تكبر الحياة في عينيها ؛ وتتسلل إلى مكتبته من شرفة الصباح الأنيقة ؛تأخذ مجلسها
على الكرسي الأثير لديه ؛ وتضع نظارته الصغيرة على محجريها ؛ وتفتح أول
كتاب على المكتب ؛ كتاب (المعنى وصناعة الخطاب ) ؛ لم تركز على المؤلف ؛
ولكنها ارتأت أن تقرأ المقدمة ؛ تتبع الخطوط التي كان يضعها تحت الكلمات
المفاتيح ؛ أو الفقرات التي تشكل لديه زبدة الكتاب. تأملت الفقرات ؛ وركزت
نظرها على المقدمة ؛قبل أن تجد نفسها مأخوذة بالقراءة داخل صفحات الكتاب.
أدركت أن للكتب جاذبية وسحرا أقوى من التأنيث ؛ أدارت دفة الكتاب لتتأكد من
هوية المؤلف ؛ فقد شعرت أن النص قديكون منفوثا من سحر امرأة خبرت الكتابة
والحياة ؛وجدت أن المؤلف رجل ؛ تعجبت حتى الذكور لهم سحر يغالب سحر
الإناث في التأثير والجاذبية .
غالبت شعورها بالقاومة ؛وانكبت على الكتاب مجددا ؛فإذا بها تجد فكرة مثيرة ؛
طالما كانت تسمعه يردد ما يشبهها أو يلامس جوهرها ؛ فحواها أن المعنى ربيع
الحياة ؛فقد يزهر فينا كما يزهر الربيع في الطبيعة ؛فيأكل الطير والنحل ؛ والبهم ؛
وخشاش الأرض منه ؛ وتفرح به العين ؛ وينبسط له الوجدان ؛ وترقص له
محافل الأرض..
وقد ييبس ؛ ويسف ؛ ويتلاشى ؛ وتذروه الرياح ؛ ويتناثر في الأقاصي ؛ وتدوسه
الأقدام والحوافر؛ ويندغم بين الأتربة ؛ فتختلط أمشاجه بما تهاوى في القيعان ؛
فينحط ؛وتعافه الحشرات ؛ ولا تحفل به الزوابع ؛ولا التوابع .
توقفت لبرهة ؛ عدلت من استوائها على الكرسي الأثير ؛بعدما شعرت أنها سافرت
في التأمل ؛ وسرح فكرها في مراتع المعنى ؛ فتنفست عميقا ؛ والتقطت كأسا
وصبت من قنينة له كانت فوق المكتب ؛فبلت حلقها ؛بعدما أحست بجفاف يزحف
على ريقها .
– ياه ؛ إلى هذا الحد تنشف الأفكار حلق الخلق ؛قالت .
وعادت إلى المعنى والربيع ؛متسائلة أي جامع بينهما ؟ أي تفاوض قد يكون اجراه
في ذهنه بينهما ؛وهو يقرأ كتابه هذا ؟ هل جف حلقه مثلي حين انساب يقرأ؟
– لا يظهر عليه ذلك ؛ نادرا ما يشرب الماء ؛ القنينة مازالت مختومة ؛ أنا أول
من فتق حزامها ؛ تعجبت .
بدا لها أن تدون ما وضع تحته خطوطا في الكتاب في ورقة كانت على المكتب ؛
وستفتح نقاشها معه حين يتحلقان في جلسة الشاي الأثيرة لديه ؛وهي تصنع كاسات
الشاي على مهل ؛ وعلى نار هادئة ؛ حين تجره إلى كلام أثير لديه عن المعنى
ما إليه.
– سيصرفني المعنى وربيعه عن انشغالاتي اليومية ؛قالت متداركة صباحها الجميل؛
فقامت فزعة تلاحق وقتها إلى المطبخ لتطبخ أفكارها حتى تستوي ؛ فكل مطبخ
أعد أصلا للمعنى والمعدة على حد سواء. حتى الربيع لا ينفك أن يكون خارجا
من مطابخنا أيضا ..
 آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية