كتبت ريما آل كلزلي. قراءة في رواية “مدينة يسكنها الجنون”

رواية: مدينة يسكنها الجنون/ محمد الدعفيس

قراءة بقلم: ريما آل كلزلي

“مدينة يسكنها الجنون” عنوان لرواية للكاتب السوري محمد تركي الدعفيس، وقد فازت بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها التاسعة عام 2023 عن فئة الرواية غير المنشورة، حيث لكل رواية طابعها الخاص الذي يميزها. وهذه الرواية تنفرد بتعاليها السردي لتصبح عالمًا فريدًا لا يشبه إلا نفسه. في المدينة، التي اختار كاتبها محمد الدعفيس، أن تفتح أبوابها للجنون ليسكن فيها ويستقر، والتي نجدها حينًا تتماهى مع طبيعة الذات الإنسانية وواقعها المُعاش بكل تناقضاته، وأحيانًا تجنح إلى خيالاتها، تستقي مادتها من الحكاية دون العبث بمركزيتها. وعندما تتجاوز الخيال نرى أثر خطواتها الواعية، الواسعة، والمتباعدة، وكأن انفجارات الوعي تجعل منها كائنًا حيًّا يطمح إلى الخلود.
نبدأ بالعنوان، الذي يعكس جوهر النص؛ فهو كلمات قليلة تحكي فصولًا كاملة من الرواية، هذا الكيان المليء بالاضطراب والجنون البعيد عن الحالة العقلية، إنما حالة اجتماعية ونفسية تعكس انهيار القيَم وتفشّي الظلم. العنوان يحمل رسالة الكاتب التي حددت مصير المدينة والرواية معًا.
في تحليل الشخصيات يظهر:
طارق (ابن الطبال): يظهر كشخصية محورية تعيش في صراع داخلي وخارجي. هو ابن لوالد مهمّش، وأم مثيرة للجدل. يتم اختزاله في أصله الاجتماعي، فيتعرض للتنمر والاحتقار، ويتولد بداخله شعور دائم بالدونية بسبب ماضي عائلته، فيعكس كيف يمكن للبيئة القمعية أن تحول هذا القهر إلى نقمة، مولدةً بداخله غضبًا ينفجر لاحقًا بجنون.
سهيلة (الأم): أم طارق وسحر، امرأة بشخصية قوية، ومحطمة في ذات الوقت، تعيش في عزلة داخل المدينة، بسبب سمعتها والعنف الذي تعرضت له. يتأرجح شعورها بين الذنب تجاه أبنائها، ومرارتها من قسوة المجتمع. هي أنثى مقموعة كزوجة مع الطبال وضيع المكانة الاجتماعية، وكأم بسبب ردة فعل ولدها طارق، وكامرأة تعيش في مجتمع ذكوري، استسلامها للعزلة، يمثل انكسارها النهائي.
سحر( الأخت): شابة جميلة ومتمردة، تحاول الابتعاد عن وصمة عار عائلتها، لكنها تجد نفسها عالقة في ديناميات قهر جديد حتى بعد هروبها إلى العاصمة، سحر تجمع بين صوت الأمل والتمرد، وبين صوت الهروب من الماضي الي يلاحقها، لتدفع ثمن الحرية باهظًا.
الأستاذ حسن: شخصية مثقفة، عزلته تختلف عن عزلة البسطاء؛ فهو يجنح إلى عوالم الكلمات والموسيقى كلما أرقه الحنين إلى حبه الضائع ( عزة) فيعيش إحباطًا دائمًا، يراقب العالم من زاويته، مع عجزه عن تغييره، أو حتى إنقاذ نفسه.
الأستاذ مسعود: شخصية دينية، تستغل مخاوف الناس لتحقيق نفوذه، يظهر كمرشد، ولكنه في الحقيقة يسعى للسيطرة، مسعود نموذج وقح يمثل استغلال الدين لتحقيق غايات شخصية، خاصة في أوقات الأزمات.
المدينة كشخصية: لعل ما يميز هذا العمل الروائي، أن المدينة فيه ليست مجرد مكان، إنها كيان حيّ يمثل التناقضات البشرية، وإن بدت مدينة هامشية، منسية، تعيش على اجترار الحكايات، تكتب تأريخها بالفضائح والأحداث التي عاشتها. المدينة هنا ترمز إلى مجتمع يفتقر إلى العدالة والتنظيم، حيث يسود الظلم والنفاق والقهر.
هذا العمل الإبداعي يحمل عدة ثيمات:
-الظلم الاجتماعي، عدم المساواة، المعاملة بمعايير لا تعرف العدل، مثاله: تهميش عزاء الطبال، والعناية بعزاء ( شقيق المختار).
– الانتقام والعنف، ومن أهم ما يميز هذا العنف أنه ليس عشوائيا، إنما نتيجة تراكم طويل للقهر والظلم، كما الجنون كحالة نفسية، لا يمكن أن يحل ببساطة، بينما يتكون عبر مراحل خفية ومتنوعة، لكنه يظهر دفعة واحدة بصورة نهائية.
مثاله: سلسة جرائم طارق التي تعكس رغبته من مجتمع أهانه وحقره.
-التهميش والإقصاء، الشخصيات تعاني من التهميش والإقصاء بسبب الفقر أو السمعة أو الطبقية.
مثاله: سهيلة التي تُعزل بسبب سمعتها، وسحر تهمّش بسبب غيابها.
-الحب الضائع: الحب في هذه الرواية غير مكتمل أو مستحيل إذ تتحكم به الظروف القاسية، فكان كعنصر مساعد في تفشي الجنون.
مثاله: علاقة الأستاذ حسن بعزة التي انتهت بدون أي تحقيق أي حلم واستقرار لتضيف عنصر القهر والضياع.
-الهروب، يظهر كحل ووسيلة للإفلات من قبضة الواقع.
مثاله: هروب سحر إلى العاصمة، ومحاولة طارق الهروب من ماضيه عبر القتل.
يظهر الكاتب عبر رمزيته العميقة بأن الروائي يسرد حكايته لا ليمتع القارئ ويؤنسه، إنما يضمن أسئلته وخبراته عبر النص ليمنحه قيمة جمالية إضافية، فالكل بمقدورهم سرد القصص والحكايات، لكن ليس الكل بمقدورهم تحميل النص عمق الحكاية وفتح الباب على مصاريع التأويل، فقد بث رسائلًا ضمنية عديدة تبين تأثير الظلم ومعيارية المجتمعات والظلم والتنمر والقسوة على الأفراد.
الرموز في الرواية:
مدينة الجنون: رمز المجتمع المضطرب الذي يعاني من تناقضات أخلاقية واجتماعية.
النبتة الذابلة (البامبو): رمز الأمل وإن ذبل في بيئة قاسية، لكنه موجود.
الطريق إلى البساتين: رمز الخطر والخوف، وهو مكان حدوث جرائم القتل.
بقلم أدربي رفيع يعتمد على لغة شعرية غنية بالصور والرموز، بنى الروائي روايته بأسلوب دائري، حيث تبدأ وتنتهي بأحداث متشابهة، وهي القتل.
النهاية:لم تكن سوى حلقة مفرغة من العنف، وطاحونة قهر تسحق كل من تمتد يده للمساعدة، فكان طارق منذ البداية نتاجًا محتمًا لمجتمع يرفض أن يرى آلامه أو يعترف بها، فنرى في تنفيذ حكم الإعدام دليل واضح إلى دورة العنف التي لا تنتهي حيث يصبح القاتل ضحية جديدة للنظام، تترك القارئ أمام تساؤل: هل كانت هناك فرصة لإنقاذ طارق؟ وهل يمكن إصلاح مجتمعات مماثلة قبل أن تنتج المزيد من طارق؟
رواية” مدينة يسكنها الجنون ” لا تُقرأ لتُنسى، ولكن لنستمع إلى صرختها اللافتة وسط ضجيج العالم، فهي تفتح أبواب التأمل والتساؤل حول زقاق مظلم تتقاطع فيه مصائر أبطالها الذين أجبروا على العيش تحت وطأة الظلم، في عالم تغذيه قسوة الظلم وصمت المجتمع.
الرواية لا تقدم إجابات بقدر ما تضع قارئها أمام مرآة ذاته، إنها دعوة للتفكير في مكاننا ضمن الدائرة: هل نحن شهود صامتون على الظلم، أم أننا مشاركون فيه بصمتنا؟ هل يمكن كسر هذه الحلقة، أم أن العنف أصبح جزءًا من نسيج حياتنا؟
في هذه الرواية الجماعية، التي تتمثل ب ” مدينة” شهادة على هشاشة القيَم حين تواجه بالأنانية، وعلى ضياع الأحلام التي تغتالها الأيدي التي كان يفترض أن تحميها. إنها وصف لمجتمع فقد بوصلته الأخلاقية، وحلت عليه لعنة الجنون. لكنها في الوقت ذاته، تحمل بصيصًا من الأمل، أمل في أن نعيد النظر في أنفسنا، ونكسر دورة العنف التي لا تنتج سوى المزيد من الضحايا والمزيد من ” طارق”. إنها جرح مفتوح، يقول: الحل يبدأ من الداخل، وكلنا، بطريقة ما، جزء من هذا الجنون الذي يسكن المدينة.


غلاف رواية مدينة يسكنها الجنون


الروائي محمد تركي الدعفيس

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!