عدت يوم أمس إلى الريف ، حين وطأت قدمي في أرضه ، أخذني إشتاق كبير لرحاب منزلنا الطني الكبير ، وسياج القصب الذي لميكن بينه وبين باب منزلنا سوى خطوات قصار ، وإلى البئر الذي طالما تسارعنا إليه أنا وأطفال حارتنا لنغسل أيدينا وأرجلنا حينننتهي من اللعب في التراب .. وصلت قرب منزلنا ، فلم أجد سياج القصب الذي كان يُحيط بمنزلنا ، ولم يكن منزلنا الطيني هو نفسه، لقد تغير وأصبح منزل مُعد بالإسمنت والياجور ، هذا التحول وقع منذ ستة عشر سنة ، لكن ما زالت ذاكرتي حين أكون عائدا إلىالريف تصور لي صورة المنزل الطيني وفناؤه الشاسع ، كأنه ما يزال هناك ..
وتصور لي أيضا ذكرياتي معه كشريط سنيمائي . فإذا أوَت الشمس إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفئت السُّرُج ، وهدأتالأصوات ، تأخذني أمي وتَعْدُو بي إلى زاوية في حجرة صغيرة ،فتنيمني على حصيرة قد بُسِط عليها لِحاف ، وتلقِي عليَّ لِحافًا آخر، فتعود أمي مسرعة لتأخذ أخوتي الأخرين الذين غلبهم النعاس في فناء المنزل ، وتضع كل واحد منهم في مكانه داخل الحجرةالصغيرة التي تجمعنا جميعا ..
كنت أستيقظ مبكراً مع تجاوب الدِّيَكة وتصايح الدجاج ، فأبقى متكئا حتى أسمع أزِيز المِرجَل يغلي على النار ، فأقوم لأغسل وجهيلأستعدّ للفطور ، لكي أذهب مع أخي الكبير للرعي ..
ننطلق مع شروق الشمس ونعود في غربها ، نمر عبر التلال والجبال نبحث عن هضبة ما يزالُ فيها العشب نابتا . فنترك الأغنامهناك تلتهم العشب، ونسوح نحن في إتباع الطيور والأرانب البرية لِإصطيادها بالجبّاد ومِجداف زَوْرقٍ صغير يشبه الهراوة …
بينما كنت غارقا في ذكرياتي شعرت بتمسح قطة بساقاي ، فإنغمست عائدا إلى ذكرياتي حيث كنت أجرجر ذيل قطتي ، وأقطف منعريشتها ، وأحلق شواربها ..
فجأة سمعت صوت جدتي : هل هذا أنت يا إبني ؟ مرحبا بعودتك .. لا تقف خارجا تفضل بالدخول ..
قبلت جدتي وعانقتها ، ثم دخلت وتركت ذكرياتي تتصارع خارجا ..