في محطة الركاب ( المجمع ) أنتظر الحافلة التي سوف تقلني الى الجنوب ، مزاج تشرين في الاردن مختلف هو كالمرأة الهوائية ،كرجل طاعن في السن كثير المرض و الشكوى تشرق فيه الشمس بكسل وتغيب بكسل ،وحين تتجاوز الساعة الثانية بعد الظهر يبدو نهار تشرين مهرولاً لغيابٍ كسول ، لن يساعدني شيء على تجاوز فترة الانتظار سوى فنجان قهوة من يد ذاك العجوز في طرف المجمع مع بعض سجائر أحرق معها الوقت ،حتى تمتلئ الحافلة ليعلن حينها الرجل الذي ينظّم الحركه ( آخر راكب … آخر راكب )
و من بعيد تُقبل امرأةً في الاربعين من العمر تقطع المجمع من منتصفه ، تسيرُ بخطواتٍ تبدو عليها اللهفة ، هي لا تنظر الى الحافلات وسيارات الأجرة الرابضة في المجمع،كما أنّها لا تكترثُ لخمول الحركة التي تصيب مجمع الجنوب في وسط الأسبوع ..ما قصتها.. ؟ لعلها تبحث عن شيءٍ ..أيعقل أنّها تنتظر عزيزاً قادماً من الجنوب ..؟ أيعقل أنّها تريد السفر للجنوب ..؟ كيف وهي لا تلقِ بالاً للحافلات والسيارات التي يعرفها مسافروها ..؟ كلها أسئلة تدور في عقلي باحثةً عن إجابات … تقترب المرأة أكثر ، نعم أنّها أربعينة ترتديها العفة والحشمة توحئ حركاتها ملامح بشرتها البيضاء وعيناها الخضراوتان بذلك ..ترتدي حجاباً أبيض وجلباباً داكن اللون خريفي القماش ..تمسك بيد هاتفها متحدثة فيه ، وتمسك الاخرى لفحةً صوفيةً سوداء ..كانت بعيده القدر الذي لا استطيع تمييز ما تتكلم به مع الطرف الاخر ..نعم هناك طرف آخر ..لكن أين هو .. لا أريد أن تضيع مني أي فرصةٍ تفقدني أية حلقةٍ من هذا المشهد ، الذي بات يغريني أكثر ..لا أرى شيئاً …أعاودُ النظر إليها بسرعة ..تبتسمُ إبتسامةً خفيفةً تكاد لا ترى وتنهي المكالمة نعم آخر كلمة استطعت أن أعرفها رغم أني لم أسمعها لكني تأكدت انها قالت .. رأيتك اوك .. لكن أين هو ..ااااه نعم هو عرفتة من الابتسامةِ التي ما زال باقيها يعلو سمرته الجنوبية ..ايضا هو أربعيني العمر جنوبي الملامح أنا أعرف كيف نتصف أبناء الجنوب حين نذهب للعاصمة ..نحن كمن يمسك العصا من المنتصف نحاول ان نحافظ على تلك الملامح التي خلّفتها الجنوب فينا ونحرص على ان نرتدي أجمل اللباس ونعتني بأناقتنا كمن لا يحب النقد في مظهره ..بقي مسمراً في مكانه، وتقدمت هي نحوه بخطى تخطف الأرض خطفاً ..كانت كمن يريد الارتماء بين ذراعيه .. متلهفةً جداً للقائه ..هو ايضا فرح بها حتى أن ملامح وجهه صارت أكثر إشراقاً ..لم يشعر أيّ منهما بمراقبتي لهذا اللقاء الجميل ..أقتربت منه اكثر وحين وصلته جمدتها عفتها وحشمتها مسافة كافية عنه ..لم تمد يدها لتصافحه ..واكتفى هو بابتسامة رافقها بعض الكلمات ، لعله كان يقول لها : مجنونة ؟ ما الذي أتى بك إلى هنا ؟..كان يبدو عليها أنّها انهت عملها وجاءته مودعةً ..هي لم تتكلم كثيرا لكنها بإشارة من يدها لأحد الاتجاهات سارا معاً ، وبقيا محافظين على مسافةِ عفةٍ كافيةٍ ، تلاشت بين روحيهما ..غابا بين الحافلات ، تتبعتهما بنظراتي ، فلم أجدهما .. ما هي إلا لحظات حتى عاد وحيداً يحمل بيده لفحة العنق الصوفية السوداء ..وقف هناك في طرف المجمع ، يشتمُ رائحتها ، ثم وضعها حول عنقه ونظر خلفه واخرج الهاتف وبدأ يتكلم معها نعم معها عرفت من نفس الإبتسامة التي علت وجهه ..اعتقد انها كانت في الطرف البعيد الاخر من المجمع …( آخر راكب .. آخر راكب ) تبا له إنه منظّم الحافلات ينذر بأن مراسم السفر قد بدأت …صعدت الحافلة وفي خاطري يجول كلام كثير ليتني قلت لهم ..أهنئكما ، كم أنتما رائعينِ ..ليتهما يعرفان أني سأكتب قصتهما وكأني أعيشها ..ليتني أقول لهما ما أجمل الصدفة التي جمعتهما ، إنها أجمل من كل المواعيد الرومانسية لمساءٍ ماطرٍ .. غداً سأشتري لفحة عنقٍ صوفيةً سوداء تذكرني بجمال لقائهما