تعريف بالقصيدة التجريدية :
الأدب فن قائم بالألفاظ الا انا لو تفحصنا جوهرية العمل الأدب فانا سنجد ان المقوم الاساس لأدبية الكتابة هو التجريد، أي تجريد الالفاظ من لغويتها، و لقد عرفت اديث ستويل في سنة 1923 القصيدة التجريديى بانهاالقصيدة التي تختار كلماتها اعتمادا السماع بدل المعنى (1) و يقول زو فاندي فيلدي لاجل كتابة قصيدة تجريدية عليك ن تفهم ان المعنى ليس مهما و انما المهم الشعور (2).
اذن فالقصيدة التجريدية تعني اهتمام أقل بالمعنى و اهتمام اكبر بما وراء المفردات من زخم شعوري فيبنى النص من وحدات شعورية و ليس معنوية . ان التجريدية شعور عميق بالاشياء و اتحاد بها و ادراكها بشكل مختلف و ايصال ذلك كله الى المتلقي فلا يرى سوى الشعور. تقول مونا شيفافارد ان الشعر التجريدي مثل الفن التجريدي حيث يكون التركيز على الافكار و الاصوات بدل المعنى(3).
لكن لا بد من التأكيد ان مصطلح القصيدة التجريدية و استعمال مصطلح التجريد ظهر قبل استعماله في الفن (4)
في المقطوعة التجريدية تتلاشى التجنيسات الادبية ، لأنّ التجنيسات الادبية قائمة على خلفية اللغة، و المقطوعة التجريدية تتخلى عن كل ذلك. لذلك فكل ما يراه القارئ و يسمعه و يدركه هو مقطوعة تجريدية (5).
التجريدية هي شعور تجريدي بالاشياء و نفوذ عميق الى جوهرها النقي المجرد و في المعاني و الكلمات هو ادراك العمق الشعوري و الاحساسي فيها و لا يتعارض هذا ابدا مع عذوبتها و قربها الرمزي كما اثبتته الكتابات الشعرية السردية مابعد الحداثوية في تجريدياتها (6).
اذا ما علمنا ان فلسفة التجريد في الابداع الانساني هو النفوذ عميقا الى حقائق الاشياء و الاتجاه و بقوة نحو الكلي فيها و تجاوز الشخوصية و الجزئية ، حينها نعلم ان الرمزية المتعالية و الهذيانية انما كانت محاولة في التجريد و ليست هي التجريد بالضرورة . يقول كولنز ( ان الأدب العام يظهر التجريديين التعبيريين بانهم بدائيون بوهيميون و مهاجرون فائقو الذكاء هجروا مجتمعا ماديا و لا عاطفي ) (7).
ما هو مطلوب فعلا في التجريد هو الوصول الى تعبيرية العناصر الاساسية للمكونات الابداعية ، و ادراك ذلك العمق التعبيري لها ، يقول كاندنسكي ( من بين جميع الفنون فان التجريدية اصعبها انها تتطلب ان تكون رساما جيدا و عالي الحساسية و الادراك بالالوان و التراكيب و ان تكون شاعرا حقيقا . و الشرط الاخير اساسي ) (8).
اذا ما كان ذلك يسيرا في اللون و الصوت لانها مجانية بطبيعة حالها فان ذلك صعب جدا في الكلمات لان الوظيفية مترسخة فيها في الوعي ، لذلك لجأت المحاولات الحداثية في التجريد الى الرمزية المتعالية و التعدد التأويلي و الى التشظي التعبيري ، و الابهام و الانغلاق . ان العمق اللامجانيللمعاني و الكلمات جعل المحاولة الحداثية في التجريد تعتمد على الرمزية و الهذيانية و النص متعدد التاويلات و الانغلاقية ،. و صار من اشكال التجريدية الحداثية المعروفة الرمزية التجردية و التجاورية التجريدية ، لكن قد عرفت ان ذلك ليس واجبا لاجلالتجريد فضلا عن ان يكون هو التجريد في الكتابة . و قد حاول النقد تبرير كل هذا حتى وصل الى اللامعنى و الهذيان . و حينها ارتكبت الحداثة اكبر خسارة انسانية بايصال النص الى تلك المراحل من الجفاف و الجفوة و الخواء ، بينما نصوص ما بعد الحداثة المتعمقة في الانسانية و الهم الانساني فانها فهمت التعبيرية و التجريدية كفلسفة و نظام لا يجب ان يتعارض مع روح الادب و رسالته ، فالتعبيرية ليست انغلاقا بل عطاء و التجريدية ليست تاويلية و رمزية مغلقة بل عذوبة و نفوذا في النفس .
ان الميزة الاهم و الخاصية المميزة للكتابة التجريدية او العمل الفني التجريدي عموما هو الاعتماد على الثقل الشعوري و العمق الفكري و النفوذ في الوعي للعناصر الفنية ، بعيدا عن التشكل و التشخص ، فلا يرى المتلقي شخوصا و اشكالا بل ليس هناك سوى احاسيس و مشاعر منقولة عبر الاداة الابداعية من لون او صوت او كلمة . تقول فاسين تايلور التجريد في الشعلاهو التخلي عن التشكل معنوي و تمظهر الفكر بالاصوات و الاستعارات و الالوان (9).
و فيما يخص المعاني فان التجريدية تعمد الى تقليل الاعتماد على توصيلية الكلمات و منطقيتهاو وعيها الافادي و التفهيمي ، و في المقابل فانها تعتمد على ثقل الكلمات الشعوري و زخمها الاحساسي و طاقتها التعبيرية بذاته ، لذلك فان الاحساس و الشعور و العمق الفكري و لاجلتجلي هذه الامور بقوة في الكتابة التجريدية فانها تصل الى المتلقي قبل المعاني و قبل الفهم ، فيحس المتلقي و يدرك النظام الشعوري و الاحساسي قبل ان يدرك الافادات المعنوية و التفهيمية المركبة .
التجريدية ترتكز على استعمال اللغة و الالفاظ بشكل تعبيري غير معهود ، اي ليس لأجل نقل المعنى و توصيل الفكرة و الحكاية ، و انما لنقل الاحساس و الشعور ، و جعل المشاعر و الاحاسيس هي ما يتجلى بالالفاظ و ليس المعاني و المغزى ،فتكون الالفاظ و الجمل كالوان مجردة من دون تشكل محاكاتي اي بشكل الوان في لوحة تجريدية تعتمد في تأثيرها على الاحساس و الشعور و ليس المحاكاة و المعنى (10) .
اذن التجريدية في التعبير و اللغة هو استعمال اللغة في نقل الاحساس و الشعور و ليس الحكاية ، فتتخلى الالفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الاحساس المصاحب له كمركز للتعبير ، فيرى القارئ الاحاسيس و المشاعر المنقولة اكثر مما يرى المعاني .
و انطلاقا من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية لموضوعات الادب و عوالم الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية بلغة تعبيرية جزئية تشخصية ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و الرمزية المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية بلغة تعبيرية كلية تجريدية .
التجريدية الادبية و مستويات المعنى .
لقد كانت النزعة نحو عمق الأشياء في الكتابات الأدبية و غيرها حاضرة دوما على مدى العصور ، الا انّها و بفعل عوامل كثيرة منها الشعور المتنامي بلاتناهي علم الخالق للعالم ، صار النهج التأملي يتوسع في الاوساط الفكرية ، حتى اننا يمكن ان نقول انّ الكتابة اليوم اصبحت أطروحة و فكرة ، أكثر من كونها وصفا و تعبيرا محضا. هذا التطور في فهم التعبير و الكتابة كان له تأثيره على لغتها ، فصارت الرمزية و التعبيرية الوجه الراسخ في كل عمل يبتغي النضج و الجدية ، بل صار ذلك من مقومات الكتابة الفنية في جميع الاجناس الأدبية وهذا من الواضحات .
و في حركة تفاعلية بين الأدائية الرمزية و التعبيرية و بين القصد الواعي و اللاواعي للعمق ، انتقلت الكتابة و حسب ما لدينا من تصورات في جانب مهمّ منها من حالة الحكاية عن عوالم المعنى الى حالة الانكشاف و التجسيد لها ، فصارت الكتابة وخصوصا الشعرية و كأنّها تنبعث من العمق و تنطلق من عوالم المعنى ، و كأنّ ما يتجسد أمام القارئ ليس أنظمة لفظية معبّرة و انما حقول معنوية و شعورية متجسدة ، و في خطوة أكثر اتساعا و تفردا ، صار طلب الكتابة و قصدها الحقيقي هو البحث عن أصول الاحساس و صوره العميقة و تشكلاته الكلية الخالصة في مجالات الفكر و المعنى (11).
من هنا يمكننا القول أنه قد أصبح لدينا في عالم الكتابة الوجود العميق و المتجه عن الكليات و الانتزاعيات و الاعماق للمعاني و الاحاسيس ، و في قبالها نماذج من التعبيرية البسيطة المسطّحة المنتمية الى أجيال سابقة ، و لربما نرى بشكل ملموس بوادر عصر جديدة من الكتابة له اصوله في زمن الحداثة هو انّ الكتابة عملية تفكير و رؤية ، و ليس مجرد وصف و حكاية و انفعال . بمعنى اخر يمكننا التمييز بين الكتابة الانفعالية التي تحتفي بالاشياء و بالشعور تجاهها ، و بين الكتابة الرؤيويةالتي تقدم فهما جديدا و متفردا تجاه الاشياء و المعاني ، متجهة نحو الوجودات الخالصة و الكلية ، المجردة للمفاهيم و المعاني و الاحاسيس ، كتابة تتجه نحو الثابت و الراسخ و الكلي من صور الجمال و الاحساس .
بينما نجد التجربة التجريدية ناضجة و واضحة المعالم في الفن التشكيلي ، فانها لا زالت ضبيابية في الأدب ، ففي الويكيبيديا ( بتصرف ) مصطلح التعبيرية التجريدية في الأدب فضفاض على الرغم من دقته النسبية في الفن التشكيلي، و ليس هناكتعاقب معترف به لتلك النزعة أومدرسة محددة، . ومن المبادئالأولى لتلك النزعة أن التعبيريحدد الشكل، ويحدد بناءالصور وتركيب الجمل. وهكذايمكن تحوير وفك أوصال أيقاعدة شكلية أو عنصر منعناصر الكتابة لتلائم هدفالتعبير. وفي الشعر هناك نطاق واسع لما يعرف بتقنيات التعبيرية من الاعتماد على التأثيرات الصوتية واللونية، وعلى تراسل الحواس حيث لا يكون المعنى هو الأساس(12)
ويعد التجريد عملية حاسمة، تساعد على الانتقال من المستوى الحسّي التراكمي، ومن التعامل مع خليط الخبرة، وتداخل عناصرها ومكوناتها (حسّية، حركية، إدراكية، مشخّصة، مجرّدة، وغير ذلك) إلى المستوى المعرفي النظري، القائم على إدراك ما هو مشترك بين أنواع الخبرة هذه، أي المستوى الذي يشتمل من حيث التكوين والبناء على مفهومات ومبادئ وقواعد وقوانين ونظريات. و تقول كريستين زيباس (بينما كان بولاك يتبنى الاشارة الرمزية والفعل فأن الاعمال الرئيسية لروثكو كانت تجريدية خالصة، كتل رقيقة من الالوان كانت تطفو في لوحاته مثل الغيوم في مشهد سماوي يكاد يردد اصداء الكثافة، ومن جانب اخر كان كوننك يعتبر المنافس الرئيسي ل بولاك، قدرته على تناول الموضوعات سواء كان منظر طبيعي او موديل والتعامل معه باحساس هائل ورائع من الحرية البدائية، كانت تثير انطباعات عميقة، تتراوح بين الصدمة النقية القوية وبين العرض الجمالي يتوازنان في شكل تجريدي مذهل ( بتصرفعن ترجمة لجريدة الاتحاد كريستين زيباس ، التعبيرية التجريدية في فن الرسم الامريكي مجلة ايزنيارتكالس (13 )
.و يقول محمد عادل زكي التجريد او “العلو بالظاهرة عن كل ما هو ثانوى” بالفرعيات والأمور الثانوية تأتى فى المرتبة الثانية بعد الاستيعاب العميق للأصول الجوهرية. كتب د. مرادوهبة:” التجريد لغة هو التعرية، وسل السيف من غمده، ونزع الأغصان من الشجرة. وفى اللغات الأفرنجية اللفظ مأخوذ من الفعل اللاتينى ويعنى الانتزاع وهو المعنى الوارد عند ابن سينا، حيث يقول إنتزاعالنفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها”. أما فىالمعجم الفلسفى الذى أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد جاء فيه :” التجريد سيكولوجياً: عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً وقصر الاعتبار عليها. والذهن من شأنه التجريد لأنه لا يحيط بالواقع كله ولا يدرى منه إلا أجزاء معينة فىوقت واحد، وتسوقه التجربة أيضاً إلى التجريد لأنها تعرض له الواقع مجزءاً أو تظهره على صفة ما. وفى المنطق الصورى: عملية ذهنية يسير فيها الذهن من الجزئيات والأفراد إلى الكليات والأصناف. وعند المتصوفة: إماطة الأغيار والأعيان عن السر والقلب، فتنكشف الحجب ويكون الاتصال” (14).
و يقول نوري الراوي : لقد بقي الفنان الحديث، زمنا طويلا، وهو في حالة من الاندهاش في هذا العالم الغريب الذي لابد له في اختياره، مثلما ظل يحمل خوفه الغامض من المجهول والمحتجب والآتي من الغيب دون تحديد لبواعثه ومأتيه ودونما جواب لما سيؤول اليه، وهكذا، عمد في مقابل هذه الحالة الى البحث عن “العالم البديل ” ضمن اشتراطات حسية – شكلية – فكرية – رمزية، شعرية، تجري وفق مناهجها وقيمها التي تعتمد بالدرجة الأولى على الانطباعات البصرية الدائمة التردد، مثلما تعتمد على رواسب اللاوعي والذاكرة الملغزة. وهكذا تحولت الرؤية الفنية الى ما يمكن أن يوصف بـ(الرمزية التجريدية) التي تتميز عادة بقوة حدس عالية تتصل أساسا بالبواعث الغريزية العميقة لحفظ النوع، وهذا الاتجاه الرؤيوي في مجمله، يؤلف ما يشبه الحصانة إزاء القلق والعذاب اللذين يعانيهما الفنان في عصر مضطرب، كما يؤدي الى احتياز الصور الذهنية الثابتة والمتغيرة عن العالم، بما في ذلك، المدركات الحسية له(15).
ان الشعر التجريدي او التجريدية الأدبية و انطلاقا من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية لموضوعات الادب و عوالم الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية بلغة تعبيرية جزئية تشخصية ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و الرمزية المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية بلغة تعبيرية كلية تجريدية. لكن و بشكل واضح يمكن تلمّس مفاهيم و عناصر موحدة لفكرة التجريد عامة شاملة للأدب و غيره ، ففي الموسوعة العربية : التجريد abstraction، هو عملية الفصل بين ما هو رئيس، وما هو ثانوي عارض ومتغير(16).
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
انّ من الامور التي حصل فيها شيء من الابتعاد هو اعتبار الكتابة نظاما زمانيا و هذا شيء لا يمكن المساعدة عليه ، بل الكتابة كما الرسم نظام مكاني ، بل جميع الامور الحياتية تنتهي الى المكان حتى الزمن نفسه و الزمنيات المحضة، لحقيقة واضحة ان جميع ذلك ينتهي في عملية الادراك الى التصوّر ، و التصوّر منتزع مكاني في جميع احواله و ان كان بمقدمات زمانية ، فالتمييز بين السمعي و البصري ان اريد به الزماني قبال المكاني انما هو تمييز بما هو قريب و ظاهر و ليس بما هو عميق و حقيقي . الالوان و المفردات ، بمكوناتها الظاهرية الفيزيائية السمعية و البصرية ، تخضع لعمية انتزاع تصوري ، فلا يتعامل في الحقيقة الا مع ما هو ذهني منها ، و انظمتها في العقل ، لها مجالات واضحة منها مجال قريب تشكلي تشخصي تحضر يه الشخوص و الاشكال الطبيعية ، و تكون المفردات و الألوان مجرد وسائل للتعرف على تلك الاشكال ، و الاعمال الابداعية بما هي خطابات قبل التجريدية كانت تسبح في هذا الفلك حتى في التعبيرية الاصطلاحية فانها انما عكست الصورة الداخلية للمحكي و لم تتجاوز مجال الحكاية هذا . خلف هذا المستوى في جهة العمق هناك مجال معنوي اخر للمفردات و الالوان تكون في وجودات حرّة خالصة ، في تشكلات هي انعكاسات مجردة لمجال التشكل و التشخص ، هذا المجال الخالص يفتقر الى التشكل و التشخص و انما هو وجود مجرد تعبيري للمفردات و الالوان و انظمة و علاقات فيما بينها بوجودها الخالص . وحلف هذا سكون عالم الجوهري و الوحدة العريضة
اذن بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف لغة الشعر بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .
التعبيرية و التجريدية في الكتابة
بعد استقصاء و استقراء طويل و دقيق للكتابات الأدبية تبين لنا و بوضوح ان الميزة المهمة التي تميز الكتابة الادبية عن الكتابة العادية هي ( التعبيرية و التجريدية) في استعمال الوحدات الكلامية و الكتابية. (17)
ان الانسان في الكلام و الكتابة العادية التقريرية يستعمل الوحدات الكلامية كوسائل توصيلية لافكاره من دون اعتناء بجمالية الكلام وانما يكون الاعتناء بدقة التوصيل، فيكون هناك ميل تجاه دقة التوصيل على حساب جمالية الكلام، ثم يرتقي الى مستوى اعلى فيجمع بين دقة التوصيل و جمالية الكلام وهذا هو الكلام البلاغي وهو ادبي الا انه يحافظ على توصيلية اللغة، ثم يرتقي الى مستوى اعلى وهو الاستعمال الادبي الفني و الذي يميل بشكل كبير نحو جمالية الكلام و يكون ايصال الفكرة بوسائل اخرى غير توصيلية الوحدات الكلامية، تلك الطرق التي يوصل بها المبدع الادبي فكرته الى المتلقي عادة ما تكون جمالية غير تفهيمية.
ان هذه المركزية للبعد الجمالي في الكلام هو شكل من اشكل التجريد، أي تجريد الكلام عن غاياته التفهيمية التوصيلية، و حينما يكون هناك احضار و تجسيد لزخم شعوري و طغيان الرسالة الفردية و البعد النفسي الذاتي للمؤلف في النص يكون لدينا التعبيرية، و التي هي من اهم وسائل المؤلف لتجريد كلامه، و في الحقيقة التجريدية هي اعلى درجات التعبيرية. حيث يعتمد البوح على الكم الشعوري و ليس على الافادة المعنوية للكلام ( 18).
ان التعبيرية هي ذاتية و فردية خاصة في التعبير، فان التجريدية هي اقصى درجات تلك الذاتية و الفردية.
من هنا فالمقوم الجوهري و الحقيقي لادبية الادب الابداعي و جماليته هو التعبيرية، و نستطيع ان نقول ان هناك تعبيرا كلاميا توصيليا تفهيميا و هناك تعبير كلامي جمالي تجريدية تعبيري. فالتعبيرية تقابل التوصيلية و التجريدية تقابل التفهيمية، و من الكلام ما لا يكون تعبيريا و ان كان معبرا عن الافكار و ملازم للتعبير. وهنا حصل لبس عند البعض بان الكلام لا بد ان يكون معبرا و تعبيرا وهذا صحيح لان اصل وجود الكلام هو التعبير لكن ما نقصده بالتعبيرية هو استعمال فردي خاص للكلام و الكلمات يكون هو المسؤول عن جماليته و تاثيريته و تعظيم طاقاته. و اعلى درجات تلك التاثيرية الفردية هي التجريد. فالتعبيرية نظام جمالي و وسيلة تاثيرية و بيانية تعتمد على عناصر غير توصيلية و غير معنوية. وان فكرة كون التعبيرية و التجريدية وسائل بيان هو تقدم مهم في فهم الفن و خطوة حقيقي نحو ادب مابعد الحداثة، اذ ان الحداثة تجعل التعبيرية و التجريدية في قبال البيان، و الامر ليس كذلك التعبيرية و التجريدية هي في قبال مركزية التفهيم و الدلالة و ليس في قبال البيان و الرسالة. فالادب التعبيرية و التجريدي له بيان عن افكر و رسالة الى المتلقي و ليس كما يدعي اهل الحداثة انها بلا رسالة و بلا بيان الا انها تكون بواسطة ادوات غير تفهيمية و غير دلالية ب بادوات جمالية شعورية احساسي فردية و خاصة.
ان التعبيرية في الادب قريبة جدا من التعبيرية في الفن التشكيلي ، و تعتمد الفلسفة نفسها و الافكار ذاتها ، الا ان صعوبة استيعاب الامر و صعوبة توضيحه في الكتابة ناتج عن حقيقة ان الكلام متقوم بالتعبير وان الكلام و الكتابة لا يمكن الا ان يكون معبرا، وهذا بخلاف الاشكال و الالوان في الرسم التي في اصلها غير معبرة، فبينما الرسم يمكنه ان يستعمل اللون و الشكل بشكل غير توصيلي و غير معبر فان الكلام لا يمكن ان يستعمل فيه الحرف الذي هو غير معبر و لا توصيلي ، و انما اصغر وحدة كلامية هي الكلمة وهي ذاتا معنى و معبرة دوما. من هنا فلا بد من التأكيد و بشكل حاسم ان البيان الكلامي قد يكون بشكل تفهيمي اعتمادا على المرجعية المعنوية و قد يكون بشكل تعبيري يعتمد على تفنن كلامي جمالي و تاثيري. وبعبارة مختصرة؛ ان التعبير الكلامي قد يكون توصيليا تفهيميا وقد يكون بيانيا تعبيريا و الاخير هو المقصود في ( التعبيرية) في الكتابة الادبية، و حينما يبلغ اعلى درجاته في الحضور الجمالي و الاحساسي يحصل التجريد. فالتجريدية درجة من درجات التعبيرية وهي اعلى درجاتها.(19)
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف اللغة التجريدية بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتهاالخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .(20).
هنا سنحاول ان نتناول الكتابة التجريدي في ابعادها المتعددة لاجل تقديم فهم نظري و عمل تطبيقي للشعر التجريدي معتمدين النقد الاسلوبي الكمّي و الاستقراء الكتابي.
انّ من أكثر الطرق مصداقية و واقعية في تقييم الكتابات الأدبية هو تتبع حالات تجلّي العناصر الفنية و الجمالية بأوسع ما يكون من الاحصاء و الاستقراء في المستويات المختلفة للكتابة . و لقد كانت لنا محاولة أولى في هذا المنهج الكمّي لدراسة الظاهرة الأدبية تناولنا فيها قصيدة نثر السردية الأفقية و تتبعنا مظاهر الادبية و عناصر الجمالية و الفنية فيها . و تجليات العناصر الأدبية و الفنية و الجمالية في ثلاث مستويات كتابية مستوى ما قبل النص و مستوى النص و مستوى ما بعد النص (21)
ان البحث في درجات تجلّي العناصر الفنية هو من النقد الكمّي ، وهو مدخل الى علم النقد ، و يعتمد على الاستقراء و الاحصاء ، و تتبع تجلي العنصر الفني الظاهر في النص في كل وحدة تعبيرية و اهمها ( الاسنادات و الجمل ) ومعتمد على المعارف النصية العرفية الجليّة من دون ادعاء او تكلف او تجيز (22)
ان التقنيات الاسلوبية في الكتابة يمكن احصاؤها و استقراؤها بجلاء و وضوح مما يمكّن من تحقيق حالة ( الكتابة الادبية العلمية ) بحيث ان هذه التقنيات تبلغ حدا من الضبط يمكّن من تحقيق اقصى درجات التوقع في انتاج اهدافها حتى لو كانت شعورية ، و تحقيق حالة التجريبية في الأدب .(23)
لقد بلغ التباين الذوقي و التقييمي و الرؤيوي للاعمال الادبية و الفنية عموما حدا ما عاد معه بالامكانالعثور على معايير فنية و جمالية موحدة ، نحن لا نتحدث هنا عن عامة المتلقين و انما نتحدث عن المهتمين و الدارسين للفنون . ان الاجيالية و المدرسية لا تقدم تبريرا جيدا لهذا التشظي ، و الذي بلغ حد الفوضى احيانا .
ان الخطر في هكذا وضع يكمن في حالة عدم تبين المظاهر الجمالية للفنون ، بحيث يحصل خلط و يصير الاعتماد في التقييم على اجتهادات فردية و ميول نفسية قد لا تمت للواقع الجمالي بصلة ،و قد يحصل اخفاق في تعيين الجميل و الابداعي و تمييزه عن غيره .
ان الحل الحقيقي لهكذا معضلة هو بلوغ النقد درجة من العلمية ، و الكف عن النزول من النظرية الى المصاديق ، و استبدال ذلك بنقد تطبيقي استقرائي ينطلق من الاعمال و المصاديق ، و من خلال ذلك يتم تكوين القواعد و القوانين في عملية ادراك و تشخيص المظاهر الفنية و الجمالية . ان الدعوة الى علم نقد استقرائي لها مبرراتها الكافية و الجوهرية ، كما ان ادخال الاستقرائية في النقد الفني هو ضرورة ملحة في ظل الاتساع الكبير لمجال الابداع ، و حقيقية معيارية الاستقراء لما يبدو ظاهرا ان الفن هو ظاهر انسانية و ليس انجازا تجاوبيا مع الخارج.
ان النقد الاستقرائي يتخلى بالكلية عن فكرة التسليم للعنصر الجمالي المدعى و اعتباره معيارا ، و يكون مستنده الحقيقي معارف استقرائية لا تقبل الخطا ولا الابتعاد عن الواقع (24).
ان فكرة النقد الاستقرائي تنطلق من الايمان بالمبدع ، فانه يتعامل مع العمل الفني كظاهرة و ليس انجازا يسعى نحو تحقيق فرضيات و نظريات و افكار ، و يتعامل مع العمل الفني كظاهرة انسانية و ما يتحقق به من جماليانت كظواهر انسانية ، و انجازات مميزة معرفية و تطورية ، لا تتصف بالسكون بل بالتطور ، و لا يكون الدافع نحو مطالب فكرية وانتقادات تجديدية وانما يكون التطور طبيعي ناتج من ذات الاعمال .و انا نلاحظ ان التطورات التاريخية في الفن انما حصلت بانجازات عبقرية تجاوزت الموجود من نظريات و مطالب نقدية ، و ان السبب الحقيقي لتلكؤ الفن هو القيم و معاير فوقية تحضىبالتسليم و تعد هي العناصر الجمالية من دون استقراء او اثبت ، فبدل دفع الفن نحو تحقيق مطالب النقد ، و متابعهتا ، فان النقد الاستقرائي دعوة الى اتجاه معاكس ، يكون فيه النقد هو الملاحق و التابع للاعمال الفنية . و مسالة احراز المعرفة الحقائقية و عدم التوهم و التكلف و الادعاء تضمن بالاستقراء الذي يرتكز عليه هكذا نقد .
لا ريب ان الاستقراء هو المحور الحقيقي للمعارف العلمية ، و ان النظريات لا يمكن ان تتصف بالواقعية و المصداقية مال لم يكن لها وجود و تمثيل جزئي جيد في الخارج و المجال الواقعي للنظرية ، فلا يكفي الادعاء في مجال العلوم .
الية النقد الاستقرائي يمكن تحقيقها بصور متعددة ، و حسب ما هو معمول به في العلوم التطبيقية ، الا ان الاساس و الجوهر هو الاعتماد بالكلية على الاستقراء ، و الذي يعني محورية المصاديق و صفاتها و ما يستحصل منها من قواعد .
ان عملية الابداع عملية حرة ، و لا يمكن تكبيلها بفرضيات و نظريات ، تفرض و تعتبر مسلمة و اساسا للتذوق و المعرفة ، رغم انها لم تحظ باثبات و لا دليل غير الفرضية ، بمعنى اخر ان النقد ما لم يعتمد على الاستقراء فان معارفه تبقى معارف فرضية ، و هذا هو السبب الحقيقي في التغيرات السريعة في القيم الجمالية و المتطلبات الابداعية في النقد الفني ، اما لو اعتمد الاستقرار بحيث لا يتم التسليم للفريضة الا باثباتمصداقيتها من خلال الاستقراء ، فانه سيكون لدينا مجال حقائقي يتصف بدرجة عالية من الواقعية .
يكون دائما التعامل مع الاعمال الادبية مهما كان حجمها و عددها بكونها ظواهر ، و العناصر الجمالية تعامل كظواهر لا يتم الاذعان لاي معرفة عنها الا بمصدق استقرائي (25).
ربما يمكننا القول – في وقتنا هذا و بفضل الارث النقدي الكبير الذي انتج خلال العقود الاخير – بوجوب ظهور النقد الادبي العربي بمظاهر تطبيقية ثابتة ، بمعنى ان تكون الابحاث النقدية ذات شكل علمي ثابت وغير خاضع للفردية ، يقول ( وندل هارز 1990) ( النقد ليس موضة ، ولقد ابدل بنظريات ادبية في معظم الجامعات ، الادب الذي يكتب صار يركز على نماذج ثابتة . (26) و لا يحتاج هكذا امر مهم الا لخطوة الى الامام في اجراء مراجعة و فحص و تصنيف و تدقيق لما انتج من نقد ، يقول ( احمد علي محمد 2007 ) ( إن الممارسات النقدية التحليلية أو التطبيقية لا تزال في كثير من الأحيان أسيرة المناهج الغربية من نفسانية و بنيوية و تفكيكية ، إذ أمضينا وقتاً طويلاً و نحن عاكفون على مدارسة النصوص الأدبية و لا سيما القديمة منها بإحدى طريقتين : إما الاعتماد على مفرزات النقد الغربي ، و إما تقديم قراءات ذوقية متحللة من أي تحديد منهجي ، و الواقع أن تلك الممارسات لا ينقصها سوى المراجعة العقلية الفاحصة ، و قد آن الأوان لإجراء مثل تلك المراجعة ، بمعنى لا بد من تقويم تلك الممارسات لبيان محصولها الفني و الفكري (27,28). هكذا مراجعة تجعل من نقد النقد ضرورة ملحة لأجل تطوير النظرية الادبية و ليس امرا تكميليا كما قد يعتقد .
لقد بات واضحا رجوع الاستجابة الجمالية الى انظمة و مكونات شعورية و فسلجيةموحدة لدى البشر رغم الاختلاف و التنوع الكبير في الاشياء الجميلة ، و يمكن فهم العملية فسلجيا بتكون عملية التذوق من عناصر حسية و عناصر ذهنية تتفاعل في مستوى تحليلي اعلى في مركز للتذوق في الدماغ ، ومن هنا يمكن فهم عملية التذوق الحسي للاطعمة على انها جزء من نظام او جهاز تذوق عام يشمل عملية تذوق للحسيات و الذهنيات .يقول ( ماجد محمد حسن 2004 ) ( أن التجربة الأساسية في مجال الجمال هي التجربة الحسية، لذلك يرى البعض أن الإدراك الجمالي هو في جوهره حدس، وليس تصوراً، وتقوم طبيعة الحساسية على بعد الاستقبال، بمعنى أن الإدراك الجمالي يحدث نتيجة للأثر الواقع على الحواس من قبل الموضوعات المعطاة (29) .