لقاء فاطمة
وحان الموعد وصعدنا إلى الحافلة، كانت تجلس إلى جانبي امرأة في بداية الثلاثينات كما قدرت ، أنظر إليها، أتأملها ، لا بل تعريها نظراتي ، أود محادثتها ، لا يعقل أن أبقى أربع ساعات دون أن أتكلم ، كانت تحضن طفلها، فوجدت ضالتي ، وجدت الطريقة التي أكلمها بها ، وقبل أن أبدأ بكلامها ، قالت بشيء من التوتر: لماذا تنظر إلي هكذا ؟
قلت: فقط أود أن أسأل عن سر بكاءك والدموع التي تملأ عينيك ، فلا شيء في الدنيا يستحق أن نحترق لأجله مهما كان، ” اضحك للدنيا تضحك لك الدنيا، وابكي تبكي لوحدك “.
دعني؛ فلا شيء يستطيع أن يطفئ حزني إلا هذا الأمل الذي أحمله بين يدي ، بالتأكيد سيأخذ بثأري من الدنيا، كان الحزن البادي على وجهها يضفي جمالاً على جمالها ، وكان بريق الدموع يزيدها حسناً على حسنها .
– هل تقبليني لك أخاً وصديقاً حتى نصل مصر؟ شيء أعتز به، ولكن للأخت حقوق على أخيها وأخشى أن أزعجك .
-لا والله يا.. ( فاطمة قالت) .
– لا والله يا أختي .
لا أدري سر التعاطف الذي قضى على الرغبة في المتعة بالنظر إليها ، لا أدري بعدها كيف مر الوقت ، كنا نضحك ونتبادل النكات ، كنت متأكداً بأن ابتسامتها ما هي إلا للمجاملة والتخلص من جمر الدموع ، التي كانت تسح بين الحين والآخر من عينيها، كان كل همي أن أخفف من حرقة الحزن الساكن فيها،ولهيب الدموع المتحجرة في تلك العيون .
وكنت أتسأل بيني وبين نفسي هل أنا بحاجة لمزيد من الحزن والقلق، فأنا أبحث عمن يخفف من النيران المشتعلة بداخلي، أبحث عمن يمسح دموع القلب، ويخفف من وجع الروح المتعبة،ولكن المتعة بالجمال لها ضريبتها، مرالوقت وطويت الطريق ووصلنا العقبة .
أنزلنا حقائبنا وهبطنا لننتظر الحافلة التي ستوصلنا إلى العبارة التي ستقلنا إلى أرض الجمال والخصب ، لحظات قليلة وجاءت الحافلة وصعدنا إليها، سارت بنا فترة قصيرة لا تتعدى ال عشر دقائق ثم هبطنا،أخذتُ جواز سفرها وحملتُ ابنها وذهبتُ لختمِ الجوازات،وفعلاً تم هذا،ودخلنا إلى الباخرة .
اتخذنا أماكننا في جوفها وما هي إلا دقائق قليلة حتى أطلقت صافرتها معلنة الرحيل عن الشاطئ الذهبي ، وراحت تشق صدر البحر ، تبعثر مياهه.
قلت لها : سأبحث عن مكان مكشوف أستطيع من خلاله رؤية البحر.
– انتظر قليلاً،سأدخل أيمن إلى الحجرة وأعود.
آآآه لو أخذتني معها لتلك الحجرة التي ستكون بالتأكيد من حجرات الجنة ، قليلاً من الوقت وعادت وقد بدلت ملابسها ،آآآه أي قمر يطل على عيوني ، كم تمنيت لو كنت ذلك الشال الذي يغطي الليل المنسدل على كتفيها ،آآآه لو كنت ذلك الثوب الذي يدثر بستان الكرمة المزروع في جسدها.
أي شيطان هذا الذي يسكنني ويثيرني ويجعلني أعري كل ما تسقط عليه عيني ، عيني التي لم تترك شيئاً إلا واقتنصته، وأي جبن هذا الذي يسيطر علي فيبعدني بقدر الشهوة التي تسكنني، أي أنثى هذه التي تقترب مني ، هل هي فاطمة بحق ، وصلنا إلى شرفة الباخرة وقالت: انظر إلى البحر ، وتأمل قلبه الكبير، وكم يحتوي من الكائنات، وكيف يتعامل معها؟ أي حنان الذي يعمره ، أي حب هذا الذي يسكن قلبه ؟
نظرت إليها وردد القلب ، أي بحر أنظر إليه وأنت معي ، أي موسيقى أسمعها وصوتك يرن بداخلي فيسرقني من الدنيا ، وأي حب هذا الذي تتحدثين عنه وأنت الذي بعثت في شيطاني الحياة وأنا الذي قتلته في بداية الرحلة .
– ما بك ترتعش قالت ؟
ومالي لا أرتعش وبجانبي معنى الأنوثة وعنوان الرقة أناجي نفسي.
– أشعر بشيء من الخوف قلت لها .
– من ماذا ؟
– لأني أخشى أن أكون طعاماً للأسماك ، قلت .
– أليس أفضل من أن تكون طعاماً للدود .
اقشعر بدني ، ورحت أتسأل من أين جاءت بهذه الفلسفة ، أتراها فلسفة الحزن ، أنظر إليها من جديد أرى الدموع تنساب من عينيها وهي تنظر إلى البحر ، أمد يدي وأعيدها رغبة جامحة بأن أتطهر بمسح دموعها وملامسة تلك الوجنة ، ولكني كنت أتراجع عندما تنظر إلي أو عندما تقترب يدي من ملامستها خوفاً وخجلاً