بقلم ؛لناقد غازي أبو طبيخ الموسوي
شروعاً،
لم نقرأ لهذه الأديبة اشتغالًا إبداعيًا شعريًا خارج العمود الشعري،
وربما كتبت قصيدة النثر أو التفعيلة،بيد أنّنا لم نطلع شخصياً على تجاربها الحرة حتى لحظة كتابة هذه المطالعة.
إنما الذي نحن متأكدون منه هو أنها منحازة بكل وضوح إلى الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية،ونعني الشكل العمودي الموروث.
ذلك الإنحياز الذي يبدو كخيار ناتج عن إرادة واعية بقصد توظيفه لأهداف وغايات فكرية وإنسانية برؤية ذات خصوصية خاصة ،
تتعلق بطبيعة التوظيف المناسب لأغراضها الشعرية الهادفة الملتزمة،لهذا منحت هذا الخيار الكثير من وقتها والكثير المتنوع من تجاربها الشعرية.
من هنا تعمق منجزها،وترسخ أداؤها،وفضلاً عن ذلك كانت حريصة على توسيع آفاق الأداة التعبيرية إلى مستويات بالغة المرونة بعيداً عن الإتكاء ،من خلال اساليب تحديثية على مستوى الرؤى والسياقات المكتنزة بتجربة العصر وأحداثه الراهنة المسيسة بحياتها وفكرها وإحساسها المباشر،تقول على بحر الطويل مثلا:
……………………..
(تضامنا مع كل المظلومين في بلادنا العربية:
*
مراجلُ تغلي والفقير يُحَرَّقُ
يذوب رماحا للطعان تشوّقُ
جبابرة والقدر فارت بغيظها
لتقلبها لاءٌ من الرعب أصدقُ
مساكين والسكين والذبح شرعة
بأيدي عصابات على العرش تلصق
ولو أن ترب الأرض بالعدل يرتوي
لأنبت جيلا بالمكارم يورقُ
فجودٌ وإحسانٌ ونور حضارة
وصدقٌ وإيمانٌ وفكرٌ محلّقُ
ولكنه الطاعون حكمٌ مؤبد
بتأليه أوباء وإمراضِ من بَقوا
تقولُ وقد لاحت دعائم مجدهم
هشاشة عصفٍ والرياح تفرّقُ
أما من حكيمٍ في الإدارة حاذقٍ
يردُ بنا روح العلا ..نتألقُ
فما ديننا إلا السماحة والتقى
وما فكرنا دون الشعوب معوّق
فإنْ تسأليني بالسياسة إنّها
لأصلُ الردى إنْ ساد ظلمٌ مخنّقُ
إذا الراعيَ النصّاب لم يرعَ قومه
رعتهم ذئابٌ بالنيوب تمزقوا
تحلّ عليهم في الحياة كريبة
فلا النور موهوبٌ ولا الحال يشرقُ
ليبقوا حضيضا والبداءة سمتهم
حفاة عراة والجهالة تُطبقُ
كأنهمُ نكص الحضارة بينما
سفائن في عمق الفضاء تُحلّقُ
فلم يبقَ إلا عابثٌ متسلطٌ
وإلّا قلوبٌ للرغيف تؤرقُ
وإلا جباه في النباهة تنطقُ
لمنبعها سدٌ فلا يتدفقُ
وإلا بغيٌ للخنا متسلقٌ
يكمم أفواها تئنُ فتخنقُ
وإنيَ حمّال التطور جينة
ولكنني من ألف بابٍ أعوّقُ
فلا تربتي إثر الكوارث أينعت
ولا همتي حيث النجوم تحلّق).
ومن أبرز الواضحات التي تميز سيمياء هذه القصيدة أنها تعبر عن خط الإلتزام،بحيث توظف نصوصها لغايات فكرية،
وطنية أو قومية أو إنسانية عامة .
ولأننا مع سيدة تمثل إنموذجاً للشواعر النادرات اللواتي تمسكن بإصرار وإجادة بالكتابة على الطراز العمودي الكلاسيكي(أو التقليدي باصطلاح آخر)،فلا بأس من تبيان معنى هذا الإصطلاح، ونعني مصطلح العمود الشعري وكالآتي :
(معجمياً: العمود: عمود البيت وهو الخشبة القائمة في وسط الخباء، والجمع أعمدة وعمد،
وعمود الأمر: قِوامه الذي لا يستقيم إلّا به، والعميد: السيد المعتمد عليه في الأمور أو المعمود إليه.وهذا هو المعنى اللغوي العام 1.
أما المعنى الإصطلاحي: فهو طريقة العرب في نظم الشعر لا ما أحدثه المولِّدون والمتأخِّرون، أو هي القواعد الكلاسيكية للشعر العربي التي يجب على الشاعر أن يأخذ بها، فيُحكَم له أو عليه بمقتضاها2.
وإذا كان الآمدي لا يقرُّ هذا الإصطلاح
إلّا إذا جاء متوائماً مع طبيعة أداء الشاعر البحتري ،
معتقداً أنه حافظ على رسالة الاجداد بالتعبير الجميل عن الوجدان والمشاعر ،بحيث كانت محسناته البلاغية مهتمة بالمركبات السياقية التي تُعبّر عن العاطفة الإنسانية بعيداً عن الفكر والغوص وراء المعاني،وهو لايخفي إحساسه بأنّ أبا تمام لايمثل العمود بصياغاته التي عمل عليها الأقدمون كما يشير إلى ذلك الدكتور إبراهيم محمد المصاروة. ولم نجد من يوافق الآمدي على هذا الرأي ،لأنّ أكثرية النقاد وعامة المختصين يعتقدون أن العمود هو الشكل القديم لقصيدة الشطرين ذات الصدر والعجز والقافية الموحدة،بغض النظر عن اكتفاءها بالتعبير عن المشاعر اوبحثها عن المعاني.فالمعلقات
عمود،ونصوص جرير والفرزدق والمتنبي والمعري والبحتري وابي تمام والامير شوقي والجواهري كلها،ومن جاء بعدهم ، وكل من يتمثلها
أو ينحو نحوها كما هي حال قصائد الدكتورة ريم الخش كلها عمود.وقد يطلق عليه القريض او الشعر التقليدي أيضا.
وقد أختطت أديبتنا لنفسها طريقاً وسطاً بين البحتري وابي تمام وكأني بها تترسم خطى المتنبي، بحيث نرى كثيراً من الأغراض البلاغية المكتنزة بالمشاعر والعواطف والأحاسيس،لكن في نفس الوقت نراها تحتشد بالرؤى والمعاني والافكار وأساليب الإدانة والإحتجاج،وشعارات المرحلة السياسية الراهنة للأمة،من منطلقات
إنسانية تعبر عن خط الإلتزام المشار إليه آنفاً.
ولقد نجحت د.ريم في زحزحة الواقع الثقافي محققة حضوراً إبداعياً واضح التجليات.
هذا الحضور الفني الجمالي الرصين سياقًا وأنساقًا وأداءً راسخًا هو الذي يعنينا في هذه المتابعة.وقد تكون لأي شاعر أو شاعرة تصورات عَقَديّة أو أيديولوجية خاصة بهما،ولكنّ ما يهمنا في أداءهما هو مستوى الفن والإبداع تعبيراً بليغاً رشيقاً جميلاً وسليماً عن تلك المعاني،ماداما حريصين على لياقة الحِجاج ،
والإقناع بمنطق الجمال الشعري،الذي يمثل وسيلتمها التعبيرية عن رؤاهما ومواقفهما وتشوفاتهما باتجاه الماحول المحلي والعالمي،بعيداً عن الألفاظ والتراكيب والسياقات الخارجة عن الذوق العام.
فمن حق خصمي الشخصي أن يعبر عن وجهة نظره عني مثلاً، وبكل صراحة، شريطة أن يكون الخطاب حضارياً نبيلاً وجميلاً.
وما أثار انتباهنا في عموم تجربة الخش الشعرية،جملة منطلقات لاريب عندنا في أنها تهدف اليها بوعي عميق ،
ويمكن لنا اجمالها بالتالي:
ألاول: محاولاتها الجادة للإسهام في تحديث العمود الشعري،بما يمنح متسعته مساحة شاسعة لمحمول كبير ومعمق،وهو مسعى يشاركها به ثلة من المبدعين الذين يشعرون عميقاً بهذه المسؤولية،منذ بداية النهضة العربية ،نهاية القرن التاسع عشر،وقد يعود إلى تاريخ أبعد ،فلكل زمن معاصرته وحداثاته،ولقد كان لنا مقال مطول سابق بهذا الخصوص في الملف النقدي الأول لمن يود المتابعة.
وعوداً على ذي بدء نقول إن الدكتورة ريم حريصة على اختيار أكثر الموضوعات عصرنة بما يجعلها في صميم اللحظة الزمنية المعيشة الراهنة بكافة أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية العامة،وذلك يستدعي بكل تأكيد تفجير طاقات القاموس الشعري الخاص ،فضلاً عن حداثةالمضامين والأحداث،وتلك مهمة صعبة وكبيرة، لانها واسعة النطاق على مستوى الانزياح البلاغي والتصوير والتشكيل وكل مايتعلق بالمباني في جانب ،وعلى مستوى الموضوع والحدث والاطاريح وكل مايتعلق بالمعاني في جانب اخر..
ألثاني: الجرأة الفائقة في طريقة التعاطي مع السياقات والانساق المبتكرة والمجددة، وفي نوع وطبيعة التناول ايضا،مع عدم الركون إلى شكل رتيب مكرور ،بل تسعى بجد واجتهاد -منذ لحظة تعرفنا على نتاجها حتى الان- باتجاه التنويع والتجديد والإبتكار ،مع جرأة مُتقحّمة في التوظيف والتوجيه والتوليف،وكل تلك الاساليب شديدة الارتباط بالحداثة بمعناها المعاصر .
ألثالث: لاحظنا في كثير من أعمالها الشعرية قدرة متميزة على توظيف أساليب الحوار المختلفة بروح درامية تمنح النصوص حركية فاعلة بالغة التأثير .
وكمثال على هذا التوجه لفت نظرنا هذا النص، المكتوب على “بحر الوافر”.. فكان اختياره كشاهد ثانٍ من هذا المنطلق ،
بقصد وضعه بين يدي المتلقي الكريم كدلالة على مشهد شعري متكامل:
(أرض الغرور:
أيعقل أن تكون بلا شرور؟
لعمري ذاك أعسر من عسير
.
فلا إحقاقُ حقٍ دون ظلمٍ
ولا غمرٌ بلا نقصٍ كثيرِ
.
يؤرجحُ بين أقطابٍ عكوسٍ
مدى وجعٍ إلى ضمّ القبور
.
تناوبها كتكوير الثواني
على ليلٍ فصبحٍ مستنير
.
فمن يُسرٍ إلى عسرٍ وغمٍّ
ومن سلْمٍ لقتلٍ مستطير
.
مصائبه انفراج عند بعضٍ
وعند البعض أهوال السعير
.
بهيميٌ مدجج بالرزايا
ونسبيّ المطامع والشعور
.
ومامجرى المروءة فيه أصل
فلا تلقى سوى الأصل الحقير
.
فلا تحزن وقلبك كوثريّ
إذا سُدّت مفاتيح العبور
.
فماؤك لا يلطخه اتساخ
وصبرك عنه من عزم الأمور
.
وإنّي لا أرى معنى لكون
ظلاميّ بلا قلبٍ بصير
.
وكم سبر الفضاء الرحب كشفا
يُحرر مثل (فوتونٍ) منير
.
علمْتُ بقصر إدراكي ولكن
شعرت بسطوة الرب القدير
.
ولم أدرك معاني الخير إلا
بأبليسَ الموسوس في الصدور
.
كأنّ وجودنا ظلّا مليكٍ
بشطرنجٍ على أرض الغرور).
ومن الواضح إن الإشتغال التفصيلي على هذا النص يخرج عن خطة كتابنا هذا في ضرورة التكثيف،والإكتفاء بالإشارات والإلماحات،ولكننا لانكتم إحساسنا بجمال الإقتباسات وروعة التناصات التي أفادت منها الشاعرة في تأصيل السياقات وتجذير الأنساق كما في:(أيعقل ان تكون بلا شرور)وصلته المفهومية بالآية الكريمة(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا)3،وتناص الشطر التالي( ولا إحقاق حقٍّ دون ظلم!!)مع شطر زهير بن أبي سلمى( ومن لايظلم الناس يُظلمِ)،مع بيان الاختلاف في معنى الظلمين،بحسب الإستخدام،فالظلم الاول هو الإضطهاد والتعسف غصباً وقهراً،بينما تعني الثانية استرداد الحق بالقوة الإيجابية المشروعة،كذلك في (يسر وعسر)وفي(قتل مستطير.. شر مستطير..)،و(اهوال السعير)..الخ..
وكل ما ذكرناه كمثال يحتاج التفاتاً وتوقفاً،لكن الأهم هو قدرة هذه الشاعرة على توظيف كل ما ذكرناه لكي يكون بنية حمل جمالية ناجحة لأفكارها ومشاعرها في آن واحد.
في الختام نود التأكيد ان الخش لم تقف غائيًا عند حدود المواقف الإنسانية والوطنية والقومية بل عالجت في بعض نصوصها أمورًا أخرى ذات سمات سوسيولوجية وقيمية هادفة اخترنا من بينها هذا النص الذي سنختم به هذه المطالعة العاجلة مع التقدير :
(حبكتني برمشها المِغْناج
ذات حسنٍ كبارقٍ وهّاج
يالحبكٍ على نمارقِ ريشٍ
في قوامٍ ممرّد الصرح عاجي
ربّة الغنج والصروح قلاعٌ
شامخاتٌ تحيطها أمواجي
وعلى الموج حمحمات صهيلٍ
ركب البحر رغبة في التناجي
وشعوري على الجواد سراج
أمتطيه مخافة الإدلاج
جذبتني وأوقعتني كجرمٍ
أسفل القاع مارقٍ وهّاجِ
يالعطرٍ مشرّبٍ في مسامٍ
مسّه العشق جامحا في اهتياجِ
آية الفجر طارقٌ في مساسٍ
تفرش النور مخدعا في انبلاجِ
شفتاها محبوكة في شفاهي
لنروّي صبابة الأحراج
خافقينا كما الغدير انسكابا
في انفعالٍ مرقرقٍ واختلاجِ
غيمها ال سحّ لؤلؤا في رذاذٍ
عاد يسمو مبرّدا أمشاجي
مثل شقين من حشاشة قلبٍ
هزّه الوجد صارخا في ابتهاج
مثل ثوب السماء بتنا سويا
ذات حبكٍ مقدسٍ مبهاجِ
سنة الكون أن نرى في اتحاد
ليس كالعشق جامع الأزواج
جذبتني بجرمها واستقامت
ليس إلايَ غارقٌ في اعوجاجي!
ليس إلايَ كوكبٌ راح يحسو
ألق الشمس في كؤوس مزاجي
لست منها وإنْ أردتُ بناجِ
مغزل الشمس حرفة النسّاج
كيف أنجو وحبكتي في عراها
وبقصيّ تعلتي لا علاجي!
ذات حبك مقدس كان حظي
ليس كالموت مطفئ الأبراج ….)
………………………………………
*
“”والسماء ذات الحبك ….حديثا وبعد أن فسرت الجاذبية بالإنحاء الزمنكاني والذي بسببه تدور الأفلاك في ثوب سماوي ذا حبك …جعلت من قصيدتي تناصا لهذا الحدث الجلل وحيث جميعنا أجرام سماوية مصغرة- الشاعرة- “””
[1] إبن منظور، لسان العرب، و الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة (عَمَدَ).
[2] انظر: أحمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم، 2/ 133.
3-سورة (الشمس.. الآية7).