعد الاستئذان من أبي سندسٍ إلى مكانٍ رَحْبٍ. سار بهما الزمنُ صامتا حتى بانَ نسيمُ النيلِ، يروي حكاياتِ السَلفِ، وقفا جانباً، كلّ منهما يبحث عن مفردةٍ فاتحةٍ للحديث، فقال لها: أنا لاجىءٌ يهيم على وجههِ طالباً للعلمِ في بلادِ الغُرْبة، فهو طريقُ الحياةِ إلى شعبِ فلسطينَ، الّذي انطلق شامخاً من مُخيماتِ اللجوءِ، جريمةَ العصر الحاضر.
تمايَلتْ هيامُ بهمس لتقولَ لهُ: نحن على نفسِ الدربِ نسير، ونلتقي، سلاحُنا أفكارُنا، وثقافتُنا هي البندقيةُ، الكلمةُ التي تُعيدُ حقوقَنا، فتهافتت قلوبُهم وأعينُهم إلى بعيدٍ قريب ليكونا .. هو وهو .. هي وهي .. في مَرْكَبِ النجاةِ، الّذي ينقلُهم على صَدْرِ العطاءِ، والوفاءِ، والمحبةِ .. حملهم خيالُهم بعيداً على نَسَماتِ الريحِ إلى حضارةِ كنعانَ وطائرِ الفينيقِ المتجددِ البعث.
فأيقنوا أنَّ نضالَهم متجددٌ وأيديِهم دائمةُ العطاء .