كانت قد بدأت بسماع الأصوات حينها، أو أن الأمر قد حدث فيما بعد؟
إنني لا أتذكر الأمور كما يجب، بعض اللحظات الساطعة من هنا أو هناك. جاءت إلى الفصل ذات مرة معتمرة قبعة صوفية كبيرة، وطلبت منها أن تنزعها أثناء الدرس.
- هل أنت واثق من ذلك؟
إنني أحكي الحكاية لشخص مخبول، وهو عدا ذلك يظن أنني أغشه. قلت له في البداية أن الأمر لا يهمني، تكون ابنته قد تلقت كلمات في أذنها، ثم يأتي إلى المدرسة غاضبا، ويظن لسبب ما أننا مخطئون. شرحت له أنني لا أعرف شيئا، أدرس الفتاة فقط بعض المؤلفات والقصص ثم أذهب إلى منزلي، وحينها لمعت عيناه.
- أي نوع من القصص؟
- القصص التي قررتها الحكومة.
إن إقحام الحكومة في الحوار أمر مسل، وكذلك رؤيته وهو ينكمش بعدها. حطت ذبابة على شاربه ثم طارت بيننا.
- إنني أفقد ابنتي.
وهذا كلام مؤسف ولا شك، أما ابنته فقد جاءت بالغد واعتمرت نفس القبعة. كان التلاميذ ينظرون إلي ويتثاءبون بسبب الذباب والصيف. قلت لها بحدة: انزعي القبعة، فنزعتها بسهولة وحينها رأيت أذنيها. قال لي تلميذ نجيب: يمكن القول أن البطل كان أعمى. كانت تضع كريات من القطن في أذنها اليمنى وتحاول تغطيتها بيدها وهي تبتسم دون سبب.
- لماذا أعمى؟
- لقد كان فقط يسير.
كنت أعرف أنه لا يملك الكلمات المناسبة، ولكنه يفهم، وقلت لنفسي إن جميع من بالفصل يفهمون. قال لي والد الفتاة: أصوات مطر وهمي، وضجيج سيارات، وأحيانا يطلبون منها أن تشرب الماء أو ترقص على رجل واحدة. وقفت أمامها فجأة ووضعت أصبعي على طاولتها.
- وأنت ماذا كتبت؟
- لقد كان ذلك قدره فقط.
إنها لا تضع أية أوراق على الطاولة، وهي إذن لم تكتب شيئا. نظرت إلى يديها واحمر وجهها خجلا.
- هل كان قدره أعمى؟
- إنني أعتذر.
تطن ذبابة بجانب أذنها اليمنى فتدفعها بعنف. يشرح لي تلميذ من آخر الصف: كان البطل أعمى تماما، ولذلك فقد تبع قدره. وهذه كلمات كبيرة وتخريف تقريبا. أستدير وأتجه إلى السبورة ثم أعتلي المصطبة، وأفكر بأنني سلطوي ولكن الكتاب ليس عن العمى أو غيره. أنظر إلى الساحة من الباب الموارب ثم إليهم، وأعيد عليهم الحكاية منذ البداية: كان البطل يريد الانتقام، لكن الأمور سارت على نحو خاطئ.
إن هذا أفضل تبسيط ممكن، وهو يبدو كتفسير قد يقنع به والد الفتاة، سارت الأمور على نحو خاطئ، أما آثار الضرب على جسدها كل حين فلا شأن لنا بها. ألتفت إليها ولكنها تشيح بوجهها نحو الجدار. ينتابني دوار وأفهم أنها تسمع أصواتا.
- إذن فقد كان لكل منهما خططه، هو والقدر أيضا، ولكن البطل لم ينتصر ولم يهزم، لقد حول نفسه إلى صف العدو.
يهز تلميذ رأسه ويدون شيئا ما على دفتره. أهمس لنفسي: أتمنى أنه لا يأخذ ما أقوله على محمل الجد، وحينها أبدأ بالكتابة على السبورة. إن هذه الأشياء قد حفظتها عن ظهر قلب تقريبا، عشر سنوات من البطل وقدره، وقال لي الأب من تحت شاربه: ذات مرة قالت لأمها أنهم مجموعة من الأصوات، وأنهم يشتمونها باللغة العربية التي نقرأها في الكتب. تعلو همهمات من الصف ولكنني أواصل الكتابة: ليس منتصرا ولا مهزوما، وحينها أتبين أنها تناديني وأستدير ببطء نحوها. ترفع أصبعا وتشير إلى أذنها اليمنى ثم تقف محدقة بي بجدية.
- إنني نبية.