تنطلق من مدينة السلط إلى زي وطباعة العواملة وجلعاد وام العمد ، وايضا من هنا وعلى مسافة اقل من كيلوا مترا واحدا تنعطف بك الطريق إلى الرميميين بشلالاتها الرائعة ، ومن ثم إلى البقعة وعين الباشا ، واذا ما سرت با تجاه الغرب فإنك تتجه عبر طريق متعرج كأفعى كثير الانحناءات إلى الصبيحي وميسرة ومن ثم إلى الاغوار .
هنا أقف لأعيد نشيد الراحل سليمان عويس … القلب يغنيه … والروح تطير به إلى الأعالي حيث تقبع هذه المحافظة الآبية .
سلطي أنا وحاكورتي
فيها الشجرْ هالطولْ
ومسيّجهْ لوزْ وعنبْ
والفستقهْ هالطولْ
فيها طواحينْ وعصافيرْ
وحكايا مطرّزهْ
لو تنحكى بتطولْ
أنظر إلى الغرب فأشاهد خضرة الاغوار وانوار القدس ، فيأخذني الحنين إلى مسرى رسول المحبة والانسانية ، وتتقد في الروح نيران الغضب على اخوة سمعوا معي أنين النهر ، ووجع الباذان ، سمعوا معي صرخات جبل النار ، ودموع يذرفها الاقصى وتشاركه القيامة ، سمعوا وصمتوا وتركوني وحدي مع اخي هناك نتقلب على جمر الجرح وابتعدوا .
وأنت تسير في الطريق … وما أن تقطع مسافة الكيلو مترين … حتى تشعر بأنك مجبر على الوقوف… إلى يمنيك تربض مع الشموخ زي …. والى يسارك … تقطن في السفح كفر هودا … إلى أين تتجه ؟ ، فلكل منهما مكانه في القلب … هناك النشامى من أبناء الخريسات … يحمسون قهوتهم، ليملأ شذاها الأفق … ومهابيشهم تعزف لك تحية الضيوف … تعزف لك أنشودة أهلا وسهلا التي ما غابت أبدا عن شفاههم … وهناك … أبناء الزعبية والخرابشة والعواملة … كلها تناديك … وتزغرد أشجار الزيتون … والكروم حيا الله بالأخ والابن القادم إلينا .
تأخذك الحيرة أي نداء تلبي أولا … تكتفي بالنظر لبيوتهم العامرة الطاهرة … ويأخذك الدعاء بقلب خاشع … اللهم ادم نعمك عليهم ومتعهم بالأمن والسلامة … اللهم هؤلاء الشامخين من أبناء الوطن الشامخ … ما زالوا على عهدك يا رب … ما زالوا على بيعتهم … لا يخذلون أخ … وما زالوا أرضا تتحقق فيها معجزة الإخاء الأولى … ولكن هنا اختلفت قليلا … إخاء بين الأديان التي أنزلتها يا رب . ارض الأخ وابن الأخ ما دام يحتفظ بقانون مهباشها .. ودستور بيت الشعر فيها .
يعتذر القلب من أحبة سكنوه … وأتابع مسيري إلى حيث ديرة من ترابها كان شهيقي الأول … تعترضني منطقة الصبيحي … ترادوني بالدخول إليها … تمنحني بعضا من نسيم اروض به حرارة ارضي … اخفف من لهيب شمسها …تقبل ترابها عيوني … وأتابع رحلتي إلى هناك .
تلوح لك الأغوار بذراعها إن اقترب لترتوي من بحر البطولة ، وترتشف من معين الكرامة ، وترى بأم عينك ذلك التلاحم الاسطوري بين الشقيقين ابن الضفة الشرقية والغربية .
تناديك الاغوار لترى بام عينك الارض التي ابى ان يفارقها صحابة رسول الله من امين الامة إلى ضرار بن الازور ، ورفضوا إلى ان يكون نشورهم منها إلى باري السموات والارض ، تأخذك الاغوار إلى ذلك الزمن البهي بكل ما فيه لتعلمك ان هذه الأرض وان تعثر فارسها ، وكبى حصانه لابد له من ان ينهض ويسترد ما ضاع منه ، لا يقبل موضعا لخطاه غير جبين الشمس.
تأخذك ارض الاغوار المزدانة بخضرتها وبسمرة ابنائها إلى حيث هناك ،إلى دير علا … حيث تلها ما زال شاهد ا على ازمنة ارتحلت وابقت شواهدها … دير علا بتلها العتيق… تلها الذي يضرب في التاريخ ما يزيد عن خمسة الآف عام … تلها التي اخذت من نقوش اهله بعض نصوص التوراة … تلها الذي اتاه الراهب علا فبنى به ديره … ديرعلا … غلل او غلال كما كانت تسمى … ما زالت تحتفظ ببعض من ارثها .. وفخارها الذي يثبت مدى عطاء وفن اهل هذه الارض ديرعلا التي التي حملت اسم ( غلل ) ومعناه الحصاد.. تل ديرعلا والذي ما زال عطر الانبياء يفوح منه … ينادي المعنيين بالكشف عن الاثار … ليزيلوا الغبار عن تاريخ هذه المنطقة التي شكلت قبل ان يكون الانسان .
دير علا سلة غذاء الاردن والتي تمتد من ضريح امين الامة وحتى جسر الامير محمد … يفوح اريجها عبر حرارة صيفها ودفء شتائها … ويسمع انيين قلبها الصادق والمحب … من وجع قرن صرطبة … من الم الاهل هناك غربي النهر والذين مذ كانوا وهم تحت طائلة الابتلاء .
كيف لا يجري القلم للتغزل بدير علا … التي كانت اللثغة الأولى لجسدي منها تنطلق … كانت زقزقة العصافير اول موسيقى يسمعها هذا الجسد ، وكانت فراشات الارض وخضرتها اول لوحة تطل عليها العين … فتعرف معنى الجمال وتقدره .
ديرعلا التي استقبلت هذا الجسد الغض …عندما ابت الجوزاء الا ان يكون من ابنائها … فلا يليق بابناء هذا اللواء الطيب الا الجوزاء بعليائها .
هنا وفقط هنا وانت تجوب الدروب التي اكتنزت بالخضرة وعندما تطلق للروح العنان تتعلم كيف ترسم فوق ملامح الجسد المتعب الابتسامة الصادقة النقية … وانت تجوب الارض وتتأمل الوانها المتناثرة بإبداع تتسأل ترى لم يتكئ الأشخمان على كتفيها … وتسمع رنين ضحكتهما وهي تجيبك لنمتع النظر بما حبى الله هذه الارض من جمال .
هنا وفقط هنا تعلمك الارض كيف تتخذ المواقف … متى تكون لينا طيبا معطاء ومتى ينادي للشدة مناديها .
هنا … وهنا فقط كل الاشياء تسبح باسم من اعطى ومنح ..
دير علا … بارضها المنبسطة كراحة اليد … بخضرتها الزاهية … بزراعتها المحمية يدهشك المنظر وانت تتأمل المركبات وهي تتلوى في دروبها لتنقل خير الأرض إلى الدنيا .
فلهذا الطين انشد شاعر الاردن :
والغور ما انفكت غدائر نبته زهوره تحنو على غدرانه
وقال
و ( الغور ) مدهامة جناته وانا في معشر من بني قومي ميامين
من ديرعلا بقراها التي ما زالت تحتفظ بعادات اهلها حيث لا اذن للزيارة …كما تحتفظ بخضرتها الدائمة وارثها… تحتفظ بدفء مشاعرها وحرارة الحب الساكن قلبها … هنا اقف لأستذكر حديث ابي … وكلمات أمي التي طالما اختلطت بالدموع وهي تتحدث عن تلك الفترة التي اعقبت معركة الكرامة الخالدة ، حيث كانت تشتعل حرب الاستنزاف على طول الواجهة ، استذكر حديثهم عن الغارات الغاشمة التي راح ضحيتها الكثير من الاطفال والنساء و الأبرياء ، الغارات التي كان يشنها العدو كما يدعي كانت تستهدف رجال المقاومة… وويل لذلك الغاشم اما درى ان كل شيء هنا هو مقاوم من التراب للطير والشجر وحتى الانسان المجبول من هذا الطين … اسأل امي لم البكاء وانتم تتحدثون عن الشهداء … وهم في جنات الخلد رفاقهم فيها الانبياء واولياء الله ، تقول يا بني لو كتبت لهم الحياة لربما استطاعوا ان يغيروا من الواقع ، اسأل ابي بخبث ، يا ابي لم تسمونه عدوا وقد وقعت الاتفاقيات … واصبح جارا اردنا ذلك ام ابينا … اصبح صديقا … يستثمر الارض والانسان هنا ، يا بني … هل يعقل ان امد يدي لاصافح من قتل ولم يرحم ، هل يمكنني ان احادث من جلد وحرق وشرد .
يا بني السلام المزعوم سلام حكومات … وليس سلام شعوب ، وما لم يقرره الشعب ابدا لا يدوم …. أرد عليه بسؤال وماذا انتم فاعلون ؟ ، الامر يترك للأيام لتسطر ما يكون .
هنا تترك الروح تنصب حبال العشق بين جبال البلقاء .. وجبال نابلس للتأرجح الحب حاديها … عشق السنا الإلهي هنا يناغيها … والقلب ينشد سبحان من أبدع هذا التراب .
من كتاب : مذكرات مجنون في مدن مجنونة الصادر عن دار الغاية للنشر والتوزيع