ماكنت أدرك دور اللغة وأهميتها في حياة الإنسان عندما نطقتُ ب”ماما” “بابا”، وماكنت أعرف بأن هناك عالم لغوي يحتفي بأكثر من (40) مليون مفردة، منها مفردة”سلام” التي اكتسبتها-حينذاك-عن طريق المحاكاة والتقليد. فكانت أمي تحثني بأن أُسلم على كل من يدخل بيتنا، وتصطحبني معها في الأعياد والمناسبات لزيارة الأقارب والسلام عليهم. وكان أبي يحملني معه إلى بيوت العبادة..ومع كل يوم جمعة نذهب إلى المقبرة لنلقي السلام على قبر جدي الذي مات في العهد النامسي.
أشياء كثيرة..جعلت ذاكرتي الطفولية تختزن هذه المفردة حد الحب العظيم، ليس لأنني-في تلك المرحلة- كنت أحب”الحمام” وهديلها الذي يشبه صوتي تماماً، بل كانت هذه المفردة-مع رفع الأيدي في الهواء- سبيل النجاة من العقاب: عقاب الوالدين، وعكاز جدتي”سلامة” عندما كنت أسرق عليها الحلوى من الصندوق، وألوذ مختبئاً ..ثم أعود إليها بعد ذلك باسطاً اجنحة السِّلم، لتكافئني بما تبقى من حلوى في الصندوق كجائزةٍ للاعتذار والاعتراف والمسالمة.
نَمِتْ عظامي وتطورت مداركي العقلية..وصرت شاباً يافعاً، ومفردة “سلام” ملازمة لحياتي، حتى عندما أكون طريح الفراش مريضاً، فتنهال عليّ هدايا الأصدقاء متبوعة بكلمة “سَلامات”، وليس ذلك فحسب بل كانت هذه المفردة جسر العبور الأول لإحتلال قلب ابنة الجيران، وعلامة الرضاء بين العاشقين، وانقطاعها دليل الخصام، كماأن الراية البيضاء رمز السلام والخداع أيضاً، لتجد هواة السيرة البيضاء أشد الناس حرصاً عليها، بخلاف من يتخلى عنها بعد أن يتسلم أزِمَّة الحكم.
لكن مايثير غريزتي التأملية أن العسل الأسود من شجر “السَّلم”، وأن “السَّلاليم” تساعدنا على النزول والهبوط وعليها يحدث الصعود والارتقاء إلى الأشياء، إلّا أن أصابعي العشر ليست متساوية في مابينها، بل مختلفة عن كل أصابع هذا العالم-ولذا شرعت البصمة نظاماً-مع أن كل عظام الأصابع تسمى قاموسياً”سُّلامَيات”بفتح الميم واحدها(سُلامي) والجمع أيضاً.
تنبهت إلى هذا.. عندما خدعني أحد “النصَّابين” بواسطة سلام ومعرفة مباشرة وبدون سابق إنذار ، لأكون بين الحيطة والحذر من هذه المفردة، متطلعاً إلى ماهو أبعد من ذلك، خاصة عندما يقدم رعاة الحروب جوائز السلام، وعندما خرجت إلى الشارع فرأيت خيمتين: احدهما تهتف بثورة سلمية، والأخرى تعارضها، فاختلفا الاثنان في شعبٍ واحد، له رباً واحد من اسماءه السلام، ينادي:”ادخلوا في السِّلم كافة”.
عند هذا القدر الضئيل..ولكي أبدو مثقفاً من طراز رجال الاطفال وحفّار القبور في الجانب الآخر، بدأت اتساءل: هل الفيلم الذي منح عادل إمام شهرة الزعيم: (سلام ياصاحبي) أم (التجربة الدنمركية)؟ وهل يهزم نابليون الجنرال كوتسوف في رواية (الحرب والسلام)، أم أنه توصيف حرفي لملحمة تاريخية حدثت مسبقاً، أم هو مجرد عمل روائي. وهل يستطيع من يدعو إلى السلام أن يلغي مفردة (حرب) من معجم الواقع!؟ اعتقد لا ونعم خلف الكواليس، ولك ماتعتقد من تشويشات الأوهام ونزعة العواطف المؤقتة ومواعيد النجوم والأبراج، مع جواز التحليل في عصور البراغماتية السياسية والتدليس الإعلامي الصرف، وهَلُمَّ شرا. فقط أننا نعمل على المبدأ التفاؤلي: عندما ندعو اللديغ ب(السَّليم) تفاؤلاً له بالسلامة أو أنه أُسلم لما به، اشتغالاً على وزن يأس- أمل، مع أن كل معادلة طرفيها بين الموجب والسالب تكون النتيجة سالبة دوماً في كل المعادلات الحسابية..،ونادراً ماتتسم المعادلة الزوجية بالإيجابية في مطلع العمر لتفتك بها الشيخوخة المبكرة بعد الإنجاب، ومثل صورة المرشح قبل الانتخابات وبعدها. ولكننا نعتمل على تلك المحاور والأحداثيات ..من أجل نكون أولانكون..إنه صراع البقاء من عدميته.
*سليم المسجد..