محمد فتحي المقداد

كتب محمد فتحي المقداد. إضاءة على مجموعة “زر وسط القميص”.

لآفاق حرة

إضاءة على مجموعة “زرّ وسط القميص”.
للأديب. صالح حمدوني

بقلم. محمد فتحي المقداد

العنوان بحدِّ ذاته إشكاليَّة موجبة للتوقُّف، وللتأمُّل في مدايات من زوابع تساؤلات تُثيرها هذه العبارة، في ذهن المُتلقِّي: (زرّ وسط القميص) عنوان كتاب الأديب “صالح حمدوني”. وبالرُّجوع لعنوان النصِّ الكامل (اِنْقطع زرّ في وسط القميص). والمُفارقة ما بين العنوانيْن. في عنوان الكتاب “زرّ وسط القميص” عبارة عن جملة اِسميَّة مُخاتلة مُواربة، بينما عنوان النصّ السّرديِّ جُملة فعليَّة، وما بيْن الجُملتيْن تنفتح نافذة الرؤية.
فالعبارة “زرّ وسط القميص” لم تدل إلَّا على أنّ هناك زِرٌّ في وسط القميص،فهل كان مختلفًا بلونه أم بحجمه، هل هو مقطوع أم مُثبَّت بمكانه، أم مُنفلِت من عُروَته حاسِرًا عمّا خلفه أم مُغلَق. وهل جميع الأزرار التي فوقه، والتي تليه غير موجودة ولم يبق إلَّا هو؟ أم جميعها موجوده إلَّا هو المفقود فقط؟.
“اِنْقطع زرّ في وسط القميص” تُحيل الذِّهن إلى فعل القطع؛ نتيجة الشدّ والجذب، بما يتماهي مع قصَّة سيِّدنا يوسف عليه السّلام وامرأة العزيز، حين (همّت به) للإيقاع به، و(همّ بها) للإفلات منه. (وقدَّت قميصه من دُبُرٍ). وهو ما أوضح براءته أمام العزيز بجلاء غير قابل للتأويل والنِّقاش، حينما اِفْتَرت بكامل طغيان أنوثتها على نبيّ الله “يوسف” عليه السّلام. وليُثبِِت الكاتب بأنّ زرّ وسط القميص المقصود باِلاِنْقطاع؛ فتذوب جميع الشّكوك والتأويلات، وتأخذنا في اتجاهات أخرى.
وكما يُقال فإنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه، فصفحة الإهداء (إلى أمّي)، و(الغرفة)، و(المخيّم)، و(الحُلم) بهذه الكلمات الأربع تتّضح هويّة الكتاب؛ لتكون رَحَى ومدارات الأفكار، ومراحات لحركة الحياة ما بين “الأم. الغرفة. المخيم. الحلم”.
وبعد الإهداء وردت فقرتان جاءتا كمُقدّمة للكتاب، وكأنّهما مُبرّران لكي يمارس الأديب والمُثقّف فعل الكتابة. والفقرة الأولى مُقتبَسة للمُؤرّخة الأمريكيّة “باربرا توشمان” بصيغة فعل الأمر (اُكتب- “من دون كُتُب يُصبِح التاريخ معقود اللِّسان، والأدب أخرس، والعلم معوقًا، فالكتب مُحرّكات التغيير، ونوافذ مفتوحة على العالَم).
ولما كانت الكتابة ذات فوائد لأمم وشعوب، فهي عديمة الفائدة عند آخرين، ثمّ اِقتَبس عبارة للكاتب الروائيّ الأفريقي “جيلي مامادو كوياتيه”
وأيضًا بعنوان فعل أمر مسبوق بلا النَّاهية: (لا تكتُب – “إنَّ شُعوبًا أخرى تستعمل الكتابة. لكنّ هذا الاِخْتراع قتل الذَّاكرة لديهم، لأنّ الكتابة ليس لديــهـا حــرارة الصّوت الإنسانيّ. وعندهم يدَّعي الجميع المعرفة. يا لها من معرفة تافهة، تلك المعرفة الجامدة في كُتب صمّاء).
وفي عُجالة لاِسْتجلاء بعض عناوين نصوص الكتاب (تعالَ ولا تأت. ورد في زقاق دمشقي خلف النوفرة. انقطع زر في وسط القميص. مشكاة تُهوّم في التفاصيل. وإذ تخرج يكرهها الباب. ظل العشيّة) يلاحظ فيها الاِنْزياحات اللفظيّة المُفضية إلى فضاءات من الدّلالات والتأويلات.
وفي تتبُّع لبعض الجُمل المفتاحيّة، التي تتشبّث بالقارئ ولا تتركه يفلت منها، وتأخذ بلبّه للتوقّف والتأمّل:
*(أعطيتُهم رغيف خبز نَحَتَهُ رجلٌ في زواريب المخيّم) ص١٥.
*(نَجُزُّ شعرَ الغيم، ونُهديه للخارجين من فجأة الأمل) ص٢٣.
*(كأنّ الياسمين يُمازح العنبرَ، يُناكفه، يُنافسه عليّ)ص٣٧.
*(هل التفّاحة المُتهوّرة، التفاحّة التي تفاحأت حين قطفوها) ص47.
*(تعالوا اُصْغوا: فثمّة ما يُحشرِجُ الشّرشف وثوبي الداخلي. تعالوا؛ فما زلتُ أرتوي بالصُّور، وبعض قصائد تشغل هذا المكان المُقفِر) ص٤٧.
*(أوقدُ لكِ من الدمع شمعة، فقد جئتُ من عشق مُدجّجٍ بالهزيمة) ص٦١.
*(النّهايات: لا علامات ترقيم، نُقاطٌ، صمتٌ يطعن الكلام) ص٧٦.
*(يانعًا كأبجديّة اللّغة، كأغنية الحصاد، كسنبلة تُعانق الرّيح) ص١٠٠.
*(يهجم الموج، ويعلو، موجة تنادي الأخرى، والبحر يفتح فمَه ولا يشبع من موتنا) ص١٠٥.
*(بكاؤهم صار أعلى من الموج، بكوا نيابة عنّا جميعًا) ص١٠٦.
وفي الختام، فإنّ مجموعة سرديّات “زرّ وسط القميص” تعالج قضايا الإنسان الباحث عن بقاياه على حوافّ الوطن السليب، ومُعالجة مُخرجات التشريد واللّجوء، وضياع الذّكريات، والعيش على دروب الأحلام بالعودة التي لم تأت للآن؛ لتنبت شقائق حياة جديدة في المخيّم، ومواجهة التحديّات، والتشبُّث من أجل البقاء، ولا تزال العيون تتطلع إلى هُناك إلى وراء النهر بعد كلّ هذه السنين، والقلوب تهفو بحنينها، وأشواقها إلى من تبقّى هناك من الأهل في ظُروف حياتيّة قاسية.
ووسيلة الكاتب كانت في الصّمت، والتأمّل للبحث عن الذّات والوطن في ثنايا الأمكنة من مُخيّم إربد إلى دمشق إلى بيروت، على وقع الأحلام المُتأجّجة بنار الأشواق نحو الوطن داخل الأنا المفقودة، واستحضار الأبّ، ونداء الجد والجدّة، وتبقى يد الأم تُهدهد الآلام، والأحلام على صدرها مَبعَث الأمان والاِطْمئنان. صراعات الحياة بتدافعاتها تنثّ بالأمل المُنبثِق من بين الرّكام، وما زالت العيون تتعلّق بالشّمعة النّائسة في نهاية النَّفق. ويبقى الأمل سيّد الموقف باِنْتظار المستقبل المُشرق.

السبت 6/ 4/ 2025


الأديب. صالح حمدوني

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!