الشاعر رضوان بن شيكار يستضيف الكاتب أحمد اللويزي في زاويته أسماء وأسئلة

أسماء وأسئلة : إعداد وتقديم : رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كلّ أسبوع، مع مبدع أو فنان أو فاعل في أحد المجالات الحيويّة، في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته، جديد إنتاجه، بعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصّة.
ضيف حلقة الأسبوع هو الكاتب والمترجم أحمد الويزي:
1. كيف تعرّف نفسك للقرّاء في سطرين؟
أنا كائن صنعته الكتب. قارئ مشدود بخيط النّهم المعرفيّ الى المزيد. وكلّما قرأت شيئا رائعا وممتعا ومفيدا، أدركتُ بأنّ الحياة يمكنها أن تعاش، على الرّغم من قبحها ودمامتها وآلامها.
2. ماذا تقرأ الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟
أقرأ الآن، رواية “الخميس العذب” للكاتب الأمريكي دجون اشْتاينبيك بالفرنسيّة. أمّا أجمل ما قرأته فكثير وكثير، سواء في الرّواية العربيّة أو العالميّة. إلاّ أنّ أمتع ما بقي بالذاكرة الى الآن، فنصوص الكاتبين الاسبّانيّيْن الكبيريْن: Miguel Delibes M يعويل ضيليبيس وخوسيه لويس سامْپّيدرو J. L.Sampedro.
3 متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتب؟
بدأتُ الكتابة في سنّ المراهقة، وكانت شعريّة ونثريّة. أمّا لماذا أكتب، فلا أستطيع إجابتك على النّحو الدّقيق… ربّما لأنّي لا أقوى على أن أكون غير ما أنا عليه الآن/هنا: بمعنى أنّي لا أستطيع الخروج من جلدتي، لأعيش حياة أخرى ليس فيها كتابة، ولا حتى قراءة. فهل الكتابة بهذا المعنى، لصيقة بالإيهاب؟ ! ربّما في هذا بعض المبالغة، رغم أنّي أقصد بالإيهاب بعدَه الرّمزي الاستعاري!
4. ما هي المدينة التي تسكنك، ويجتاحك الحنين إلى التّسكع في أزقتها، وبين دروبها؟
لقد قُيّض لي بالفعل، أن أعيش لفترات طويلة ومختلفة، سواء في طفولتي أو شبابي أو حتّى كهولتي، بين عدّة مدن يطبعها التّنوع والاختلاف، سواء في بيئاتها الطّبيعيّة، أو عادات أهاليها ولهجاتهم؛ إلاّ أنّ مراكش تبقى هي الأقرب الى القلب، لأنّها المدينة التي سكنت وجداني، وطبعت لساني، وغذّت مخيّلتي. ولا أخفيك أنّي ما زلتُ الى الآن، أقوم بطقس التّسكع بين دروبها وأزقّتها العتيقة بين الحين والحين، حتّى أشبع حاجة نفسيّة ما تنفكّ تكبر باستمرار، رغم أنّي لم أعد بعيدا عنها مثلما كنت سابقا!
5. هل أنت راض على إنتاجاتك؟ وما هي أعمالك المقبلة؟
مسألة الرضى هي مسألة نسبيّة. فالكاتب لا يتقدّم بمسودّاته الى المطبعة إلا إذا كان راضيا عنها بدرجة من الدّرجات، لكنّه ما إن يعود الى ما أصدره بعد مضيّ مدّة زمنيّة، حتّى يتبيّن له بأنّ ثمّة أشياأ فاتته. وبالتّالي، فالكتاب الذي يمكن أن نرضى عنه، هو ذلك الذي نحلم دوما بإنجازه، ونأمل في كتابته. أمّا عملي المقبل فعبارة عن نصّ روائيّ، بدأت كتابته منذ ما يربو عن سنة ونصف، وقد خصّصته لمرّاكش. رواية تقدّم مرّاكش بصيغة المؤنّث، وليس كما هي معروفة عند الكلّ فقط، برجالاتها السّبعة!
6. متى ستحرق أوراقك الإبداعية، وتعتزل الكتابة؟
لا أعتقد بأنّي سأعتزل. وقد سبق لي أن قلت إنّ الكتابة عندي، لصيقة بالإيهاب. وكلّما ابتعدت عنها لفترة معينة، يحدث لي أن أنبري لمراودتها ذهنيّا، فأكتب فقرات تلو فقرات دون قلم ولا ورقة، حتّى ولو كنت بين آخرين. وكثيرة هي النّصوص التي كتبت بداياتها ذهنيّا!
7 . ما هو العمل الذي تمنّيت أن تكون كاتبه؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
ليس هناك عمل واحد ووحيد فقط، ممّا تمنّيتُ كتابته. ثمّة نصوص نصيصة أذهلتني وأمتعتني، فتمنّيتُ لو كنتُ صاحبها، مثل النّوڤيلاّ الرّائعة التي كتبها الأديب الصّربي برانمير شيبّانوفيتش: فمٌ يملؤه التّراب. إنّها نصّ مدهش، يختزل الوضع البشريّ برمّته، بمجموع تعقيداته وثقله الأنطولوجي، في صفحات مكتوبة بأسلوب محكم، بقدر ما فيه من التّشويق والخفّة، بقدر ما فيه من القوة والعمق والحكمة. وللإشارة، فقد سبق لي خلال السّنة الفارطة، أن ترجمت هذا النّص، وصدر عن دار أثر بالسّعودية… أمّا طقسي الخاصّ في الكتابة، فهو اعتزالي النّاس في مكتبتي صبيحة كلّ يوم، والاختلاء بذاتي لساعات طويلة، في صمت تامّ لا يشوشّ عليه سوى النّقر على لوحة الحاسوب، وزقرقة طيور شاردة تمضي بجوار البيت. أمّا المساء واللّيل فأخصّصهما للقراءة…
8. هل للمبدع والمثقف دور فعلي مؤثر في المنظومة الاجتماعيّة، التي يعيش فيها ويتفاعل معها، أم هو مجرد مغرد خارج السّرب؟
هذا سؤال مركّب وصعب للغاية، يحتاج في الحقيقة الى خبرة سوسيولوجيّة، والى مراس في التّنقيب والتّحقيق والبحث الميداني، للإجابة عنه. لذلك، اعذرني إذا قلت بإنّي عاجز تماما عن الإجابة الشّافية والكافيّة عنه، أولا لأنّي لا أعرف ما المقصود من وراء استعمال مفهوم “المبدع”، ولا ما صار يعنيه “المثقّف” عندنا، عربيّا ولا على المستوى المغربيّ بالذات؛ بصرف النّظر عن التّعريفات الجاهزة والمتداولة للمفهوميّن، التي يمكن أن تنطبق على المجتمعات الغربيّة، أكثر ممّا تنطبق على مجتمعاتنا!… ثمّ لأنّي لا أعرف ماذا تقصد بـ”المنظومة الاجتماعيّة”. فهل هي المجتمع؟ أم جزء منه؟ أم فئة اجتماعيّة محدّدة؟ أم شيء آخر؟،،، الخ.
9. ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية، وربّما حريّة أقلّ؟ وهل العزلة قيدٌ أم حرّية بالنّسبة للكاتب؟
العيش في عزلة إجباريّة وبحرّية أقل، يعني لي ء وربّما يعني لغيري أيضا إجباريّة العيش في المجتمع. فمن البديهي أن يعيش المرء عزلته في المجتمع، وهي العزلة التي تكون إجباريّة لدواعي العيش المشترك. ففي كنف أسرة واحدة ء حتى لا أتحدّث عن السّكن في عمارة كاملة، ولا عن حيّ واحد، أو مدينة برمّتها ء يعيش المرء عزلته، ويتحمّل قدره بمفرده. وبهذا المعنى، فالعزلة هي قدرنا، الذي علينا التّصرف فيه بكيفية تمنحنا الفرصة للتّخفف منه، ومن وطأته. ومن هنا، أعتبر الإبداع بمثابة تصرّف نسبيّ في الحرّية الفرديّة، ضمن نطاق هذه العزلة المفروضة من المجتمع. إنّ الإبداع كُوَة نطلّ منها، ونحاول الانفلات من بين دائرتها، حتّى نلتقي بآخرين يشبهوننا. وبذلك، نتواصل مع هؤلاء بالإبداع، حتى ولو كانوا بعيدين عنّا، أو صاروا بعد الموت رميما. فحين تقرأ مثلا ما أبدعه سينيكا، أوڤيد، المتنبّي، دوستويفسكي أو غيره، تشعر بأنّك لم تعد لوحدك، وأنّ عزلتك في المكان والزّمان واللّسان قد تقلّصت، وخفّت الى أبعد حدّ. بهذا أفهم العزلة والحرّية، أنا على الأقل.
10. شخصية من الماضي ترغب في لقائها، ولماذا؟
هناك مثلا أبو العلاء المعرّي الشّاعر العربّي الكبير، والأديب المختلف. كم أودّ لو أنّي تعرّفتُ إليه، وتعلّمتُ منه كيف استطاع أن يخفّف أكثر عن نفسه، ويمانع ثقل عزلته الثلاثيّة المركّبة! وهناك أيضا أبو حيّان التّوحيدي أديب الفلاسفة، الذي أودّ لو أنّ الظّروف سمحت لي بالتّعرف إليه، حتى أتعلّم منه كيف استطاع أن يكون قويّا، وهو يواجه أساليب التّهميش والإقصاء كافّة في مجتمعه، ويتحايل على وطأة الغربة المفروضة عليه من الخارج، ليخلّف نصوصا مكتوبة بنثر بالغ الجمال!
11. ماذا كنت ستغيّر في حياتك، لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد، ولماذا؟
لو أتيحت لي فرصة البدء مجدّدا، لدرستُ بالفرنسيّة والانجليزيّة دراسة عميقة، لغةً وأدبا، وكتبتُ بهما. لا لأنّ نطاق المقروئيّة أوسع فقط من دائرة العربيّة، وهذه حقيقة موضوعيّة تفرض نفسها على المرء فرضا؛ وإنّما لرغبتي في تقديم صيغة إبداعيّة مختلفة عمّا هو مألوف عنّا في الغرب. كم أودّ لو أن الظّروف سمحت لي بالانضمام الى مجموعة مجلة “أنفاس Souffles “، التي كان لها الفضل في تقديم أدب لا يهادن، بلغة الآخر!
12. ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذّكريات أم الفراغ؟
تبقى الذّكريات! لأنّ الإنسان لا يستطيع التّخلص من الذّاكرة ! حتى المرضى بالزهايمر لا يفقدون كلّ ما يؤثث الذّاكرة!
13. صياغة الأدب لا تأتي من فراغ، بل لا بد من وجود محركات مكانيّة وزمانيّة. حدّثنا عن روايتك “نكاية في هراقليطس”.كيف كتبت وفي أيّ ظرف؟
“نكاية في هيراقليطس” سيرة ذاتيّة روائيّة، كتبتها في فترة الحجر الصّحي الضّاغطة، نكاية في الكوفيد القاتل! إنّها سيرة استرجعت فيها فصولا شاردة من مدونة صباي وطفولتي ومراهقتي، وسبحتُ ء وأنا أسترجع كلّ ذلك في نهر الزّمن مرّتين، نكاية في هيراقليطس! ففي طفولتي، عانيت الكثير من الفقر والمرض والألم، كما استمتعت بالقليل ممّا هو متاح لي أيضا. فقد عشت هذه الطّفولة المتقلقلة، وأنا طفل موزّع بين تارودانت، أگادير، الصّويرة، مرّاكش وأيت ملّول (ضواحي أگادير مرّة أخرى). وفي هذا التّوزع والاضطراب غير المستقرّ، عانيت الكثير من الرّجات والصّدمات، ناهيك عمّا عشته من مغامرات ثريّة. وكلّ هذا استرجعته في هذه السّيرة، التي توقّفت عند حدود مرحلة نيل الباكالوريا، وانفصالي عن مدار أيت ملول، للعودة الى مراكش الجامعيّة والقريبة من القلب.
14. ماجدوى هذه الكتابات الإبداعية؟ وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟
الإبداع عندي إضافة وإضاءة، نحتاج إليه لنغطّي على بساطة الوجود ببلاغة أقوى وأجمل، وحتى ننير بفضله زوايا وأركان معتمة في ذواتنا، أو بخارج ذواتنا. إنّه حياة/حيوات أخرى، نضيفها الى سيرة عيشنا البسيطة والفقيرة، التي نعيشها في عزلتنا ووحدتنا. ولذلك يقال إنّ المبدع يعيش دائما، أكثر من حياة. وأنا أضيف بأنّ القارئ نفسه (وكذلك متلقّي المؤلّف الفنّي عامّة)، على الرّغم من أنّه لا ينتج أيّ شيء، فإنّه يعيش مع ما يقرأه، أكثر من حياة. ولهذا بالذات، نحتاج الى هذه الإضافة والإضاءة الإبداعية في حياتنا.
15. هل يعيش الوطن داخل المبدع المغترب، أم يعيش هو بأحلامه داخل وطنه؟
بقدر ما تعيش الأوطان بداخلنا، بقدر ما نعيش بأحلامنا واستيهاماتنا داخل أوطاننا وحتى خارجها، إذا ما كُتب علينا الاغتراب. ووطن المبدع لا يختصَر أبدا في رقعة جغرافية، وحدود معلومة، وعلم، ولغة، ونشيد وطني، وفريق كرة القدم؛ وإنّما هو أكبر من ذلك وأوسع. إنّه التّاريخ واللّغات والخيالات المشتركة، إضافة الى الأحلام والآمال المشتركة، التي لا تعوق المبدع أبدا، في أن يكون كائنا كوكبيا كوسمبّوليتانيّا، يستطيع الانطلاق ممّا هو محلّي، ليصل الى العالمي؛ وهذا أعزّ ما يطلب!
16. كيف ترى تجربة النّشر في مواقع التّواصل الاجتماعي؟
أنا غير مقتنع بتجربة النّشر الالكتروني بالمرّة، حتّى ولو جرّبتها في بعض الأحيان. ربّما لأنّي تربّيتُ ضمن مجرّة گوتنبيرغ، التي تجعل الكتاب منطلقا ومنتهى. فالكتاب وسيط مطاوع، يرافقك في كل مكان وزمان، وتستطيع أن تكتب على حاشيته ما تريد، فتضيف الى متنه في كل لحظة وحين. لذلك، أفضّل النّشر الورقي دائما.
17. أجمل وأسوء ذكرى في حياتك؟
أجمل ذكرى في حياتي هي يوم تعرّفي الى رفيقة دربي: زوجتي وأم ولديّ وليد ووديع، حبيبتي فاطمة. أمّا أسوأ ذكرى هي يوم توفي والدي، ولم يكن بجيبي ما يسعفني كي أُكرمه في موته، بما يليق به. فقد ترافق موت والدي، مع مرحلة عسيرة من حياتي، لم أكن أتوفّر فيها ء أنا كبير العائلة والموظّف الوحيد فيها الى الآن ء على ما يستحقّه منّي الوالد للأسف الشّديد، في لحظة الوفاة.
18. كلمة أخيرة أو شيء ترغب في الحديث عنه؟
أريد فقط أن أشكرك سيدي رضوان العزيز، لأنّك أتحتَ لي بنبل كريم منك، فرصة سانحة لكي أتواصل مع صديقات وأصدقاء صفحتك المتميّزة، في هموم وشجون تخصّني، أتمنّى من صميم القلب ألاّ أخيب فيها الظنّ، سواء فيك أو فيّ أنا أيضا.

عن رضوان بن شيكار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!