بقلم: د قاسم المحبشي( اليمن)
كتب لي في الواتساب؛ اصدقائي هم رأسمالي
الـحقيقي الذي اعتز واتشرف به ما حييت وقد حرصت على الاحتفاظ بهم في ديواني هذا الذي يحملهم فيما يشبه الوفاء والمودة. أنه استاذ الطب الاجتماعي في جامعة الأحفاد بالسودان الأكاديمي المثقف دكتور نزار محمد عبده غانم ابن مدينة عدن الـحبيبة. كان والده الدكتور محمد عبده غانم أول دكتور متخصص في الأدب والترجمة الإنجليزية في الجزيرة العربية منذ ستينيات القرن الماضي. كنت أسمع عنه حينما كان استاذنا في كلية الـطب بصنعاء إذ ذاع صيته بوصفه أول شخص في اليمن يؤسس عيادة مجانبة للمبدعين من المشتغلين في كل مجالات الفنون الإبداعية من النوع الاجتماعي.
إذ أنشاء بجهوده الذاتية عدد من العيادات المجانية في صنعاء وعدن وحضرموت وتعز وذمار وغيرها. بعد سقوط دولة الجمهورية في صنعاء عام 2015غادرها إلى الخرطوم الذي سبق وان عاش مع والده في أحضانها منذ سبيعينيات القرن الماضي إذ هرب والده من العنف الثوري المنظم في عدن واستقر به المقام في جامعة الخرطوم استاذنا للأدب والنقد وحينما زار الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي السودان في ذلك الزمان طلب من الدكتور غانم والد نزار العودة إلى صنعاء ومنحه الأقامة والامان استاذا في جامعة صنعاء. حينما زرت السودان عام 2018م كان اسم الدكتور نزار غانم أكثر اسم معروف في الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية السودانية بوصفها مؤلف كتاب جسر الوجدان بين اليمن والسودان ومؤسس المدرسة السومانية في الثقافة العربية المعاصرة. هناك في أم درمان العرضي التقينا وتحدثنا وتعارفنا ومنذ ذلك الحين صرنا اصدقاء وقد وجدته يعتبر الصداقة أهم وأغلى من كنوز الدنيا وطالما حدثني عن أصدقاءه وأصدقاء والده الذين يعتز بهم وكتاباتهم واسماءهم. وحينما قرأت كتاب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عن الرأسمال الثقافي ادركت المعنى العميق لرسالة صديقي الدكتور نزار غانم رائد السومانية في السودان واليمن. والرأسمال الثقافي بحسب بوردو هو مجموع المنابت والينابيع والمصادر الثقافية التي ينهل منها الفرد وتتوزع الى العادات والتقاليد والأعراف والسرديات والأساطير والرمز والدين والفنون. كما يفيد جملة المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في الفرد ويتم مراكمتها عبر الزمن وتمريرها من شخص الى آخر عن طريق المحاكاة والمشاركة والتقليد ويمكن كذلك نقلها من جيل الى آخر عبر آلية اعادة الانتاج واحترام النفوذ. بناء على ذلك ان الرأسمال الثقافي يحصل عليه المرء بعد مراكمة للتجارب المتنوعة ومثابرة في العمل ويعطيه نوعا من الامتيازات في المجتمع ويتوزع الرأسمال الثقافي الى ثلاثة عناصر هي شكل متسجد في الهابيتوس الثقافي وتكمن وظيفته في جعل الانسان كائنا اجتماعيا ومشاركا في الفضاء العام، وشكل مموضع في مستوى ثان يتكون من منافع ثقافية وخيرات رمزية مثل الكتب والآثار الفنية والأدوات الرقمية وتتمثل مهمتها في حزن وحفظ العناصر الثقافية، وشكل مؤسساتي في مقام ثالث ويتمثل في العناوين المدرسية والمتاحف والمكتبات ودور الثقافة والمسرح والسينما وتتمثل مهمته في عرضه للمنتوجات الثقافية للفرجة والتقبل والتداول التوزيع والاستعراض والاستهلاك وبالتالي تتحول هذه المؤسسات الى سوق ثقافي. هكذا يقوم بيير بورديو بتعريف الطبقة الاجتماعية وتمايزها عن غيرها وفق حجم وبنية الرأسمال الثقافي الذي تمتلكه، وبالتالي هناك طبقة اجتماعية تكون قادرة على امتلاك نظرية مجردة بينما تحوز طبقات شعبية أخرى على منتوجات متعينة ومعطيات تجريبية لا تدوم بل تنقضي بمجرد استهلاكها من قبل المتلقين.
لقد جعل بورديو من التمايز Distinction معيارا للنقد الاجتماعي لملكة الذوق وقام بعملية قلب لمقولات الجمال والفن والثقافة التي لم تخضع البتة الى المساءلة من قبل. وبيّن أن الجمال ليس مفهوما قبليا ولا غائية دون غاية وإنما الناس يذوقون من خلال خبراتهم الثقافية وتكوينهم العلمي والشهادة الأكاديمية الحائزين عليها وبالاعتماد على موقعهم الطبقي في المجتمع الذي ينتمون اليه. غير أن المفارقة تظهر حينما لا يتناسب الرأسمال الثقافي للطبقة المهيمنة مع الرأسمال الاقتصادي الذي تمتلكه فهو أقل بكثير وفي حالات نادرة أكبر بكثير ويرجع ذلك الى اضطراب نظام التعليم وخلل في المبادئ التوجيهية للفعل وتباين أنماط الحياة وتضارب المواقف والمصالح الايديولوجية للطبقات.هكذا ينظم التمايز الفاعلين الاجتماعيين داخل الفضاء الاجتماعي في اطار مواقع مختلفة من أجل لعب أدوار متكاملة تجعل من الهابيتوس يحافظ على جاهزيته ويحقق تماسك النسيج العمومي، كما يربط التحليل المعرفي للمجتمع بالنقد الاجتماعي للثقافة واستعمالاتها كوسائل للهيمنة والتحكم ويخضع التمييز بين الحسن والقبيح وبين الغالي والرخيص وبين اللامع والمتهرئ الى الموقع الاجتماعي والثقافي المدني.