بين القبول والرفض يبقى الشعر
عبقرية أي انسان او أي مدرسة ليست في الأجابة , انّما هي المقدرة على إثارة السؤال والتساؤل , فاذا ماتت ثقافة السؤال , فان هذه الأمة اصبحت ميّتة . لهذا دائما يتعرّض مّنْ يسأل ويبحث عن الجواب الى التهميش والاضطهاد , فاذا أردنا لأمتنا الحياة الفكرية فلابدّ ان يكون قوامها التساؤل , فاذا مات السؤال مات الفكر ‘ لهذا فنحن لا نفهم ما يأتينا من الاخرين من التساؤلات , فمتى ما نكون نحن من يتساءل ويبحث عن الاجابات حينها سنكون ممن يمتلك فكرا حيّا ناضجا مبدعا . لكل مجتمع تساؤلاته وثقافته وهويّته الخاصة به , وعليه يجب ان نتحرّك ضمن هذه الدائرة ونتساءل ونبحث عن الاجابة , ولكل مجتمع هوية حداثته الخاصة به وهناك مشتركات انسانية نشترك فيها مع الاخرين , ولكن لا نريد ان نستنسخ ما وصل الينا من الاخرين , فيجب علينا ان نتعرّف كيف نكتب ونثير التساؤل , لهذا فأنّ أي صوت يدعو الى التجديد سيقف الجميع بوجهه ويطالبه بعدم الخروج على ما هو متعارف عليه , ويطالبه أيضا بالعيش ضمن دائرته الطيّعة التى حوّط نفسه بها , واعتبارها خطوطا حمراء لايمكن تجاوزها , لذلك علينا ان نبحث عن الاخطاء التي وقعنا فيها ونحاول تصحيحها والانطلاق الى الامام .الذهاب الى الامام والمستقبل يتطلب منّا نقد الماضي واجتيازه وعدم الرجوع الى الخلف , نبحث عمّا تركه الاخرون ونحاول ان ننمّي الماضي ونرتكز عليه لأجل الحاضر والمستقبل , لكن وللأسف بدلا من اجتياز الموانع والانطلاق نحو الامام دائما نحاول النكوص والالتفات الى الماضي والعيش فيه ومحاربة اي محاولة لتجاوزه واعتباره تراثا مقدّسا لا يمكن المساس بقدّسيته والقناعة به . وعليه يجب علينا اليوم أن نتساءل جميعا ونبحث معا عن شكل قصيدة شعرية حديثة تلبّي حاجة الانسان في هذا الزمن المضطرب وترسم لنا حجم الكارثة الأنسانية وترتقي الى العالمية والمشاركة وبفعّالية مع ما موجود على الساحة الأدبية العالمية وتكون لها خصوصيتها وشكلها وأسمها .
أؤمن بانّ الأوان قد حان للجهر وبصوت عال ان القصيدة الحديثة هي الوريث الشرعي للقصيدة القديمة , ونتيجة لما تمرّ به الانسانية من تحولات هائلة ومتسارعة في كافة مجالات الحياة , لابدّ لنا ان نتباحث فيما بيننا حول مصير القصيدة الشعرية العربية ( او ما يسمى بقصيدة النثر العربية ) بعيدا عن الأنا المغلقة وبفكر متفتّح نيّر همّه الابداع الحقيقي وخدمة الثقافة العربية والأدب بصورة خاصة . لمّ تعدّ القصيدة القديمة ( العمودية ) تلبّي حاجة الانسان المعاصر نتيجة هذه الاحداث المذهلة والمتلاحقة وما وصل اليه العالم اليوم , وظلّت تراوح الان في مكانها ولم تتمكن من مجاراة الواقع والتجديد الحاصل , وأصبحت منبريّة تعيش ضمن قوالب جاهزة وحدود مغلقة , لكنها فرضت سيطرتها وبقوّة وباستمرار على هندسة القصيدة الحالية من خلال تشطير النصّ وتوزيع الفقرات والمفردات حين كتابتها , وفي بعض الاحيان يحاول الشاعر التلاعب بالأوزان الشعرية ومنحه لبعض الفقرات قافية موحّدة لأستدراج المتلقي الذي فقد حتى الذائقة الأبداعية نتيجة ما يكتب الان وينشر , لكن هذا لا يسوّغ للبعض سهولة القصيدة الحديثة ولا للآخرين ان يتندّروا عليها والتشكيك بقدرتها على الصمود والتحليق عاليا في سماوات بعيدة من الأبداع الحقيقي الجميل . لقد ظلّت القصيدة العمودية كل هذا الدهر تتغشّى تحت عباءة ( الخليل بن أحمد الفراهيدي ) لم تتجرّأ على التمرد أو التحرر من سلطته الدكتاتورية عليها وبقيت تجترّ وتراوح في مكانها . اما قصيدة التفعيلة والتي تمرّدت وخرجت عن سطوة القصيدة العمودية أخذت ما أخذت وبقي ( بدر شاكر السياب ) يحضر وبقوّة فيها . ان اللغة العربية لغة حيّة قادرة على الولادة والصمود والتجديد , وهذا ما نؤمن به ونريده من خلال كتابة قصيدة كونية تتجاوز الزمان والمكان وتذهب بعيدا نحو المستقبل بشجاعة وبجرأة وترسم ملامح عهد جديد وتاريخ مشرق للشعر العربيّ . نريد الارتكاز واستلهام تراثنا الماضي ولا نريد العودة الى الوراء والتمسّك بما خلّفه الاجداد , انهم بنوا وعبّدوا لنا الطريق وعلينا اليوم ان نكمل المسير وبثبات . يجب ان تمتلك لغة هذه القصيدة كم هائل من المشاعر العميقة الصادرة من القلب والغازية له من اوسع الابواب . هذه اللغة المشحونة بالعواطف القويّة تحرّك الاحاسيس لدى المتلقي وتحيّ شعوره بالجمال وتغذي النفس بالمتعة والدهشة . هذا الكمّ الهائل من المشاعر والاحاسيس والعواطف مصدره الشاعر , لغة مجنونة بانزياحاتها العظيمة , وتبتعد كثيرا عن المباشرة والسطحية , لذا فعليه ان يبثّ عاطفته العميقة وشعوره الفيّاض في اسلوبه وفي نفوس القارىء والمستمع , وكلما كان صادقا في مشاعره وعواطفه كان اكثر قربا من الجمهور . يقول ( انيشتاين ) انّ الخيال اهم من المعرفة وهذا يعني بان الخيال بالنسبة للادب هو مفتاح العاطفة وانه اشبه بالمستودع الذي تستمد منه قوى النفس مادتها الاولية . لذا على الشاعر ان يمتلك خيالا خضبا منتجا يجعلنا نتلمس المشاعر ونتصورها شاخصة ملموسة نتحسسها ونتشمم عطرها . انّ اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة . انّ كل مفردة في القصيدة تمتلك جرسا ورنينا يستطيع الشاعر من خلال اختياره الصحيح للمفردة وقوة رنينها وموسيقيتها ومجاورتها للمفردة الاخرى وتآلف الالفاظ مع بعضها ان يشكّل منها مقطوعة موسيقة داخل القصيدة , وكذلك المفردات مع بعضها في نفس المقطع بامكانها ان تعطينا موسيقى خاصة بهذا المقطع , وهكذا في مجاورة المقاطع مع بعضها وانسجامها وتنافرها , اذا لم تكن متكلفة سوف تسمع الاذن انغاما تنبعث من داخل القصيدة . وكلما كان الشاعر حاذقا في اختيار المفردة ذات الجرس الموسيقي وعمل على حذف المفردة البائسة موسيقيا والتى لا تحمل جرسا معينا كانت الموسيقى صافية وواضحة وساحرة تنبعث من القلب وتدخل الى القلب نتحسّسها ونشعر برطوبتها وهي تغمرنا بفيض من المتعة والدهشة .
(( فمنذ العام 2015 تمّ الأعلان عن ولادة قصيدة جديدة نطمح أن تقنع الآخرين بجماليتها وسحرها وعذوبتها , أطلقنا عليها القصيدة السرديّة التعبيريّة , وما هذه الأضاءات الاّ محاولة منّا في الكشف عن ملامحها وترسيخاً لمفهومها , وتوثيقاً لجهد شعراءها الذين ابدعوا فيها ووجدوا أنفسهم من خلالها . ولا ننسى الجهد الكبير والمتميّز للدكتور أنور غني الموسوي الشاعر والناقد والباحث الأسلامي ومَنْ معه الذين أخلصوا لهذه القصيدة ودافعوا عنها رغم ما تعرّضوا اليه من الرفض والأستهجان من قبل الآخرين . نحن نطمح ونؤمن بأنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة المستقبل , بعد انتشارها عالميا واصدار الكثير من الدواوين الشعرية الخاصة بهكذا قصيدة بلغات اخرى اضافة الى اللغة العربية , وكثرة القراءات النقدية حولها , مما جعل الأبواب مشرعة أمام الجميع للكتابة والأبداع فيها . اننا نضع هذا الجهد المتواضع كبذرة اخرى في ارض الشعر ونطمح أن تثمر في قادم الايام , ومن الله التوفيق .
كريم عبدالله
بغداد – العراق
فهرست كتاب : جمالية الصوت الأنثوي في القصيدة السردية التعبيرية
1- لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي ( الشاعرة : رحمة عناب – الشاعرة : يسرى طعمة ) .
2- الرساليّة ( الشاعرة : مرام عطيّة – الشاعرة : أحلام البياتي ) .
3- البوح التعبيري ( الشاعرة : لينا قنجراوي – الشاعرة : حنان وليد ) .
4- اللغة المتموّجة ( الشاعرة : خالدة ابو خليف – الشاعرة : سامية خليفة – الشاعرة : ظمياء ملكشاهي – الشاعرة : هدى الصيني ) .
5- اللغة الصوفية ( الشاعرة : رشا اهلال السيد أحمد ) .
6- الكتل التعبيرية ( الشاعرة : نعيمة عبد الحميد ) .
7- البوح الأقصى ( الشاعرة : زهرة النرجس ربيعة ازداد .
8- اللغة التجريدية ( الشاعرة : سرية العثمان – الشاعرة : سلوى علي – الشاعرة : هندة السميراني ) .
9- التوافق النثروشعري ( الشاعرة : غادة علوة – الشاعرة : مرشدة جاويش ) .
10- اللغة الأيروسيّة ( الشاعرة : ميسرة هاشم – الشاعرة : سهام الدغاري ) .
11- لغة الحلم ( الشاعرة : إنعام كمونة ) .
12- الملامح السرديّة التعبيريّة في ديوان ( الشاعرة : فوزية الفيلالي ) .
13- الملامح السرديّة التعبيريّة في ديوان ( الشاعرة : فاطمة محمود سعدالله ) .
الملامح السرديّة التعبيريّة في ديوان ( الشاعرة : جميلة بلطي عطوي ) .